صدرت الطبعة الثالثة من مذكّرات جورج حبش «الثوريون لا يموتون أبداً» عن دار الساقي، ننشر هنا مقدّمة الكتاب بالاتفاق مع الدار:
أعترف أني أشعر بشيء من الرهبة التي تبعث بعضاً من تحفّظ وتردّد وأنا أشرع في كتابة هذا التقديم لمذكرات جورج حبش. إنه أشبه بورع المؤمن حينما يلج مصلّى للتعبّد. حيث يتضاءل الإنسان ويكاد يتلاشى بفعل ما يسمع من ترتيل وتكبير ودعاء، وما يحيط به من خشوع وتقوى. هذا ما يفعله عالم جورج حبش بالمرء الذي يحاول أن يسبر غور هذا العالم وأن يتعرّف إليه وأن يُعرّف غيره به. فجورج حبش، من بين المئات من زملائه ورفاقه في مراكز القيادة في دنيا العرب، ومن بين عشرات الآلاف من مناضلي شعبه على مدى قرن من الزمان، معلمٌ بارز ومنارة متميّزة، بل هو ظاهرة فريدة أضاءت لمرحلة طويلة من تاريخنا القومي، والنضالي بشكل خاص، المعاصر، وبنت حولها هيكلاً شامخاً يلتحق به ويعمّره ويخصّبه ويطوّره كل من استنار بفكر حبش وتدرّب على أسلوبه ودرس تجربته واعتنق دعوته ورفع رايته وشارك في حمل رسالته. إنه هيكل حاول المؤسّس القائد أن يحفظ له نقاوته ويصون براءته ويرسّخ مصداقيته، مقارنة مع هياكل وبيوت نضال حوّلها بعض مؤسّسيها أو قادتها أو الدخلاء عليها إلى مغارات للّصوص وتجار المبادئ ومزوّري الشعارات.
غير أني لا أقدّم لكتاب عن رجل اسمه جورج حبش بل لمذكرات قيّمة لهذا الرجل الذي كُتب عنه الكثير في مدى نصف قرن وما زال حتى اليوم يستحق أن يحظى بكثير آخر من الكتابات والمعالجات ومحاولات التعرف إليه والتعريف به.
وأنا أحرص على أن أدعوها «مذكّرات» وإن كانت نوعاً غير مألوف كثيراً من المذكّرات. صحيح أن صاحبها لم يسجّلها بنفسه، ولا اختار هو بالذات موضوعاتها وحلقاتها، بل كانت مادّتها إجابات عن أسئلة طرحها غيره عليه (وغيره، في هذه الحالة، صحافي أجنبي). لكنّ أحاديثه هذه، وإجاباته عن أسئلة الصحافي واستفساراته، جاءت بشكل عفوي وشامل وصادق لا تقلّ في قيمتها وصدقيّتها وأثرها عن صفحات أيّ سيرة ذاتية ومذكّرات شخصيّة. والخوف الذي ينتاب المرء أحياناً حينما يقرأ هذا النوع من المذكّرات (ولنسمّه المذكّرات غير المباشرة) إنما مبعثه أن يكون الكاتب/المحرّر الذي قام بالتسجيل قد تلاعب بردود محدّثه محور المقابلة (أو قد زوّر أو بدّل أو أضاف أو حذف، وغير ذلك من ألوان التدخّل المرفوض والمسيء إلى كلٍّ من صاحب السيرة والقارئ، وإلى علم التاريخ ومصداقيّة التوثيق). وكذلك أن يكون المحرّر قد فرض على صاحب السيرة أسئلة معيّنة وتجنّب نواحي أخرى من حياته، عن جهل أو سوء نيّة، ولا فرق بين الاثنين من الناحية العملية.
لكنّ هذين المحظورين الخطِرين والخطيرين سقطا هنا في حال كتابنا هذا. فمن الجهة الأولى انكبّ الصحافي (وهو خبير إلى حدّ ما في الشؤون العربية مع أنه أجنبي) على دراسة المرحلة الحاضرة من تاريخنا المعاصر، الفلسطيني والعربي، عموماً، وعلى دور حبش، وحركته القومية العربية وجبهته الشعبية الفلسطينية، في أحداث هذا التاريخ المعاصر، وعلى تأثير حبش في الأحداث المتعاقبة، وعلى انعكاسات هذه الأحداث على الرجل وحركته وجبهته. وكانت محاور المقابلات التي تضمّنها هذا الكتاب (وقد استغرقت أكثر من تسعين ساعة) تشمل كل الوقائع التي كان لحبش دور مباشر فيها، وجاء الكتاب، بالتالي، سجلاً تاريخياً كاملاً لعالم جورج حبش وسيرته النضالية، سواء من حيث تغطية مراحل حياته وأعماله أو من حيث ترقّبه للتوقّعات المستقبلية واستشرافه لها.
