صدر الكتاب مؤخراً عن دار أزمنة في عمّان
سيناريوهات مصطفى أبو علي (رائد سينما الثورة)
عز الدين المناصرة
السيناريو أو النص السينمائي أو المشهدية، هو وصفٌ عام للمشاهد السينمائية، يتضمن وصف المكان، سواءٌ أكان خارجياً أم داخلياً، ليلاً أو نهاراً، ووصفا لدخول الشخصيات وخروجها، ووصفاً للحدث، كما لو كان المشهد مرسوماً. وكل ما على المخرج والممثلين، هو تنفيذ ذلك المشهد المكتوب، باستخدام عناصر الإضاءة، والحركة، والديكور، لتكوّن مجموعة مشاهد السيناريو، مجموع مشاهد الفيلم. ومن هنا، فالسيناريو هو مضمون الفيلم ومادته الإبداعية التي يشاهدها المتفرج. بينما (الإخراج)، هو مجموعة من الطرائق الفنية والجمالية الشكلية والتقنية، التي يلجأ إليها صانع الفيلم.
التقيت بالمخرج السينمائي (مصطفى أبو علي) في (معرض فني)، أقامته حركة فتح الفلسطينية في العاصمة الأردنية، (عمّان) في آذار (1970)، وهو ابن بلدة (المالحة) المقدسية، التي احتلها الإسرائيليون عام 1948، وطردوا منها أهلها، وكان من بين المقتلعين منها طفلٌ في الثامنة من عمره، ولد فيها عام (1940)، هو مصطفى أبو علي. آنذاك، كنت عائداً من (القاهرة) بعد إقامة فيها دامت خمس سنوات تقريباً، لهذا بعد حوار قصير مع مصطفى، قررت في داخلي، أنه يمكن أن يكون صديقاً: شاب وسيم، عَذْبُ اللسان، هادئ إلى درجة الصمت. لا يقاطعك حين تتكلم، إلا بعد أن تنهي كلامك. ويعلق بهدوء وعقلانية حتى لو كان مختلفاً معك في الرأي.
تدور الأيام، فتصبح (بيروت) مدينتي الثالثة بعد (القاهرة، وعمان). هناك في بيروت، التقى (المثقفون الفلسطينيون) تحت سمائها لأول مرّة. ولم أكن حتى عام (1974) قد شاهدت أي فيلم من أفلام (مصطفى أبو علي)، لكنني اعتباراً من ذلك العام، قررت مشاهدة أفلام مصطفى كلها دفعة واحدة. أحياناً، كان يدعوني إلى عرض خاص لأحد أفلامه وحدي. وكنت أسجل الملاحظات، ثم أناقش مصطفى، وربما أكون قد شاهدت بعض هذه الأفلام أكثر من مرّة عندما كانت تعرض في المخيمات الفلسطينية في بيروت والجنوب والشمال.
كانت أفلام مصطفى شعبية، وكان جمهور البسطاء يناقشها بجدية، ويتفق أو يختلف معها، لكن مصطفى كان يشكو لي من طبيعية بعض جوانب النقاش، وتحديداً (مناقشة بعض الأفكار وتجاهل الجماليات)!!. وكان الفنانون التشكيليون العرب آنذاك يشكون من قلّة الجمهور في معارضهم، وطريقة النظر لمفهوم اللوحة!!. ومن وجهة نظري يرجع ذلك إلى ضعف ثقافة الجمهور (آنذاك) السينمائية، والتشكيلية.
كان مصطفى أيضاً (محبوباً) من قبل السينمائيين العرب في بيروت، بسبب تهذيبه، وتعاونه الأخوي معهم. كانت (مؤسسة السينما الفلسطينية) التي كان (مصطفى) هو مديرها العام – تقدم لهم الخدمات في حدود إمكاناتها. ولم تكن (القيادة الفلسطينية)، تنظر إلى الثقافة إلاّ بصفتها خادماً للسياسة، أو جسراً لفكرة سياسية. ورغم أن مصطفى أبو علي، لم يكن صدامياً، بل كان مقرباً من قيادة حركة فتح على الأقل، إلاّ أن مفهوم القيادة السطحي للسينما، هو ما جعلهم لا يدعمون مشاريعه السينمائية، مثل: مشروع فيلم (المتشائل). كانت القيادة تنظر إلى مؤسسة السينما الفلسطينية بأن وظيفتها هي (تصوير القيادات وتحركاتهم)، رغم أن المؤسسة غطت هذا الجانب، لكنها اعتبرته (جزءاً من وظيفتها)، وليس كل مشروعها. وكان مصطفى يحلم، ويتحدث لي عن أحلامه، وكان عندما يشكو لي، كنت أشكو له، وتنتهي حواراتنا بمزيد من الأحلام.
