يحجُّ ديفيد كِبيش إلى قبر كافكا في براغ. في غيتو المدينة، يرى مناماً يزور فيه إيفا، سَمِيّة حوّاء، المومس العجوز التي كان كافكا يتردّد عليها آناء شبابهما. يطرح كِبيش الأسئلة على إيفا كمَن يستنطقها بحثاً عن سرّ أو فضيحة، يساوره إحساس بالخطر كأنه ينتهك شيئاً محظوراً. ترفع المومس العجوز فستانها في نهاية اللقاء، وتدعوه ليتفحّص ما بين فخذيها، فيشيح بعينيه قبل أن يرى “الميدوزا”، ممتنعاً عن لمسِ فرجها، ليصفَ بدلاً من ذلك “ذروة لسانها التي تبرز من فمها، لب الثمرة التي لا تزال حمراء”.
هذا منام تخيّله فيليب روث في روايته “بروفسور الرغبة”، متأرجحاً في تلك المنطقة الملتبسة التي تجمع كليهما بكافكا، وأعني بهما روث وشخصيته الروائية ديفيد كِبيش. مثل هذه الرغبة في التلصص على أسرار المشاهير والعباقرة والأبطال أفضت ولا تزال إلى تأليف كتب لا حصر لها، حيث تغدو أتفه الأشياء والملاحظات ثمينة لأن النجوم لمسوها أو نطقوها في لحظات تجلياتهم التي لا تنتهي. عادة، تدّعي مثل هذه الكتب المصداقية والتوثيق، وقد يبدأ مطافها أو ينتهي بنبش النفايات للعثور على جوهرة منسية تتحول إلى حدث الموسم. ثمة أمثلة عديدة في الثقافة العربية المعاصرة، شعراء وناثرين، لكني سأتناول هنا كتاب غوستاف يانوخ “أحاديث مع كافكا، أوراق وذكريات” الذي ترجم الروائي السوري خليل الرز مقتطفات منه إلى العربية.
التقى يانوخ بكافكا مراتٍ كثيرة، ولم ينقطع عن تدوين رؤوس أقلام من غمار الكلام الذي تداولاه أثناء لقاءاتهما ونزهاتهما في براغ، مدوّناً في دفتره إشاراتٍ إلى الفلسفة الصينية والداروينية والنجارة والأرق وإدغار ألن بو والكتب المقدسة الهندوسية ووُلت ويتمان والانتحار والصلاة… ثم يُهرع إلى البيت ليسجّل ما تلقّفه من نصائح المعلّم وحكاياته وآرائه. يتألف هذا الكتاب مما ظنه يانوخ جديراً بالنشر من مدوّناته تلك، وتتراوح المختارات من بضعة أسطر إلى بضع صفحات.
يبدو كافكا في هذه الحوارات، المنشورة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، واثقاً وحاضر البديهة، غريباً عن نفسه وبعيداً عن كتاباته، على الأقل كما عرفناه من خلال يومياته ورسائله. تلك الوفرة من الحكمة والأقوال المأثورة غير معقولة ولا تكاد تُحتمل، تلك التعميمات الخالية من التردُّد وما من قلقٍ أو تلعثم يشوبها، تلك النبرة التي يعتقد صاحبها إن التاريخ يسترق السمع إليه ويتابعه ويدوّن كل ما يتفوّه به، تخليداً لمآثره أو استعراضاً لإبهار الجمهور، حتى لو جرت أحاديث عادية في المقاهي والمطاعم. أيُعقل أن تلك كانت نبرة كافكا في الكلام؟ ذلك هو السؤال. على سبيل المثال، هذا هو جوابه عن سؤال حول العلاقة بين الصحافة وخدمة الحقيقة: “تنتمي الحقيقة، في الحياة، إلى القيم القليلة العظيمة التي لا يمكن شراؤها. الإنسان يتلقّاها بصورة الموهبة، وكذلك الحب، أو الجمال. أما الصحيفة فسلعةٌ يتاجرون بها.” فادحٌ هو هذا الحرص على إظهاره بصفته الكاتب الأعمق، وخنق القراء ببراعة الأفكار، وصقل عبارات الأجوبة لتخلد في ذاكرة المستقبل، وكأن صاحبها قد فكر بها ملياً وحفظها جيداً ثم ردّدها أمام الآخرين. هل هناك حقاً مَن يعتقد باستمرار الحياة إلى ما لا نهاية على هذا الكوكب؟ هل هناك مَن يأمل بأن ما يُكتَب سوف يبقى، محتفظاً بنضارته وأهميته وتهافتِ القرّاء عليه؟
