الكاتب شاهد على عصره، موهبته فرضت عليه أن يرى الواقع بعين أخرى، عين المدقق والمحلل، ربما ليعيد ما تم إختزاله إلى فن في النهاية أو لتوثيقه بطريقته الخاصة، لذلك فهو أصدق من يعبّر عن قضايا مجتمعه ومشاكله، ولعل من أهم القضايا التي شغلت وتشغل كل عربي هي قضية فلسطين، تلك القضية التي دامت إلى أكثر من ستة عقود دون حل فعلي وعادل… كيف يراها كُتاب هذا الجيل من المصريين؟
الحنين إلى الشغف
تقول رانيا هلال صاحبة مجموعة «دوار البر» الفائزة بجائزة ساويرس، لـ رمان: لم تعد الأحزان وحيدة مفردة، بعدما كانت القضية الفلسطينية محور اهتمامنا ومتابعاتنا طوال فترة الطفولة والشباب، تكاثرت الهموم العربية داخليًا وخارجيًا فأضحت نظرتنا للدماء والقتلى معتادة ولم يعد مشهد قتل الشهيد الفلسطيني محمد الدرة يفجعنا كما كانت أول مرة. أصبحنا نرى كل يوم داعش تمثّل بالعشرات من الجثث والإرهاب يحصد المئات فى العديد من الدول ومصر على رأسها.
كل هذه المشاهد التي نألفها يوماً بعد يوم أودت بالكثير من الآمال والأحلام التى أخذت تتراءى لنا شباباً وأطفالاً ومن أبرزها عودة الأرض المغتصبة من المحتل الصهيوني.
ومع ارتفاع الأسعار فى مصر وتعويم الجنيه ورفع الدعم بنسبة كبيرة إضافة لغياب الرقابة وانتشار الجشع بين التجار أصبح هم كل عائل لأسرة أو شاب يواجه الواقع بمفرده أن يجد لنفسه موطأ قدم، فرصة عمل تؤمّن له احتياجاته الأساسية، أو كما نقول تؤمّن فقط “حد الكفاف”.
وأتساءل فى ظل هذه الظروف العصيبة كيف يتسنى لأب وأم كادحين أن يجدا الوقت والطاقة والبراح النفسي والمادي حتى يغرسا قيم الانتماء وحب الوطن فى نفوس أطفالهم ناهيك عن الانتماء العربي والكفاح الفلسطيني ضد الاحتلال. كيف لشاب أن يحمل الهم الفلسطيني وهو غارق حتى أذنيه فى دوامة لا تنتهي من الصراعات النفسية والاجتماعية والمادية من بعد آماله التى تحطمت بعد ثورة يناير.
الشتات هو عنوان المرحلة التى لم تنته بعد فى العالم العربي، شتات داخل الأوطان وخارجها، يعلم الجميع أن ما يحدث من مفاوضات ومؤتمرات لحل مستجدات القضية الفلسطينية وإدانة وشجب وتنديد من قبل كل الدول بما يفعله الكيان الصهيوني، ما هو إلا استكمال لمحاولات بائسة فى تمثيلية معادة مملة.
الحسرة والعجز والصمت هو ما يعتري جيلاً بأكمله كممت أفواهه بالعوز والاحتياج وخيبة الأمل ولازال يرى ويصمت قهراً، ومع ذلك لازلنا نحمل داخلنا ذلك الشغف القديم لفلسطين، وما إن نرى بارقة أمل -حتى وإن كانت مؤقتة- حتى نستعيد حنينا إليها المتواري خلف أستار همومنا اليومية.
الهموم الداخلية تطغي
ويؤكد الروائي والقاص مصطفي الشيمي الحاصل على العديد من الجوائز منها جائزة دبي الثقافية عن مجموعة «بنت حلوة وعود» لـ رمّان: مشكلة فلسطين، في ظني، هي أنها لم تعد تمثل أهمية كبرى في شتى البلدان التي مرت بما يُعرف بالربيع العربي، فهذه الثورات تركت البلاد في وضع صعب، وما دامت البلاد مشتعلة كلها، وتأكلها النيران، فإن خصوصية الوضع السياسي لفلسطين، قد تراجع إلى الخلف قليلاً، وهذا أمر طبيعي.. على سبيل المثال، فإن المواطن المصري الآن، مهموم أكثر بارتفاع أسعار البنزين، والدولار، الذي سبب ارتفاع أسعار كل شيء، وهو يراقب جيدًا حال السوق الذي يبدو كأنه على كف عفريت. عند الوقوف على منحدر، اقتصادي، فإن أعين الجميع تعود إلى الداخل، رغم اهتمام المصريين طوال الوقت السابق بالقضية الفلسطينية، وكذلك اهتمام الدولة بها باعتبارها قضية تمس أمنها القومي، أو من قبل تيارات أخرى تنازعت على حق امتلاك القضية، لتسويق وجودها السياسي، إلا أن قيمة القضية الفلسطينية الدينية لم تتأثر -كثيرًا- بهذا الصراع على السلطة في مصر.