وحرص جورج حبش في الأشهر القليلة التي امتدّت بين عقد هذه المقابلات ورحيله (كما حرصت أسرته من بعد رحيله: زوجته وابنتاه اللواتي رافقن من قبل جلسات الحوار الطويلة مع صاحب السيرة) على التدقيق المعمّق المضني في الصيغة التي جاءت بها الأحاديث على صفحات الكتاب مع الصيغة الأصلية المسجّلة على الأشرطة. وهكذا يسقط أي زعم (وقد يكون زعماً مغرضاً يُساء به إلى صاحب السيرة أو إلى محرّرها) بأن المادة ليست مذكرات بالمعنى الضيّق لأن الكاتب هو صحافي أجنبي وليس صاحب السيرة نفسه. والواقع أنه إذا كانت المقابلات قد استغرقت أكثر من تسعين ساعة فإن التدقيق والتفحّص قد استغرقا مئات الساعات. حتى أنني أستطيع أن أؤكد هنا أنّ ردود حبش على الأسئلة التي وجّهت إليه هي صحيحة مئة في المئة، وهي تنطبق تماماً على ما أراد صاحبها أن يقول معبّراً به عن أفكاره ومواقفه. حتى أصبح من المبرّر أن نزعم بأن محتويات الكتاب تتساوى تماماً مع أيّة سيرة ذاتية يسجّلها صاحبها، سواء من حيث المصداقية أو من حيث الشمول والإحاطة التامة بحياة إنسان تشعّبت مجاريها وتعدّدت اهتماماتها وحفلت أيامها ولياليها بالعطاء والجهد والأثر، سواء على الصعيد الشخصي لصاحبها وأسرته أو على الصعيد الوطني والقومي العام. مع الإشارة هنا إلى أن الحوار الذي جرى إنما كان آخر أحاديث حبش قبل رحيله. وهذا الأمر يجعل الكتاب أكمل من أي كتاب آخر في حياة حبش.
غير أنني لا أكتم، في هذا المجال، أن أسجّل تمنّياً كنت آمل أن يتحقق في هذه المذكرات، وهو حديث وافٍ ومفصّل عن طفولة حبش وفتوّته، سواء في رحاب الأسرة في اللدّ أو أثناء سنوات الدراسة في الجامعة في بيروت. صحيح أن هناك لمسات خاطفة في هذا الشأن، لكنّ القارئ يرغب في أن يسمع المزيد عن حياة جورج حبش في هاتين المرحلتين المبكرتين. ولعلّ إحجام الصحافي عن التوسّع في الاستفسار عن أيام حبش الأولى، وبخاصة منذ الطفولة والمراهقة، ليس فريداً في أدب السيرة العربي. وذلك أن معظم الذين كتبواً سِيَرهم الذاتية، وكذلك الذين كتبوا سِيَر رجالاتنا العرب، غيّبوا هذه الحقب المبكرة من حيوات أعلامنا. علماً بأن القلّة من أصحاب السّيَر العربية الذين أولوا نشأتهم ومنابتهم الاهتمام الكافي وسجّلوا صفحات في وصفها وأثرها في حياتهم اللاحقة إنما قدّموا للمكتبة العربية المختلفة ذخائر رائعة في وصف مجتمعاتنا وحياتنا الاجتماعية في الأقطار العربية المختلفة وفي إطارات أسر وطبقات وأحياء وبلدات وأزمنة متعددة، وتكاد في مجموعها، على قلّتها، تقدّم لنا مصادر لدراسة الجوانب «الخفيّة» والخلفية من المجتمع العربي الحديث قد تقصّر عنها الدراسات الجامعية في أحوال المجتمع العربي وأوضاعه.
