في تلك الليلة حالما عاد “ميفان” من لقائه مع الأستاذ محبطاً متآكلاً، سأل أمه عن مفتاح غرفة الخرداوات تحت الدرج، تذكر بأن أخاه “شيران حاجو” كان يطلب إليه قبل سنوات أن يذهب لبخّ رقم هاتفه المحمول على الجدران كدعاية لعمله في حفر الآبار. كان يبخّ جملة واحدة على كل الجدران: (حفر آبار) ثم الرقم. تذكّر بأنه كان قد اشترى صندوقاً فيه دزينة من البخاخات الملونة قبل أن يقرر العمل في مدينة “حمص”. بالفعل كان صندوق البخاخات ينتظر “ميفان” في زاوية غرفة الخرداوات، كأنه يناديه ليخلّصه من حالة الجمود القاتل التي يعيشها. كان حلاً سحرياً صندوق البخاخات ذاك، ذلك أن السلطات حظرت بيع البخاخات بعد أن راحت الشعارات المعارضة تملأ جدران المناطق المشتعلة، في “الحجر الأسود” كما في معظم المناطق المحيطة. ثمة وظيفة جديدة راح يعاني منها رجال الأمن، تتمثل في محو الشعارات التي تتخم الجدران. كانت سياراتهم تدور كل ليلة لمحو ما كُتب، يدورون في كل حارة، يبحلقون في الأسوار المتفرقة. في البداية كانوا يدهنون الجمل بالطلاء الأبيض. يحملون سطول الطلاء في سيارات الجيب ومعها الفراشي. ثم لم يعد هناك متسع من الوقت والهمّة للطلاء، فصاروا يبخّون فوق الجمل بالأسود ليطمسوا معالم الكلمات. شعار فوق شعار، جملة فوق جملة، أتخمت جدران المنطقة بالمساحات السوداء، وتحوّلت إلى بقع سوداء عملاقة.
“ميفان” يراقبهم كل ليلة من شباك المطبخ. يطفئ الضوء ويسدل الستارة ثم يراقبهم من شقّ صغير في القماش. يأتون بعد منتصف الليل ليقوموا بمحو الأصوات المكتوبة حوالي الساعة الثانية فجراً من كل ليلة. هذا يعني أن كتابة الشعارات بعد هذا الوقت قبل الشفق بقليل، حيث العتمة أعتى من أي وقت آخر في الليل، ستجعل ما يُخطّ على الجدران ينتظر الغادين صباحاً إلى أعمالهم أو مدارسهم. كأنك تصرخ بدون صوت بما تريد قوله، ويسمعه الجميع، أو يُجبر الجميع على سماعه! هذا بالضبط ما أغوى “ميفان حاجو” في الفكرة كلها، اقشعر جسده بالكامل كأنه في لحظة نشوة. كانت الفكرة التي يبحث عنها منذ زمن دون أن يدري. سيستطيع أن يؤلف الروايات بدل أن يقرأها. لن يكون الأمر بحاجة إلى إكمال التعليم، ستكون الجدران، لا صفحات الكتب، ميدانه. المعرفة هنا لم تعد حكراً على الكتب، صارت معروضة في الشارع ومتاحة للجميع. هذا ما قرره “ميفان” واقشعر جسده من جديد:
أن يكتب ما يريد من الآخرين قراءته، والحيطان صفحاته البيضاء التي تنتظره بفارغ الصبر. لا انقطاع التيار الكهربائي ولا الحصار سيعيق إيصال الكلمات للناس، إنها أمام أعينهم مسفوحة على الجدران!
