لألف سبب وسبب ظلت مسألة الحرية متربعة على رأس التطلعات الإنسانية منذ القدم ومشروعاً مفتوحاً على أفق اشكال من الوعي المُتجدد. ولألف سبب وسبب آخر ظلت قوى التسلط والإخضاع تنظر للحرية بكونها أهم الأعداء الواجب ترويضهم، لأن ترويض وإسكات الحرية معناه انطلاق تلك القوى من دون قيد أو رقيب. كلما أبدعت الحرية في معركتها الأزلية ضد قوى التسلط وحررت مساحات جديدة من قبضتها، كلما نجحت هذه القوى في الكر ثانية على مواقع الحرية التي تحررت في محاولة دائمة لمعاودة السيطرة عليها. وكما هي الحريات ليست واحدة في تمثلاتها وتمظهراتها السلوكية الفردية، أو الجمعية ذات الإهتمام بالشأن العام، فإن التسلطية ليست واحدة أيضاً وتتفرع إلى تسلطيات عدة كل واحدة منها مهجوسة بقمع وإخضاع مجال محدد من الحريات.
الحريات الجمعية ذات الإهتمام بالشأن العام، أي الحريات السياسية وما اقترب منها، كانت على الدوام في مرمى هدف قوى الحكم التسلطية لأن إسكاتها يوفر الديمومة والبقاء للسلطة الحاكمة. ليس في هذا أي اكتشاف جديد بل مجرد توكيد لمسيرة البشر الاستبدادية منذ فجر التاريخ. بنظرة عامة وتاريخية مُجملة يمكن الزعم بأن الشطر الأعرض من التسيس الإنساني في أرجاء الأرض جميعاً، اتسم بنمط قسري وإكراهي وسم علاقات السلطوية السياسية بالأفراد، وبما لا يدع مجالاً للمقارنة مع أي نمط آخر. الإنتعاش النسبي للحريات في حقبة ما بعد التنوير والحداثة السياسية والذي نراه في نموذج الليبرالية الغربية يكاد يكون الاستثناء الأبرز في مسيرة البشرية التسلطية والاستبدادية. حتى في هذا النموذج ثمة توتر لا يهدأ في جانب السلطوية السياسية إزاء كيفية إخضاع وتقليم تمدد الحريات العامة وتقليصها.
وهنا، أي في النموذج الغربي، يمكن رصد جانب من القصة المثيرة في الصراع المتأبد بين الاثنتين: السلطوية والحرية، كما يمكن رصد جوانب أخرى من نفس القصة في النماذج غير الغربية، ومنها الحالة العربية والإسلامية. غربياً، طورت الحداثة السياسية ما صار يُعرف بـ “الحيز العام” public sphere وهو المساحات التي تم “تحريرها” من السلطات السياسية، أو وطأة الدولة، وفي تلك المساحات إزدهرت الحريات العامة، والنقاش المفتوح، وانتعش الفكر النقدي. في “الحيز العام” تأسست قوى وآليات مدنية يُفترض أنها بعيدة عن سيطرة الدولة، على رأسها الأحزاب السياسية المُتنافسة، وكذا الـ “منظمات غير حكومية” وكذلك الإعلام غير الخاضع لسلطة الدولة، والجمعيات المهنية والنقابية، وما تبقى من مؤسسات دينية أعيد تشكيلها في ظل التحديث السياسي، واتحادات الطلاب، وأشكال لا تُحصى من التعبير الفني والأدبي. وبشكل من الأشكال نجحت كثير من المجتمعات الغربية في الحفاظ على هذا الحيز المُحرر نسبياً من سيطرة الدولة، والذي يوفر للأفراد أقداراً مُتسعة من الحرية العامة والحرية الفردية أيضاً. وهكذا تطور نموذج جديد للدولة لم يكن موجوداً من قبل، نموذج مُنسحب من التأثير والسيطرة المباشرة والفجة والتحكم التسلطي بحياة الأفراد، وتحديد أنماط حياتهم وتفكيرهم. ونشأت الدولة الليبرالية ذات السمة غير التدخلية وخفيفة التحكم بالمجتمع مقابل الدولة الشمولية التسلطية ذات السمة التدخلية وثقيلة الوطأة على المجتمع والأفراد.