هذا استطراد عفوي لا يبعدنا عن الموضوع الأساسي. وإن كان المطلوب من هذه الصفحات أن تقدّم للكتاب، وليس لصاحب السيرة، فلا بدّ أولاً من الإشارة إلى أن جورج حبش يظهر في الكتاب، في شخصه وأفكاره وأعماله كما في مشاعره وعواطفه وصفاته وعاداته، أكثر مما يظهر في أي كتاب (أو مقال مطوّل) صدر عنه حتى الآن. أقول هذا وأنا أحيط بمعظم ما كُتب عنه (عنه مباشرة، أو غير مباشرة ضمن الحديث عن حركة القوميين العرب وعن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أو حتى عن التاريخ المعاصر لفلسطين وقضيتها ونضالها وعن الأمة العربية وحركات التوحيد والتحديث). والمرء لا يقلّل من أهمية الكتب والدراسات والمعالجات الكثيرة التي صدرت في الخمسين سنة الأخيرة والتي لحبش فيها مكان بارز، مع تفاوت في الجدّية الموضوعيّة والإنصاف. إلا أن مذكرات حبش في كتابنا هذا ستصبح مصدراً أساسياً وضرورياً لكل من سيتناول تاريخ الرجل، أو تاريخنا النضالي عموماً، في المستقبل، أكثر من أي كتاب آخر في الموضوع نفسه.
لا شك في أن القارئ أخذ ويأخذ فكرة جيّدة عن جورج حبش في قراءاته لعشرات المطبوعات السابقة. إنه يتعرّف من خلالها إلى تاريخه الشخصي وعلاقاته بأحداث بلده وأمّته، فلسطينياً وعربياً. ويتعرف كذلك إلى جهوده وأعماله ونضاله السياسي والتنظيمي والحزبي والمجتمعي، وإلى المؤسس والقائد والرمز والطبيب والمنظّم والمحاور وغير ذلك. إن كلاًّ من تلك الصفحات يظهر بشكل أو بآخر في هذا الكتاب أو ذاك من بين آلاف الصفحات التي تناولت جورج حبش. غير أنني أعتقد بأن جورج حبش الإنسان، الإنسان بكل ما في الكلمة من معنى سامٍ ورفيع، لا نراه مثلما نراه ونتعرف إليه في مذكراته التي بين أيدينا: ليس الإنسان السياسي والمناضل والمفكر والقائد فقط بل الإنسان الذي صبغ السياسي والمناضل والمفكر والقائد بصبغة خاصة من الإنسانية، أو الأنسنة الخاصة التي يتميّز بها عن سائر زملائه من السياسيين والمناضلين والمفكرين والقادة.
إن جوهر الإنسان في جورج حبش هو الحب: حبّ الآخرين، حبّ الغير. ذلك الحب الذي يتحوّل تلقائياً إلى تفانٍ في خدمة الآخرين واستعداد للبذل والعطاء المستمرّين، بكرم وطيب خاطر وتضحية بدون حساب، وإلى اعتبار الآخرين في رأس أولويات الحياة وإيثارهم بالعطاء والاهتمام ولو على حسابه الخاص، الشخصي والعائلي الضيّق والواسع. فلا المنصب ولا المركز أو الموقع، ولا سعة العيش ورغدها، تسمح له بأن يحيل الآخر (فصيلاً كان أو شعباً أو طبقة أو قضية) إلى درجة ثانية أو مؤجّلة إلى أن يحقق شؤونه الخاصة.
حياة جورج حبش هي سلسلة من الأعمال الشاقّة على طريق النضال من أجل مبادئ معيّنة: تحرير فلسطين ووحدة العرب ورفاهية المجتمع، ومقاومة العدو (صهيونياً كان أو استعمارياً، أو عميلاً عربياً أو فلسطينياً، أو مستغلاً أو مستبداً أو ظالماً محلياً). على هذا الدرب النضالي يهون السجن والاعتقال والتشرّد، وتصبح حماية الوطن وصيانة القضية أهم بكثير من حماية الذات والأشخاص. وشرط هذا الاستعداد لبذل التضحيات المتواصلة أن يتمّ بلا شكوى ولا تذمّر ولا أنين ولا عتب ولا نفاد صبر. جورج حبش الإنسان الذي نكتشفه في هذا الكتاب هو إنسان متصالح مع نفسه وراض عن قدر وحال قبل بهما وقنع بأن لا معنى لحياته بدون السعي المتواصل، الحافل بالعطاء والشقاء، لتحقيق القِيَم الإنسانية العليا: الحرية والاستقلال والسيادة والوحدة، ورخاء المجتمع ورفعته وعدالته والمساواة بين أبنائه وعناصره.