وإذا أردنا رسم الإطار الثقافي، المحيط بالسينما في (بيروت السبعينات)، فقد كانت (حركة السينما البديلة) التي بدأت في مهرجان دمشق الأول عام 1972، وانتقلت إلى بيروت كظاهرة حداثية، وكانت (السينما التسجيلية الفلسطينية) قلقة بين ثوريتها المرتبطة بالثورة الفلسطينية، وبين رغبتها في تحديث نفسها، ولهذا كانت قريبة من جماعة السينما البديلة (اللبنانية) وأفكارها النظرية.وقد شارك عدد من السينمائيين العرب والأجانب مع السينما الفلسطينية، وزاروا الثورة في مرحلتها الأردنية، واللبنانية مثل: جاك لوك غودار، غي هنيبيل، سيرج لوبيرون، مانفرد فوس، نلز فست، فانسيا ريد غريف، إيفان غاريللوف،ومونيكا ماورر… وغيرهم. كما عمل عددٌ من السينمائيين العرب في السينما الفلسطينية، مثل: قاسم حَوَلْ – كريستيان غازي- رفيق حجّار –حسّان أبو غنيمة -سمير نمر – جان شمعون – محمد توفيق – عدنان مدانات، وغيرهم.
هناك إجماع على أن بدايات السينما الثورية، كانت بعّمان (عام 1968)، حيث تأسست فكرة (وحدة أفلام فلسطين) على يدي (مصطفى أبو علي، وسلافة جاد الله، والشهيد هاني جوهرية)، وفي العام 1969 انتجت الوحدة أول أفلامها (لا للحلّ السلمي)، الذي صوره هاني جوهرية، وسلافة جاد الله، وهو عمل جماعي بإشراف مصطفى.
في هذا الكتاب، (خمسة سيناريوهات)، أنجزها المخرج الفلسطيني (مصطفى أبو علي)–(رائد سينما الثورة – 1968 – 1982)، هي:
1. أيام الحب والموت.
2. بانتظار السلام.
3. الغريب.
4. شعارات.
5. التطهير العرقي.
هذه (السيناريوهات)، هي مشاريع لأفلام روائية وتسجيلية، طويلة وقصيرة – أنجزها الراحل الصديق (مصطفى أبو علي)، أثناء حياته، وللأسف، لم يتمكن من تنفيذها، كما حدث مع سيناريو فيلم (المتشائل) عن رواية (إميل حبيبي)، الذي لم ينفذ كفيلم. وقد كنت أحد الشهود في بيروت السبعينات على ولادة هذا السيناريو. وكنت مُهتماً به، بسبب صداقتي الشخصية مع إميل حبيبي، ومصطفى أبو علي معاً: ففي عام (1980) زرت (براغ)، ونمتُ في منزل (أبي سلام)، وتحاورنا حول السيناريو، وأظهر لي رضاه وموافقته مع إبداء بعض الملاحظات الصغيرة، لكنه ختم كلامه لي بأن المشكلة ليست في (الرواية والسيناريو). المشكلة تكمن في البحث عن(منتج) قادر على التكاليف، ولمحّ لي بأن على صاحب السيناريو، أن يراجع القيادة الفلسطينية، ومثقفيها الأقربين، فنصحته بأن يُفاتحهم عندما يزورون (براغ)، فوعد خيراً.وأبلغت (مصطفى) بكل ما جرى بيني وبين إميل حبيبي
أول السيناريوهات الخمسة، التي يشملها الكتاب، هو (سيناريو أيام الحب والموت) عن رواية صديقنا الروائي الفلسطيني (رشاد أبو شاور): هذا السيناريو، يحكي حكاية (قرية ذكرين الخليلية)، التي احتلها الإسرائيليون عام 1948، والتي ينتمي لها مؤلف الرواية: كيفية سقوطها بعد مقاومة أهلها ببسالة، حيث كانت (مستوطنة موسى) تجاورها، وتعتدي عليها. يبدأ السيناريو بحوار بين شخصيتين هما: (محمد المرابع، وأبو محمود)، وأم محمود، التي ترضع طفلها، حيث يبدأ هجوم جنود المستوطنة اليهودية على القرية. بعدها يظهر اسم مؤسسة السينما الفلسطينية، وتبدأ حوارات (أبو سليم، وأبو عبد الله)، وأغاني النسوة اللواتي يُحرضنَ على الصمود.