في بيت “شيران” لاقى اليوم صباحاً أحد أصدقاء أخيه المقرّبين، يطلقون عليه “أبو علي الفهد”، كان فيما مضى شديد الفقر يعمل سائق سيرفيس على خط “الحجر الأسود- البرامكة”. قيل بأنه قدِم من ريف “حلب” قبل سنوات طويلة، هارباً من جريمة قتل ارتكبها على تخوم قريته. في “الحجر الأسود” ألفى مكاناً مكتظّاً رحباً مليئاً بالمفاجآت، كان أولها عجوز نازح من “الجولان” زوّجه ابنته العانس وأعطاه سيرفيساً قديماً، كان كل ما يمكله، ليعمل عليه في ورديات ليلية. بعد ذلك قرر “أبو علي الفهد” أن يستقرّ في جنته الطارئة: “الحجر الأسود”. لكن زوجته التي تشبه خنزيراً أسود، حسب تشبيهه الدائم لها، جعلته يقضي نهاره في ملاحقة النساء الدمشقيات أينما كنّ. كان لديه صاحبة حبيبة في كل منطقة من ريف “دمشق”، ويحاول جاهداً أن يحصل على صاحبة من أهل المدينة الأوائل: أينما تريد لدي واحدة. كل امرأة من مكان لديها نكهة خاصة لا تتواجد في الأخرى. نساء المعضمية مثلاً لا يشبهن نساء داريا. وصاحبتي في جرمانا لا تشبه تلك التي أواعدها من ركن الدين”. ويقهقه “الفهد” كازّاً بأسنانه على مبسم نبريش الأركيلة.
حينما يسأله “ميفان” عن السبب الذي يحدو بكل أولئك النسوة لإقامة العلاقات معه، كان يجيبه بصوت فخور: “الفحولة… الرجولة. الرجال يظنّون إنهم بالمال يكسبون النساء! مخطئون، الفحولة هي السبب. تستطيع امتلاك قلب أصعب امرأة إن كنت فحلاً… عقل المرأة بين فخذيها”.
ويقهقه بصوت أعلى فيشاركه “شيران”، شقيق “ميفان” الذي لبث يستمع إلى حوارهما، الضحك. فيما لا يستطيع “ميفان” أن يعثر على أي سبب للضحكهما الهيستيري.
لكن “أبو علي الفهد” لم يعد فقيراً كما كان. في بدايات 2012 كانت النقود تفيض بين يديه! وتزيد يوماً بعد يوم! لكن “ميفان” لطالما شعر بالخوف منه، جسده الضخم، صوته الغليظ، ومشيته التي تشبه مشية مصارع غاضب. لا يجرؤ أحد على الكلام معه. مرة ضرب رأس رجل بالجدار كاد يقتله. يستطيع حمل رجل بيد واحدة. كان “أبو علي الفهد” من أكثر زعران “الحجر الأسود” شهرة، واليوم هو من أكثر زعماء الكتائب المسلّحة شهرة.
- القتال بقلوب سباع لا تخاف الموت لأمثالنا. هؤلاء المخنثون لن يستطيعوا حمل السلاح. سيظلون هكذا كالحريم يندبون مصيرهم!!
صاح “أبو علي الفهد” إثر “ميفان” الذي ترك الجلسة فجأة.
قبل شهور قليلة مات أهله جميعاً في قذيفة نزلت على بيتهم في ريف “حلب”. رحلت العائلة بأكملها، ولم يتبق إلا أخوه الصغير الذي كان في وضع نفسي غير متوازن. قال لـ”شيران” إن من يلتحق بهم في الجيش الحر، ويدافع عن بلده وشرف أهله من السوريين، هو وحده من يستحق صفة رجل، وغير ذلك هو أشبه بعالة يستحسن أن تنقبر في البيت.
- إنها الطريقة الوحيدة التي أمامنا، أعداء الله أولئك لن يذهبوا إلا بالدم، ونحن لها.
لكن “ميفان” كانت لديه طريقته الخاصة في الثورة.