إننا نقرأ في مذكرات جورج حبش، في عشرات الأماكن والصيغ والأشكال، حبّه لزوجته وابنتيه، وامتنانه لهنّ واعترافه بأثرهنّ في مواصلته النضال ولو على حساب راحته وراحتهن. ونقرأ تقديره لرفاقه في العمل النضالي، الحزبي والتنظيمي والحركي. ونقرأ اعترافه بحمله المبادئ أو المفاهيم الأخرى، المغايرة أحياناً لمبادئه ومفاهيمه والمتنافسة بل المتصارعة معها في أحيان كثيرة. نجد في هذه المشاعر والمواقف النادرة في المجال السياسي والحزبي العربي (والفلسطيني) المعاصر اعترافاً بالآخر قائماً على حقه في الاختلاف. والأمثلة كثيرة: إنه يتحاشى ذكر أسماء معظم المسيئين إليه، من خصوم في الساحة السياسية ومن رفاق درب منحرفين وآبقين وضالّين ومن أصحاب غايات خاصة وطامعين بمكاسب غير شرعية وساعين وراء صفقات مشبوهة. ومن اللافت أنه لم يذكر أسماء أيّ من هؤلاء المتآمرين عليه وعلى قضيته ومنظمته إلا في حالتين اثنتين فقط حيث اضطرّ إلى ذكر اسمي رجلين تآمرا عليه وحاولا اغتياله، وذلك لأن الاسمين معروفان جيداً ولم يكن بالإمكان إخفاء هويّة أيّ منهما. وحتى حينما يتحدث عن معاناته من عدم وفاء زميل قديم أو تدنّي أسلوب منافس سياسي وهبوطه في أدائه إلى مراتب يترفّع حبش عنها فإنه، في الوقت نفسه وبطيبة قلب نادرة، يحاول أن يبرّر لهؤلاء بعض سلبيّاتهم وكأنه يغفر لهم ويتناسى إساءاتهم.
إن من يتتبّع مسيرة جورج حبش النضالية على مدى خمسين عاماً على الأقل لا يستطيع أن يتجاهل وجود علاقات خاصة طبعت تلك المسيرة مع قائدين فلسطينيين كبيرين هما وديع حدّاد وياسر عرفات. كانت علاقة حبش بحدّاد، التي بدأت وهما على مقاعد دراسة الطبّ في الجامعة الأميركية في بيروت منذ أواخر أربعينيّات القرن الماضي، مضرباً للمثل لا من حيث توثّقها وعمقها وصفائها واستمرارها طويلاً، ولا من حيث المشاركة الكاملة في كل الأعمال والجهود ومجالات النضال والتأسيس والتأثير والمواقف، فقط، بل أيضاً من حيث البذل والتضحية والوفاء للالتزامات الوطنية والقومية. حتى أصبح كل من «الحكيمين» توأماً فكرياً ونضالياً للآخر. إلى أن اجتهد كل منهما، وبعد عشرين سنة، اجتهاداً مختلفاً عن الآخر في مجال أسلوب النضال من أجل المبادئ التي آمنا بها إيماناً مشتركاً كاملاً. وافترق الحكيمان والتوأمان، وتابع كل منهما مسيرته النضالية بحسب أسلوبه المختلف عن أسلوب زميله. وتلك واقعة تحصل بين الرفاق والزملاء دائماً وفي كل مناحي العمل السياسي والحزبي. لكننا في حالة حبش-حداد لا نسمع من أي منهما كلمة واحدة تسيء إلى الآخر أو تطعن به أو تغمز من قناته. ظل الاحترام والتقدير وسموّ المشاعر والتعابير بينهما بعد افتراقهما بالقوة والقدر نفسيهما اللذين كانا يميّزان علاقاتهما في السنوات العشرين التي سبقت الفراق. وقراءة ما ذكره حبش عن رفيقه عند رحيله تدلّ على صفاء حبش. ولا شك أن حدّاد لو بقي حياً عند رحيل حبش لكان نطق بالمشاعر النبيلة نفسها.
ومن الجهة الأخرى، يستدلّ متتبّع العلاقة السياسية بين جورج حبش وياسر عرفات على اختلاف كل من القائدين الفلسطينيين الكبيرين طيلة الأربعين عاماً التي اشتركا خلالها في العمل السياسي الفلسطيني/العربي، وكان لكل منهما أسلوبه الخاص البعيد جداً عن أسلوب الآخر. بل كان كل من الأسلوبين نقيضاً للآخر. وكان كل من الرجلين نقيضاً للآخر. لكنّ حبش، الذي يتحدّث مطوّلاً عن خلافاته مع عرفات واختلافاته معه في المفاهيم والأساليب والأدوات والأداء، لا يُخفي عاطفة ودّية خاصة تجاه خصمه في عشرات الأماكن، ويحاول أن يقدّم لنا أحياناً صورة لعرفات تغاير الصورة التي يتخيّلها الآخرون من معارضي نهج عرفات. وعندما رحل عرفات كانت كلمات حبش تصدر من قلب محبّ وحنون ولا علاقة لها بالصراع السياسي.