ويعرض السيناريو لخلفيات تاريخية، مركزها (ظلم الإقطاع) ممثلاً في (عشيرة العواونة)، الذين جاءوا من (الحجاز)، وحطوا الرحال قرب (بيت جبرين)، ونشروا الرعب في قلوب أهالي القرى المجاورة. وكانت أراضي (خليل المرابع)، قد استولى عليها (العواونة)، فصار يعمل في أرض الآخرين. اشتعلت الثورة ضد الإنجليز، لأنهم أصل البلاء. عدد سكان قرية (ذكرين) هو حوالي ألف شخص. يمنح السيناريو مساحة لصراع الفلاحين مع الإقطاع (العواونة)، الذي يقودهم (داهم)، الذين باع الأرض لليهود. وجرت معارك كرّ وفر بين أهالي القرية واليهود. كما يتعرض السيناريو لدخول بعض الجيوش العربية (حسن الشاويش، ومجيد السوداني). وكيف واجه رجال قرية ذكرين مشكلة نقص السلاح. وهاجم اليهود قرية (دير ياسين) التي جرت فيها مذبحة مشهورة. واستشهد عدد من رجال (ذكرين) وهم يقاومون. لكن (خالد الشتايرة) لاحق (داهم العواونة)، صديق الانجليز، إلى (الخليل)، وأطلق عليه النار (داهم يا خاين… خُذْ)… وأرسل بندقيته هدية إلى (أم محمود).
بانتظار السلام (فيلم روائي)
(وليد أبو عزيز)، كاتب ومثقف معروف، حصل على رقم وطني وهوية، أي أصبح لديه حق الإقامة في فلسطين، حسب (اتفاق أوسلو)، وهو من مواليد (حيفا) قبل التهجير عام 1948. يقيم ابنه (سليم) في عمان، ويقرر الانتقال إلى (مدينة رام الله) للإقامة فيها بشكل دائم، ويرغب بنقل ابنه من الجامعة الأردنية إلى (جامعة بير زيت)، بالرغم من ظروف (انتفاضة الأقصى). يستعين بصديقه الحميم (كمال عيسى) الصحفي المعروف في رام الله. يعيد الاتصال بـ (خاله) المزارع المقيم في ضواحي المدينة. كما يتابع (طلب لمّ الشمل) الذي قدّمه لإبنه منذ ثمانية شهور. يتعرف (وليد) على (منى) من خلال (كمال). منى سيدة جميلة في الثلاثينات من مدينة (عكا) تعيش داخل الخط الأخضر، وتتضامن مع الانتفاضة. تنشأ علاقة حب بين وليد ومنى. يقول (المؤلف) بأنه يمكن النظر للفلم في مستويين: مستوى الأحداث الظاهرة للعيان، وهي كثيرة وكافية بحد ذاتها للمشاهد العادي، وفي مستوى أعمق، لمن يرغب أن يقرأ الأحداث والمشاهد في معانيها الخفية. ثم يصف السيناريو الشخصيات (وليد – منى – كمال) وهي الشخصيات الأساسية. وهناك شخصيات ثانوية (الخال، سعاد، أنطون، رئيس التحرير).