- وما هي طريقتك يا فهيم؟
سأله “الفهد” متهكماً. “ميفان” ظل صامتاً، لن يبوح لأحد بسره. لكن “الفهد” استمرّ في محاولاته لجرّ “ميفان” إليهم، أخبره عن عملية نوعية سيقومون اليوم بها، سيغيرون على بيت أحد الأثرياء المتعاملين مع النظام في المنطقة، ويستخدمون غنائمهم في حربهم ضد النظام، وطلب من “ميفان” أن يبدأ مشواره معهم بهذه العملية.
- جسمك صغير وخفيف، تستطيع أن تساعدنا بالكثير.
صاح “الفهد” لكن “ميفان”، أيضاً، لم يستجب!
…
في الليلة الأولى أحسّ “ميفان حاجو” بأنه عارٍ تماماً أمام الليل وعناصر النظام، أمام الخوف وقلة المعرفة. خرج بعد الساعة الرابعة صباحاً، حمل أحد البخاخات داخل جاكيته، لفّ رأسه بكفية بيضاء مرقّطة بالأحمر، كانت كفية المرحوم والده وقد فكّر بأنها ستهبه الحظ الطيب ربما. أول جدار لاقاه في وجهه كان جدار المدرسة الابتدائية القريبة. ثمة مساحة لا بأس بها يستطيع أن يكتب عليها ما يريد. أخرج البخاخ وهمّ بالكتابة، لكنه للحظات، لدهشته، لم يعرف ماذا يكتب! تلفّت حوله، كان الشارع خاوياً إلا من الصقيع والكلاب الشاردة! صوت الأذان راح يصدح بصلاة الفجر. فكّر بكل شيء، بوقت الخروج، بثيابه، بالأمان، بتكتيك حركته، بكل شيء إلا بالجمل التي سيكتبها! لكنه، وبحركات سريعة، قرر كتابة أول ما خطر بباله:
“حرية… حرية”.
تلكّأ البخاخ قليلاً، فخرجت الأحرف سوداء مجعّدة على السور المطروش بالأبيض. ركض إلى الأمام حيث مجموعة من المحلات التجارية المغلقة، الغلق المعدني الخالي من اللون أغراه بالبخ فكتب، هذه المرة بحروف أقل تجعيداً:
“عاشت سوريا حرة”، ثم أكمل إلى الأمام مهرولاً.
“عاشت سوريا ويسقط بشار الأسد”، على السور الطويل الذي يحيط بخزان الماء.
صار البخاخ أكثر سلاسة في يد “ميفان”، طاوعه أخيراً بدون تجعيدات. صارت الكلمات تنساب سوداء على الجدران والأسوار وغلق المحلات، على الأبواب والشاخصات واللافتات، حتى على الأرصفة وإسفلت الطرقات. كل مساحة مسطحة كان من الممكن أن تكون صفحة بيضاء تنادي بخاخ “ميفان” أن سطّر حروفك عليّ.
قبل أن يشقّ الضوء بدقائق كتب ميفان: “لن نركع”، وعاد مهرولاً إلى البيت.
في الصباح وهو في طريقه إلى فرن الخبز كانت سيارات الأمن تصطف على جانب الطريق، يمحو عناصرها بانفعال ما كتبه بخاخه الأسود في أرجاء الحارة. أنظار الناس أيضاً كانت تقف لثوان كي تقرأ ما هو مكتوب.
لقد وصلت الرسالة. شعر “ميفان” بهواء عليل مشبع بالفرح يلج جسده بعزم. كان يبتسم رغماً عنه. أحسّ بأن ثمة معنى جديداً لكل ما سيأتي لم يكن له وجود في روحه سابقاً.
في الفجر الثاني تلفّح “ميفان” بكفيته من جديد وخرج ليكتب. كان قد قرر ما عليه أن يكتب:
“طال الزمن أم قصر، الشعب سوف ينتصر”.
قرأها في إحدى صفحات التنسيقيات على الفيسبوك. قرر أن يعيد كتابتها بقلمه، ستصبح من إبداعه حينما يضعها على الجدران ويقرؤها الناس هنا.