أنا أيضًا، المتيم بفلسطين، بشعرائها ومطربيها، لا أتابع ما يحدث هناك، بقدر ما أتابع الوضع في مصر، والاقتصادي منه خاصة، حتى الآمال السياسية، والمطالبات بالحقوق والحريات، فقد انزوت إلى ركن قصي، ولم تعد تمثل أولوية لدي في الوقت الحالي، والتفكير في بلدان أخرى، في هذا الوقت الصعب، يعد رفاهية، ومثالية في رأيي. أعتقد أنه، بعد عبور هذه اللحظة التاريخية الصعبة، فإن القضية الفلسطينية ستعود إلى مكانتها، كما كانت، فهي محاولة لإبادة شعب كامل، مثلما حدث مع السكان الأصليين، الهنود الحمر، في أميركا، لكن هذه الإبادة تتم بأدوات هذا العصر، وبلغة جديدة.
حنظلة يتساءل: وين الجيوش العربية؟
وسام جنيدي روائي وقاص مصري صدر له رواية «نانسي وأصدقاؤها» بالإضافة إلى مجموعة قصصية بعنوان «منزل مليئ بالقطط».. يصرّح جنيدي لموقع رمّان: منذ الصغر وأحلام القومية العربية، وصورة العربي الممشوق، وحلم تحرير القدس والقضية الفلسطينية في عقلي وقلبي، مع مرور الوقت ومع موت الشيخ ياسين راعني منظر حنظلة الذي رسمه ناجي العلي، لتكون تنفيسًا عن غضبه ضد السياسيين الإسرائليين والفلسطينين على السواء، وعندما شاهدت الفيلم المكتوب عن قصة حياة ناجي العلي الذي أخرجه عاطف الطيب رحمه الله، استرعى انتباهي شخصية محمود الجندي، السكير الذي ظل أثناء الغزو ينتظر الجيوش العربية، وظل السؤال يتردد على لسانه طوال الوقت بعد يقينه بعدم مجئيها “وين الجيوش العربية؟” فتكوّن عندي شخصية مشتركة في خيالي تعبّر عما يدور في خلدي، صورة حنظلة وهو يدير ظهره للعرب أجمعين وينفث عن غضبه بالكلمات ولكن إذا ما استدرنا لرؤية وجهه لرأينا وجه هذا الطفل ساخرًا وربما متساءلاً “وين الجيوش العربية ؟”.
كل شيء يسيّس عدا حنظلة، الذي تحول مع الوقت إلى “تعليقة رقبة” يأتي بها أشقائنا الفلسطينون هدية لنا في مصر عند زيارتنا، حنظلة الطفل الذي أصبح سكيراً في أفكاري لا يهادن، ولا يرضى بالحلول الوسط ولا المكاسب الوقتية أوالمكانية البسيطة، حنظلة لن يترك أهله ولا أرضه سيظل منتظراً للجيوش العربية، حنظلة لن يهادن ولن يقبل بالموائمات السياسية بين الأحزاب المتعددة، حنظلة سيسامح على ما حدث له في المخيمات من قتل إذا ما جاءت الجيوش العربية، حنظلة هو أجمل ما في القضية الفلسطينية، الأرض والأيديولوجيات والمعتقدات لا تعنيني، يعنيني أن يدير حنظلة وجهه للعالم ثانية، يسامح، يعود لدراسته ويعود لمنزله، حنظلة هو القضية الفلسطينية، لا الأرض.
الظلم الأكبر
الكاتب عمرو العادلي صدر له العديد من الروايات والمجموعات القصصية حصل على جائزة ساويرس عن مجموعة «حكايات يوسف إدريس» وجائزة الدولة التشجيعية عن رواية «الزيارة» بالأضافة إلى تصدّر روايته الأخيرة «اسمي فاطمة» قائمة البيست سيلر.. يتحدث حول تلك الإشكالية قائلاً: القضية الفلسطينية، أنا ولدت فوجدتها جرحًا لا يداويه الزمن ولا القادة العرب. وهي جرح ليس فقط لأنها دولة عربية. ولكنها لو لم تكن عربية مسلمة لكنت سأتعاطف معها أيضًا، فهي أكبر ظلم تاريخي وقع على شعب منذ بداية التاريخ، لأن الدول التي تحتل دولاً أخرى كانت تعود إلى ديارها بعد أن تتم أعمال السلب والتخريب.