الغريب (سيناريو فيلم روائي طويل)
(زياد) هو الشخصية الرئيسة في منتصف الثلاثينات من العمر، عاش عمره خارج فلسطين. حصل على تصريح لزيارة المناطق الفلسطينية، وقرر أن يبقى، متجاوزاً مدة الإقامة التي يسمح بها التصريح الإسرائيلي. وهكذا أصبح (خارجاً عن القانون) الإسرائيلي، قانون الاحتلال. إنه روح حُرّة. أما (محمود) فهو أقرب صديق لزياد، وعمره مثل زياد في منتصف الثلاثينات ويعمل موظفاً في إحدى الشركات الخاصة. يكره عمله ورئيسه، ويبحث عن بديل آخر. أما (ليلى)، فهي صديقة زياد، في أواخر العشرينات من عمرها. تحب زياد كثيراً، لكنه يخيب أملها دائماً. إنها في صراع دائم بين حبها له ويأسها منه. وهناك (جان الفرنسي) في الثلاثينات من عمره. قدم إلى فلسطين مع آخرين ضمن حركة التضامن مع قضية الشعب الفلسطيني. مهندس معماري، دافئ ومنفتح على الحياة، وله تجارب عديدة. وهناك شخصية (صاحبة البيت): سيدة في الخمسينات، تلبس اللباس القروي الفلسطيني، حنونة وسلطوية. تعرف ما تريد، خاصة حين يجيء موعد (دفع أجرة غرفة زياد). هناك أيضاً (لصّان) أحدهما طويل والآخر قصير شهواني. و(صاحب الفرن) رجل في الخمسينات، ذو ملامح غليظة، صارم وحازم. وهناك ما يقرب من (26 دوراً صغيراً) في السيناريو.
شعارات (فيلم تسجيلي)
يحكي سيناريو فيلم (شعارات) قصة بطل (الفيلم) – وهو شخصية حقيقية – (أبو علي مقبل) مع الشعارات المطروحة في المظاهرات العامة في (رام الله). وكانت هذه الظواهر سابقاً في (بيروت عاصمة الثورة الفلسطينية) في عصرها الذهبي (1972 – 1982) –حيث كان (أبو توفيق بسيسو) مسؤول الإعلام الجماهيري، يقود الجماهير في منطقة جامعة بيروت العربية، والفاكهاني، ومخيمات بيروت.
من هو (أبو علي مقبل): ولد أبو علي مقبل في (مدينة الرملة) عام 1945. وانتقلت عائلته عام 1948 إلى رام الله. أكمل دراسة القانون في جامعة دمشق. كان أبو علي ينتمي سياسياً إلى التيار الناصري. وكان أبو علي يهتف عام 1956 بعد تأميم قناة السويس – في المظاهرات: (عبد الناصر يا جمالْ… فلسطين بعد القنالْ)… الخ. ثم انضم أبو علي مقبل إلى (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين). ثمّ (الجبهة الديموقراطية). ثمّ أصبح مقرباً من حركة فتح، وقد سجنه (أبو عمّار)، أكثر من (خمس مرات) عقاباً له على بعض الشعارات التي تنتقد سياسة القيادة، ومع هذا كان عضوا في المجلس الوطني الفلسطيني، وعمل في الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية. وهو متزوج وله أربعة أبناء.
يتحدث السيناريو عن (قصة تأليف الشعارات في المظاهرات)، وما هي خصائصها، وكيف يقوم أبو علي بتأليفها. فالفيلم يحاول استكشاف طبيعة الشعار السياسي الفلسطيني.
التطهير العرقي
(مشروع) فيلم تسجيلي تليفزيوني (90 دقيقة)، تقدم به المخرج مصطفى أبو علي، عام (2008)، وتضمن السيناريو ما يلي: (فكرة الفيلم – المرجع التاريخي – عينة من المعلومات التي سيتضمنها الفيلم – المعالجة السينمائية – المسلسل التلفزيوني – عينة من سيناريو الفيلم.