“القذافي طار طار ضبّ غراضك يا بشار”.
مع الزمن صارت الجدران البيضاء تلهمه بكتابات أخرى، بشعارات مغايرة تختلقها روحه بلحظتها، كأنه وحي ينزل عليه بعد الساعة الرابعة فجراً وينتهي بشروق الشمس.
لكن المغامرات الليلية تلك لم تكن تنتهي دوماً بسلاسة. لاقته دوريات الأمن أكثر من مرة، في إحدى المرات اقتربت رصاصات عناصرها كثيراً منه حتى أصابوه في ساقه، شحفتها الرصاصة، لسعته بحرقة مؤلمة. لكنه قفز إلى سور بيت مهجور وغاب في العتمة. اشتم رائحة عرق العنصر الذي رماه بالرصاص، سكنت أنفه، وجعلته يتحوّل من شاب مولع بالكتابات إلى رجل بخاخ بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. ذلك الجرح، الذي أحدثته الرصاصة المارقة على ساقه، ترك ندبة لن تمحى في جسده، كما في روحه. عند الفجر عاد مسرعاً وهو يحجل إلى البيت. ضمّد الجرح سريعاً لئلا تراه أمه، واندسّ في السرير. كان عليه أن يتغيّب في الليلة التالية بسبب ساقه المتورمة، وذاك الألم الممضّ الحارق فيها. ليلة واحدة هي، وعاد الرجل البخّاخ إلى بخّاخه من جديد.
بعد أسابيع قليلة راح يخطّ تحت الشعارات التي يكتبها: “رمح”، اسم يميّزه، يعطيه تعريفاً موحداً لكل ما يكتبه. اسم جمعه من لملمة حروف جملة: “ثائر من أجل الحرية”.
مع مرور الشهور صار “رمح” الشغل الشاغل لحيّ “الحجر الأسود”. ليس الحي وحده بل كل المناطق المجاورة: مخيم اليرموك، القدم، والعسالي.. وراحت صفحات الفيسبوك تضع شعارات الرجل البخاخ “رمح”، والمناطق الأخرى تستقي من تلك الأسطورة التي اسمها “رمح” قصصاً متعددة متشابهة.
“فقط في سوريا يتمنى المعتقل الموت”
جملة كتبها بالبخّاخ الأحمر على جدار المقبرة، أبكت الكثير من الأمهات الغاديات صباحاً إلى سوق الخضار، تذكّرن أبناءهن المعتقلين، أولئك الذين لم يغيبوا عن ذواكرهن يوماً، وفكّرن وهنّ يمسحن عيونهن، للمرة الألف ربما، كيف سيكون حال أبنائهن في عتمة المعتقلات الآن، وهل سيقدّر الله لهنّ أن يكحّلن عيونهن بمرأى الأحباب؟!
في الأيام التي سبقت الدعوة لإضراب الكرامة ملأ “رمح” جدران الحي وزواياه:
“إضراب حتى النصر”.
كان أصدقاء “ميفان” يحدثونه عن ذلك المدعو “رمح”، يخترعون القصص ويؤلفون الأخبار. يهمس له واحد بأنه رآه البارحة. يسرّ له آخر بأنه كان صديقه المقرّب فيما مضى ولكن السنين الغدارة فرّقتهما. كان “ميفان” يهزّ رأسه ببلادة، ويحلم بالساعة الرابعة فجراً وبملمس البخّاخ الأملس المعدني بين أصابعه.
” البلد يحكمها ولد”
“بالفيتو أو بدون الفيتو… بشار الأسد خلص زيتو”.