لكن المثير في قصة النموذج الليبرالي للحريات هو أن الحيز العام الذي تم تحريره من قبضة وسيطرة الدولة بشكل مباشر، وقع فريسة التنافس بين سلطويات أخرى، إما أن تكون مُعبرة عن قوى الدولة نفسها لكن بشكل غير مباشر، أو أن تكون قد تطورت بحكم واقع النموذج الليبرالي نفسه، وتحديداً بسبب جوهره الرأسمالي. وهذا الأخير، أي رأس المال، أنتج قواه الخاصة به والتي انفلتت في كل اتجاه في “الحيز العام” تستثمر الوجود المُخفف للدولة، وتنتهك حريات “الإختيار” عبر جبروت قوتها المالية، ولتعيد تنميط المجتمع أو شرائح منه والسيطرة عليها بشكل غير مباشر. مثلاً، مثّل الإعلام الحر من ناحية نظرية أحد أهم قوى “الحيز العام” لأنه أحد أهم قوى الردع ضد تسلطية الدولة وسيطرتها وربما فسادها. وصار الإعلام “السلطة الرابعة” مُضيفاً نفسه إلى التقسيم والفصل الثلاثي للسلطات الدولتية الأخرى، التشريعية، والتنفيذية، والقضائية. بيد أن هذا الإعلام الحر المُخول بمهة شبه مُقدسة وهي مراقبة تلك السلطات الثلاث وكشف إختلالاتها وإعتوارها للرأي العام، وقع جزء كبير منه ضحية لتغول رأس المال. ففي قلب الإعلام الحديث اختلطت رغبتان ومنذ لحظة التأسيس: رغبة إخبار وإعلام المجتمع والرأي العام بما يحدث، ورغبة تعظيم الربح. والإشكالية المركبة لحظة الولادة فرضت هذا الزواج القسري بين الرغبتين ذلك أنه للحفاظ على حرية الإعلام وعدم سقوطه فريسة في يد الدولة والسلطة السياسية، فإن عليه أن يتحرر مالياً وأن يجد مصادر تمويله بعيداً عن أي مصدر له علاقة بالسلطة نفسها. لكن الهروب من سلطة الدولة بإتجاه رأس المال لم يكن حلاً مثالياً بطبيعة الحال، وإن وفّر مساحات حرية لم تكن مسبوقة. وقع الإعلام في قبضة رأس المال، ومع الزمن وخاصة في القرن الماضي تطورت استثمارات إعلامية عملاقة تحولت إلى امبرطوريات تتمتع بقوى وسلطوية تفوق سلطة كثير من الدول. وفي هذه الإمبرطوريات الإعلامية المخيفة استثمرت قوى مالية قريبة من السلطة في هذا البلد أو ذاك، أو قريبة من حزب سياسي أو توجه أيديولوجي معين، بحيث عادت بقوة إلى الحيز العام الذي من المفترض أنه قد تحرر من سلطة الدولة والسلطات الأيديولوجية الرسمية أو القريبة منها. وبسبب السيطرة شبه المطبقة لهذه الإمبرطوريات الإعلامية على الحيز العام، كما هو الوضع مثلاً في الولايات المُتحدة حيث تسيطر أربع أو خمس شركات إعلامية عملاقة على السوق الأمريكي كله، فإن صناعة الرأي العام وتشكيل المزاج السياسي والتأثير في الإنتخابات والعملية الديموقراطية يصبح أحد الميادين الأساسية لهذا الإعلام غير المحايد. وتمثل حالة انتخاب دونالد ترامب والتوظيف الهائل للآلة الإعلامية المحافظة المؤيدة له ولأفكاره نموذجاً مثيراً للدراسة والتمحيص.
قاد تغول رأس المال في قلب “الحيز العام” وخاصة في المساحة الإعلامية إلى عودة أشكال مخيفة من السلطوية والاستبدادية والأحادية القسرية في تكوين الرأي. والخطر المُتأصل في الإعلام الجماهيري أياً كان شكل الوسيلة الإعلامية يتأتى من سهولة توظيفه عاطفياً وغرائزياً خاصة في أزمنة الأزمات والتوترات والعنصريات. ولأن كل ما هو مُستفز وغرائزي ومشاعري ويختزل المُعقد من المسائل في ثنائيات أسود وأبيض، معنا وضدنا، فإن “إعلام التابلويد” الرخيص والإستثماري في البلدان الغربية صار أحد أهم آليات تشكيل الرأي العام، وهو ما نشهد له تأثيراً كبيراً في الديموقراطيات الغربية الراسخة. يحدث هذا برغم أن هذه الديموقراطيات كانت قد انتبهت منذ وقت مبكر إلى مآلات سقوط الإعلام في شرك رأس المال وتغوله في الحيز العام وبالتالي تآكل مهمة “الإخبار والإعلام” تحت وطأة إغراء وطمع الربح وتعظيمه. ما حدث ويحدث في الحالات العربية والغربية إزاء هذه القضايا أخذ مسارات مختلفة، لكنها لا تقل إثارة، وهي ما ستتأمل فيه المقاربة القادمة.