تعتمد فكرة الفيلم على كتاب البروفيسور الإسرائيلي (إيلان بابه)، وهو بعنوان (التطهير العرقي)، صدرت ترجمته العربية، يشرح فيه (الخطة دالت = الخطة د)، التي صاغها (أحد عشر قيادياً إسرائيلياً، بقيادة ديفيد بن غوريون) بتاريخ (10/3/1948)، حيث اقتلع ما يقرب من (مليون فلسطيني) من وطنهم الأصلي فلسطين، وأصبحوا لاجئين في المنافي حتى اليوم يطالبون بـِ (حق العودة، والتعويض). ويشرح كيف صيغت (مؤامرة حقيقية)، حيث تم تدمير المدن والقرى الفلسطينية، وكيف تمت أكبر عملية (تطهير عرقي) في التاريخ الحديث، بتدمير (531 قرية)، وإخلاء (11 حياً مدنياً) من سكانه. وكان عدد من (المؤرخين الإسرائيليين الجدد) بقيادة (بيني موريس) و(إيلان بابه)، وغيرهم، قد اعترفوا (لأول مرّة) بعد الكشف عن الأرشيف الإسرائيلي – بأن (إسرائيل تأسست على بحر من الدم الفلسطيني)، وأنها ليست (دولة نظيفة) كما أدّعى بن غوريون عام 1948، بل هي (دولة عنصرية هتلرية).
(خمسة سيناريوهات)، تركها المخرج الفلسطيني مصطفى أبو علي قبل رحيله عن دنيانا، لم يُنفذ منها أي سيناريو. توضع أمام القارئ، بعد أن لملمتها (عائلته) من زوايا النسيان، تاركين (لمن يهمه الأمر)، أمر إمكانية تنفيذها. فقد بذل (الراحل) جهداً كبيراً في عرض أعماله على جهات تمويل عديدة دون جدوى!!. باستثناء الفلم التسجيلي ” شعارات” الذي وافقت قناة الجزيرة الوثائقية على انتاجه قبل وفاة مصطفى بفترة قصيرة. فما السبب في عدم حصول مصطفى على تمويل لسيناريوهات الأفلام الروائية؟ تعددت الأسباب، والموت واحد. أسُمّي هذه السيناريوهات، (أحلام مصطفى أبو علي ابن قرية المالحة المقدسية)، رائد سينما الثورة الفلسطينية في الفترة (1968 – 1982). وبنشر هذه السيناريوهات في كتاب، تواصل عائلة أبو علي، الاهتمام بذكراه في هذا الزمن الصعب*.
عمَّان 9-9-2016
(عز الدين المناصرة): شاعر وناقد ثقافي، صدر له أول كتاب في العالم العربي بعنوان (السينما الإسرائيلية) عن مؤسسة السينما الفلسطينية عام (1975). وحصل عام (1976) على شهادة تقدير كناقد سينمائي من مهرجان طشقند الدولي. وكان عضواً في الهيئة الإدارية للنادي السينمائي العربي في بيروت، 1976.
* الفلسطينيون هم روّاد السينما العربية، فقد كان فيلم (قبلة في الصحراء)، (1927)، الذي مثلته المصرية (عزيزة أمير) هو أول فيلم روائي صامت في تاريخ السينما العربية، أنتجه وأخرجه الفلسطينيان (إبراهيم وبدر لاما) من بيت لحم في (الإسكندرية)، وهما من أسسَّا نادي (مينا فيلم).
مصطفى وحلم الفيلم الروائي
خديجة حباشنة
تخرج مصطفى من معهد السينما في النصف الثاني من عام 1967 ومنذ ذلك الوقت وهو يحلم بإنتاج أفلام تعبر عن همومه وأحلامه كشاب تميز منذ طفولته بحس فني مرهف، وعن هموم ومعاناة شعبه التي عايشها منذ نعومة أظفاره. وقد جاء تخرجه مباشرة بعد حرب حزيران 1967، حيث كان العمل الفدائي آنذاك قبلة الشباب الفلسطيني والعربي، بعد الهزيمة النكراء التي منيت بها الجيوش العربية أمام إسرائيل، واحتلالها للبقية الباقية من أرض فلسطين.
عاد الفنان الشاب إلى عمان وبدأ عمله كمخرج في قسم السينما في وزارة الإعلام الأردنية حيث التقى بزميله في الدراسة المصور السينمائي هاني جوهرية وبسلافة جاد الله أول مصورة سينمائية عربية. وفي النصف الثاني من العام 1968، تبلورت لديهم فكرة تأسيس «وحدة أفلام فلسطين» في جهاز إعلام حركة فتح.