منذ أن قرر “ميفان” ما قرره لم ينبلج فجر بدون أن يخرج للكتابة. مرّت حملات الاعتقال، دوريات الأمن، ليالي قصف المدفعيات، تشييعات، مظاهرات، أيام انقطاع التيار الكهربائي، حصار الجيش الأخير للحي، ولم يتغيب رغم كل ذلك إلا ثلاثة أيام: اليوم الأول حينما أصيبت ساقه، واليوم الثاني كان حينما وصله نبأ “أبو الليث” صديق أخيه “شيران”:
كان “أبو الليث” قد اختفى في ليلة ما. زوجته وأطفاله، الذين أرسلهم إلى أقارب زوجته في لبنان، راحوا يتصلون به مراراً دون أن يصلهم أي رد. أخوه “أبو ليلى”، الذي كان قد انتقل للعيش في حي “الإنشاءات” في بيت والد زوجته بعد دمار بيته، استطاع الوصول إلى حي “دير بعلبة” عابراً مدينة “حمص”. نجا بأعجوبة من رصاصة قناص أزّت بجانب أذنه وهو يركض ملتوياً بين الأزقة الهامدة. اتصل بشقيق زوجته “مصعب محمود” ليأتيه مسرعاً، فتسلل الأخير تحت جنح الليل محتضناً رشاشه ليقبع حتى الصباح إلى جانب صهر لم تغمض له عين. كانت الوساوس تتناهشه بوحوش جائعة: هل يكون “أبو الليث” قد اختطف؟! أم ذهب مع الثوار؟! هل يكون رجال النظام قد نجحوا باعتقاله بطريقة ما؟! أم هو في مهمة سرية لا غير؟!
عند شقّ الفجر خرج الرجال للبحث، “مصعب” مايزال يتشبث برشاشه و”أبو ليلى” استلّ بندقية أخيه، وعبر البساتين القريبة انطلقوا.
هناك على التخوم سحابة من الدخان القاتم ما تزال تتصاعد من غرفة متطرفة كانت فيما مضى مستودعاً لأدوات الزراعة. إلى الغرفة العابقة برائحة لحم محروق وهباب دخل “أبو ليلى” ومعه “مصعب” وشابين من شباب “دير بعلبة”. شيء ما جذبهم ليدخلوا تلك الغرفة المحايدة المتضبّبة.
سبع جثث متفحّمة ملقاة على الأرض والدخان يتصاعد منها.
لسبب ما تقدّم “أبو ليلى” يحاول تقليبها، وهو مايزال يغلق أنفه وفمه بظاهر ساعده. لم يتبين أي ملمح من ملامح البشر الذين كانوا قبل الحرق، كانت أيديهم موثوقة إلى الخلف، ويبدون هامدين كأنهم ماتوا قبل الحرق. الجثة الثالثة بدون معالم كذلك، لكن التفاتة سريعة حانت منه استطاع أن يلتقط فيها ساعة فضية اللون في معصم الجثة الأسود. ساعة تشبه ساعة “أبو الليث”!!… لا، إنها ساعة “أبو الليث”، يعرفها جيداً فهو من انتقاها قبل سنتين من محلّ صغير في السوق الطويل وأهداها لـ”أبو الليث” في عيد ميلاده الخامس والثلاثين.
لكن لم يكن هذا “أبو الليث”! لم يكن وجهه هذا المنتفخ المحروق الملقى على الأرض! لم يكن جسده هذا المشلوح كخردة مسودّة! لم تكن رائحته تلك القبيحة المثيرة للغثيان.
راح “أبو ليلى” يجسّ الجثة، يقلّبها، لم يعد يشعر بما حوله، تكثّف المكان بها وبرائحتها، رأسه يضجّ، عيناه تحرقانه بالهباب، قلبه ينتفض في صدره ويكاد يختنق بأنفاسه!
كان “أبو الليث” قد مات حرقاً.
اليوم الثالث الذي لم يخرج فيه “ميفان حاجو” ليبخّ شعاراته على جدران حي “الحجر الأسود” كان يوم اعتقاله.