لن أسترسل في الأمثلة على أصالة قائد يعلو في صراعاته السياسية فوق المستوى المألوف ويصرّ على الحفاظ على نقائه ونبله لأن ذلك الصفاء يتوافق مع معتقداته وأساليبه في العمل ومواقفه من الآخرين، حتى لو كان الآخرون يتعاملون معه بطرق أخرى. وأكاد أقول إن حبش ما كان يستطيع أن يتصرّف بشكل آخر. إن ضميره وقلبه ووجدانه وتربيته ما كانت لتسمح له بأن يكون غير ما كان عليه طيلة حياته وفي جميع ممارساته.
ومثل أي قائد سياسي، نجد جورج حبش في مذكراته يدافع عن مواقف وسياسات معيّنة، فلسطينية وعربية ودولية، اتخذها في حياته شخصياً أو عبر الحركة أو الجبهة التي تولّى قيادتها، وربما كان بعضها يتعارض أحياناً، ولو شكلياً، مع إجراءات أخرى قام بها، ولا شك أن بعضها يتعارض مع آراء سياسيين آخرين ومواقفهم. وقد يقنعك هذا الدفاع (أو التحليل أو التفسير أو التبرير) وقد لا يقنعك. فالمسائل سياسية وعالم السياسة واسع ويحتمل الاختلافات، بل التناقضات أيضاً. وكما كان الزعيم الكبير جمال عبد الناصر يقول فإن من لا يعمل أو من لا يأخذ مواقف محددة لا يجد من يعارضه. ومن المنطقي أن تكون أعمال حبش التي لاقت تأييداً واسعاً، من الجماهير ومن النخبة ومن المحازبين، قد لاقت أيضاً وفي الوقت نفسه معارضة من قطاعات أخرى من الجماهير والنخب والجماعات المعارضة له. والمهم في هذه الأحاديث مع محاوره أن حبش مرّ على هذه المسائل كلّها، ولم يتهرّب من أي منها، وكان في جميع أجوبته واضحاً ومنطقياً. وأحسب أنه كان مقنعاً في معظم الأحيان.
من عرف جورج حبش جيداً يجد في الكتاب الذي بين أيدينا صورة طبق الأصل عن الرجل. أما من لم يعرفه من قبل معرفة جيدة فإن للكتاب فضل رسم هذه الصورة الحقيقية للرجل: للإنسان المحبّ لبلده وشعبه وأمته وزملائه وأسرته وأصدقائه (وحتى منافسيه وخصومه من رفاق النضال) والمستعدّ أن يقدّم أغلى التضحيات من أجل المبادئ التي لم يحد عن الإيمان بها والعمل من أجلها لحظة واحدة.
إنني، كدارس للتاريخ، أرحّب بصدور هذه المذكرات وأحيّي الجهد الذي بذلته السيدة هيلدا وابنتاها ميساء ولمى في الإشراف على إعداد المذكرات في صيغتها العربية وأُكبر العمل الشاق الذي قام به الصحافي الفرنسي جورج مالبرونو. وأنا كفلسطيني يؤمن بتحرير فلسطين من بحرها إلى نهرها وكعربي يؤمن بوحدة الأمة عبر نضال مشترك، ألمح في سيرة جورج حبش بريقاً قادراً على هداية الأجيال الطالعة نحو طريق يصل بنا نحو التحرير والوحدة وما يتبعهما من عدالة وحداثة وحرية ومساواة، وهي كلها مُثل التزمها صاحب السيرة وكرّس لها حياته الحافلة بالعطاء.
إن الوفاء الأكبر من الأجيال الطالعة لجورج حبش يتمثل بأن لا يبقى الرجل مجرّد ظاهرة فريدة في زمانه. فالمطلوب والمأمول أن ينهض بين هذه الأجيال من يجسّد ظاهرة جورج حبش النادرة ويجدّدها. وبذلك يكون الرجل قد أدّى رسالته ورحل مرتاح البال.