وما كادت الوحدة الوليدة تخطو خطوتها الأولى حتى طوحت بها الأحداث بعد خروج حركة المقاومة الفلسطينية من الأردن، وليكون قدر مصطفى أن يحمل عبء المسؤولية لوحده، ليعمل على فيلم «بالروح بالدم»، ثم على تطوير الوحدة لاحقاً إلى مؤسسة للسينماً تحتضن عدداً من السينمائيين الفلسطينيين والعرب، بل وتحتضن وتساهم في تطوير ظاهرة سينمائية عالمية حول القضية الفلسطينية.
جاء فيلم «بالروح…بالدم» الذي أنتج عام 1971 والحائز على جائزة الأفلام المتوسطة الطول في مهرجان دمشق الأول لسينما الشباب عام 1972، ليلفت الأنظار لمصطفى كمخرج لسينما من نوع جديد، سينما تبحث عن لغة ومفردات فنية مختلفة عن تلك المألوفة في السينما السائدة، وليحصل الفلم على جائزة المهرجان للأفلام المتوسطة الطول. وتوالت الأفلام رغم الصعوبات التي واجهتها الوحدة من سوء الفهم لأهمية السينما من بعض القيادات السياسية (بلا سينما.. بلا هم) ومن الفهم الإعلامي والسياسي القاصر، وضعف الإمكانيات، وتوالت الجوائز، حتى بلغت ثلاثة عشر جائزة حصل عليها مصطفى من مهرجانات عربية ودولية وهو يتابع في هذه الأفلام وغيرها عملية التجريب والبحث الدؤوب عن لغة سينمائية بسيطة وعميقة وجميلة أيضاً، سينما قريبة من الناس يمكن تسميتها «سينما الشعب من أجل الشعب» كما يقول في أكثر من مناسبة.
ورغم تميز مصطفى بلغة سينمائية نضالية خاصة تجلت في أفلامه التسجيلية، إلا أن مصطفى كان يحلم باليوم الذي يتمكن فيه من إخراج أفلام روائية قادرة على التعبير عنه وعن هموم الإنسان الفلسطيني، والوصول إلى أوسع قطاع من المشاهدين في العالم.
وقد بدأ قبل منتصف السبعينات بقليل يتجه نحو الفيلم الروائي، حيث يستطيع من خلاله إعادة بناء الأحداث الإنسانية التي يصعب التعبير عنها في الفيلم التسجيلي، فكانت محاولته الأولى إعداد سيناريو عن رواية الكاتب الروائي الفلسطيني رشاد أبو شاور «أيام الحب والموت» وتقع أحداثها أثناء حرب العام 1948 الذي عرف بعام النكبة الفلسطينية، إلا أنه تقرر إيقاف العمل بعد أن قطع مصطفى شوطاً في العمل عليه. كانت هذه الخيبة الأولى ربما أمام حلم مصطفى في عمل فيلم روائي. وبعد عدد من السنين تجدد حلمه بإخراج فيلم المتشائل عن رواية الكاتب الفلسطيني إميل حبيبي «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبو النحس المتشائل»، وبعد أن استغرق ما يقارب الثلاثة أعوام في العمل على السيناريو والحصول على موافقة بل إعجاب كاتب الرواية بالسيناريو، وترجمة السيناريو إلى اللغة الفرنسية لإعداد دراسة الجدوى، والتوصل لعدد من اتفاقيات الإنتاج المشترك مع عدد من الدول العربية، جاءته الخيبة الثانية عندما تقرر إيقاف العمل على الفيلم بعد الاجتياح الإسرائيلي وحصار بيروت عام 1982.