لا ننسى إن المحاوِر قد صاغ الأجوبة بلغته وأسلوبه، وإن كانت قد قيلت حقّاً، بعضها أو كلّها، وجمالها لا يُنْكر أحياناً كثيرة، لكنها نُشرت متأخرة بعد المحرقة النازية، وبعد ذيوع أسطورة كافكا و”خيانة” صديقه ماكس برود لوصيته بحرق مخطوطاته. بالطبع حوّرتْ ذاكرةُ يانوخ ذكرياتِه، فبدت الأسئلة كأنها تترقّب شيئاً فريداً وعظيماً، جواباً لن تنساه البشرية، ثم انتهى به المسعى أحياناً إلى اختلاقات وعظيّة زاخرة بالدُّرر. لم يخذل المحاوِر فضولَ مَن ينتظرون عبقرية المشاهير، ليظهر المحاوَرُ حادّ الذكاء لمّاحاً متماسك المنطق قاطعَ الملاحظات عميقها. أي نهج في الحوار هذا، لم يتخذه حتى أفلاطون ولا لوقيانوس السميساطي ولا مارسيل شوب في محاوراتهم الخيالية؟ حوارات يانوش خيالية كذلك، وربما لفّقت ذاكرته بعض التفاصيل لتؤطّر “أيقونة” الأدب الحديث بهالةٍ من ذهبيّ الكلمات. هل السبب في هذا الغلوّ هو إعجاب تلميذ مراهق بأستاذه المفترض؟ كان يانوخ في السابعة عشر من عمره حين عرّفه أبوه إلى كافكا في مؤسسة التأمينات الاجتماعية في براغ سنة 1920، وسأله لاحقاً عن رأيه في قصائد ابنه الشابّ غوستاف الذي صار موسيقياً.
استعادة الشاعر الشاب لتلك الأحاديث فرضت أسلوباً لغوياً قد يتراءى شبيهاً بشذرات الناثرين الإنكليز في القرن التاسع عشر، حين ازدهرت كتابات مختزلة تفحم المستمعين والقرّاء، وكان كتّابها يقومون بها في الواقع أوقات فراغهم ليتسلّوا وينسوا، كمَن قالوا إن المسافة بين الدماغ واللسان أقصرُ من المسافة بين الدماغ والأصابع، أو إن هبوط الكلمات من الرأس إلى اليد أسرعُ من صعودها إلى العين، ولهذا فالكتابة أسهل من القراءة، بسبب الجاذبية الأرضية على الأقل، وتفشيها محتمل إذا توافرت الأدوات والوسائل (هذه الفكرة قد تحققت في القرن الحادي والعشرين، حيث متاهات الإنترنت وشتى مواقع التواصل الاجتماعي، ولا تغيب التهمة التي يكاد الجميع يقذفها في وجه الجميع: “استسهال الكتابة”).
يبدو كافكا في أجوبته حكيماً نيتشوياً، مُفوّهاً تفيض عباراته بعلامات التعجّب. سخريته ودعاباته هنا غريبة عنه. مرة أخرى، ذلك مناسب للصورة التجارية الرائجة عن العباقرة. لكنّه، كما نعلم، كان مدققاً في علامات الترقيم، ويكاد لم يستخدم علامات التعجب. اختفت وساوس الكاتب تحت القناع الذي وضعه له مرافقه الشابّ. كان بالطبع كاتباً ذهنياً، ولكنه لم يكن أبداً منطقياً وحديثاً إلى هذا الحد، بينما يبقى دائماً لدى كافكا الآخر ما يتعذّر تفسيره أو يتعذّر تحويله إلى ترميز أو إسقاطات تاريخية اجتماعية. ربما كان التماسه في وصيته إحراقَ مسوداته (التي دقّقها صديقه ماكس برود ونشرها) رغبةً في التنصل من نقصان الكتابة الفادح ورغبةً في محو الأثر والهروب من الخلود، الهروب من مسؤوليات المستقبل. لا مناص من الفناء داخل الزمن، والوعي بحتمية النقصان أساسي في جميع كتاباته وواحدٌ من دوافعه المهمة.
عدتُ إلى مقدمة كتاب غِرشوم شولم عن فالتر بنيامين، وفيها يرجّح اختلاق يانوخ للكثير من هذه الحوارات. الماضي يتحوّل، يتّسع ويعظم أو يتقلّص ويندثر، والموتى يتحوّلون معه، ويمكن دائماً أن تنسب إليهم ما تشاء.