قبل ذلك بيوم ألحّ “سعيد حسين” على باله بإصرار، اشتاق إليه كما يشتاق لأمه. قرر أن يغدو إلى بقاليته في مدينة “جرمانا” ليراه. كانت الطريق صعبة للغاية، حواجز الأمن والجيش تقسّم “دمشق” إلى شظايا صغيرة منفصلة. أصوات القصف على “بيت سحم” و”عقربا” القريبة تهزّ “جرمانا” وطريق المطار، شيء يشبه القلق والرعب يعمّ شوارعها، والازدحام يزداد ويزداد.
“سعيد حسين” كان جالساً وراء المكتب يسرد في الشارع كعادته. بدا لـ”ميفان” أكبر من عمره بسنوات، وترهلات جديدة ومتعبة تخطّ وجهه، لكنه مازال بشوشاً محبباً. حينما لمحه “سعيد” على باب البقالية شهق من الفرح، خرج من وراء المكتب واحتضن الشاب طويلاً. حينما تركه كانت عيناه رطبتين.
قضى “ميفان” ساعات في بقالية “سعيد”، تحدّثا عن كل شيء إلا عما يفعله “ميفان” اليوم ببخاخاته. كلما كان “ميفان” يصمت كان “سعيد” يستحثّه للكلام. حدّثه الشاب عن نهاية “أبو الليث” وبكى. بدا “سعيد” حزيناً. حدّثه “سعيد حسين” بدوره عمّا يحصل، عن الخوف الذي راح يتنامى في دواخل أهله، وعن إلحاحهم عليه بأن يعود إليهم ويترك “دمشق” لويلاتها.
- ولن تذهب؟!
- لا، بالتأكيد لن أذهب… أنا لم أؤذ أحداً لذلك لن يؤذيني أحد.
قال “سعيد” إنه بات مقتنعاً اليوم بأن النظام أخطأ، أخطأ كثيراً، لكنه لا يستطيع أن يقوم بشيء ضده فهذا واجبه الوطني. في النهاية هو نظام قاتل إسرائيل وأميركا، وحمى الأقليات. كان قد سمع بهذه الفكرة من برنامج حواري تمّ عرضه مؤخراً في قناة “الميادين”.
- هذا كله كذب صديقي سعيد…
- كيف كذب؟!
- يعني لا هو يقاتل إسرائيل ولا يحميكم!!
- عيب هالحكي ميفان… عيب.
- لا مو عيب… سعيد هذه الحقيقة، بس أنتم تضعون طميشات البغال على عيونكم… وتمشون كالبغال أيضاً…
بدا اللوم في عيني “سعيد”، فاعتذر ميفان من فوره.
- ميفان يا حبيبي أنا اشتقت لك كثيراً، دعنا لا نختلف في هذه الأمور. كل منا لديه قناعاته ولكنا أصدقاء…
وقام ليجلب زجاجتي كولا كي يشربا معاً.
حين عاد “ميفان حاجو” إلى “الحجر الأسود” كان يشعر بالقهر. رؤية “سعيد حسين” أثلجت روحه قليلاً، لكنه بات يقتنع أكثر فأكثر بأن هناك أشياء تتفكك، تنهار، وتتدمّر، وبأنه لم يكن يتخيّل أن يأتي يوم ويتعارك مع “سعيد” أو يشعر بالشفقة عليه. هل كانت البلد ستؤول إلى ما آلت عليه لولا كل ما حدث؟!
في الليل راحت تلحّ عليه جملة ظلّ يرفضها طويلاً، لكنه هذه الليلة كان ممتلئاً بها وهو يبخّها باللون الأسود على الجدران. لون قاسٍ كقلبه لحظتئذ، قلبه المفعم بالحقد والكآبة والغضب كما لم يكن يوماً:
(الشعب يريد إعدام الرئيس)
(الشعب يريد اعدامك بشار)
في تلك الليلة استطاعت إحدى دوريات الأمن أن تلقي القبض على الرجل البخّاخ “رمح” على مفترق طريق معتم ماضِ باتجاه الحقول على مشارف حيّ “الحجر الأسود”.