لم يتخلّ مصطفى في يوم من الأيام عن أحلامه بإخراج أفلام روائية فقد حاول أن يستقل بعد خروج م.ت.ف من لبنان، ويعتمد على جهوده لتحقيق تلك الأحلام، وقام بتأسيس «شركة بيسان» في عمان عام 1984 التي عانت معه صعوبة الحركة وضيق ذات اليد. فمن أين للفنان المناضل الذي أختار أصعب الطرق لتحقيق أحلامه أن يجد السبيل لذلك. بعد أن غص مجال السينما والفن بالباحثين عن الشهرة والمال، وأساليب العمل الملتوية التي لا يمكن لفنان بحساسية وشفافية مصطفى أن يعمل بها.
ففي عقد السبعينات كان من المستحيل الحصول على تمويل لفيلم فلسطيني ولفنان ملتزم مثل مصطفى، كما لم يقبل هو نفسه بعد ذلك أن يصنع أفلاماً بأموال غير نظيفة أو بشروط تتناقض مع قناعاته. وقد توفي وفي نفسه أكثر من غصة لعدم تحقيق حلمه في صنع أفلامه الروائية، كما في عدم تقدير الساسة وأصحاب القرار في وطنه للفن السينمائي ولإنجازاته الفنية والوطنية فيه.
وكما حاول في بيروت وعمان أعاد المحاولة بعد العودة إلى رام الله، عندما أعاد تأسيس «جماعة السينما الفلسطينية» التي سبق وبادر إلى تأسيسها عام 1973 في بيروت، ولم يتوقف عن وضع المشاريع لإعادة تأسيس مكتبة أفلام فلسطين (سينماتيك)، وإنشاء صندوق وطني لدعم السينمائيين الفلسطينيين، وظل يكتب السيناريو تلو الآخر، على مدى السنوات العشر التي قضاها في فلسطين، عدد من السيناريوهات وجدت بين أوراقه، بعضها تسجيلي مثل: سيناريو فيلم «التطهير العرقي» المأخوذ عن كتاب آلان بابيه الكاتب والأستاذ الجامعي الإسرائيلي، وسيناريو فيلم «شعارات»: الذي وافقت على إنتاجه قناة الجزيرة الوثائقية كإنتاج مشترك قبل وفاته بوقت قصير. كما وجد من بين السيناريوهات التي تركها خلفه سيناريو لفيلم روائي بعنوان «الغريب», الذي تبين أنه أرسله إلى صندوق الثقافة العربية بعنوان «البوم صور» لطلب المشاركة في إنتاجه أثناء وجوده في المستشفى، قبل وفاته بأسبوع. لم ييأس ولم يستسلم وهو يسعى لتحقيق أحلامه بإصرار عنيد حتى النفس الأخير.
لقد كان التزام مصطفى بالنضال الوطني مصدر إلهام لأفكاره الثورية وتجاربه السينمائية، إلا أن هذا الالتزام والإيمان ذاته خلق الظروف التي وضعت العوائق في طريق تحقيق أحلامه الفنية. ففي عقد السبعينات كان من المستحيل الحصول على تمويل لفيلم فلسطيني ولفنان ملتزم مثل مصطفى، كما لم يقبل هو نفسه بعد ذلك أن يصنع أفلاماً بأموال غير نظيفة أو بشروط تتناقض مع قناعاته. وقد توفي وفي نفسه أكثر من غصة لعدم تحقيق حلمه في صنع أفلامه الروائية، كما في عدم تقدير الساسة وأصحاب القرار في وطنه للفن السينمائي ولإنجازاته الفنية والوطنية فيه.
في هذا الكتاب تنشر عائلته عدداً من سيناريوهات مصطفى التي وجدت على جهاز الحاسوب الخاص به*، بناءً على نصيحه من صديقه الناقد السينمائي سمير فريد، وشعوراً منها بالمسؤولية ووفاءً لجهوده وإبداعاته كرائد من رواد السينما النضالية.
عمان: 25/ 10/2016
(خديجة حباشنة): كاتبة وسينمائية،عملت مع مؤسسة السينما الفلسطينية كمخرجة ومديرة لقسم الأرشيف والسينماتيك في 1974 – 1982.
* باستثناء السيناريو الروائي «أيام الحب والموت» الذي وجد في أرشيف الناقد السينمائي التونسي عبد الكريم قابوس وتفضل مشكوراً بتزويد عائلة المخرج بنسخة من السيناريو المحفوظة لديه.