لكن في المسألة الفلسطينية الأمر يختلف. إذ أن من احتلوها اختلقوا في خيالهم بلداً. ولكنهم في الحقيقة بلا بلد ولا منطق. لذلك فالشعب الفلسطيني يبقى أشجع شعوب الأرض وأبسلهم في التفنن في الدفاع عن أرضه منذ سبعين سنة. وما ساهم في خفوت القضية العربية الأساسية، وهي القضية الفلسطينية، في المرحلة الأخيرة هو بروز قضايا عربية أخرى مثل الخراب والدمار في العراق ومشكلة اللاجئين في سوريا والإرهاب في ليبيا. وتخبط المواقف العربية في مصر والسعودية والإمارات. كل ذلك جعل القضية الفلسطينية جزءاً من كل. ولكن برغم ذلك فتلك القضية تمثل لي الكثير من محاولة التمسك بأهداب الكرامة العربية المهدرة في السنوات الأخيرة.
فلسطين في القلب والعقل
أما الكاتب محمد علاء الدين صاحب رواية «إنجيل آدم» و«الصنم» و«القدم» و«كلب بلدي مدرب»، والذي أصدر العديد من المجموعات القصصية ومنها «الحياة السرية للمواطن م» فإنه يرى أن: فلسطين ما زالت هنا، لم تعد فقط في القلب، بل في العقل. ربما أدى دخولها العقل إلى تحييد بعض من العاطفة، ولكنه، وفعلاً، فقد قادك العقل لأسئلة أخرى تعيد تشكيل المعضلة، فشعور الظلم كعاطفة تحوّل لسؤال عن العدل، وشعور الهوية تحول لسؤال عن تشكلها، والدفع بالحق توسع ليشمل كل من ولد على هذه الأرض في يومنا هذا.
تحولت فلسطين لمثال عظيم على كيفية اختراع المجتمعات، والثقافة، والفنون. تحولت لمثال بديع، هي والنظر إليها معًا، عن إعادة التوصيف، إعادة التعيين، إعادة التفسير. ما تزال فلسطين تعني لي أشياء كثيرة، أهمها الحب من بعيد، وكيف يمكنك أن تحب ما لا تعرف، وربما جزء من المحبة يكمن في هذا الجهل، بالضبط كمن يميل لإسرائيل في دولة من دول الشمال الاسكندنافي.
أفكر كثيرًا في بقعة من الأرض، في شعب بالأحرى، تم اختطافه مرتين: مرة من سفن بعيدة أتت من الشمال، ومرة من إناس لهم ذات الأسماء وذات الملامح وذات اللغة، تاجروا به في القصور والمطابع وقاعات الندوات والمؤتمرات. كيف تم اختطافنا، بشكل أو بآخر، بسبب اختطاف هذا الشعب. كيف حرمنا من بعض حقوقنا، لأن هذا الشعب قد حرم من أغلب حقوقه.
تأتي المفارقة من تخيل أن حلاً ما لأزمة فلسطين ربما لا يحل أزمتنا؛ سيجدون الإيرانيين، أو الأتراك، أو الماسونيين، أو غزاة الفضاء، ليحدثوننا عن “الخطر المحيق بنا”، ويرجوننا أن نصمت لأن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة. على العموم، نتحدث عن فلسطين وليس عنا، إن كان هذا التفريق ممكنًا جدًا في هذه البقعة من الجغرافيا وهذه البقعة من التاريخ. أتمنى أن يجد كل أبناء فلسطين، من كل الأعراق والأديان والطوائف، مكانًا تحت الشمس، مكانًا يعيشون فيه بعدل وكرامة وحرية، مكانًا يسع كل من ينتمي لهذه الأرض، لا تزال فلسطين في القلب والعقل، طبعًا.
الحنين إلى الشغف
تقول رانيا هلال صاحبة مجموعة «دوار البر» الفائزة بجائزة ساويرس، لـ رمان: لم تعد الأحزان وحيدة مفردة، بعدما كانت القضية الفلسطينية محور اهتمامنا ومتابعاتنا طوال فترة الطفولة والشباب، تكاثرت الهموم العربية داخليًا وخارجيًا فأضحت نظرتنا للدماء والقتلى معتادة ولم يعد مشهد قتل الشهيد الفلسطيني محمد الدرة يفجعنا كما كانت أول مرة. أصبحنا نرى كل يوم داعش تمثّل بالعشرات من الجثث والإرهاب يحصد المئات فى العديد من الدول ومصر على رأسها.
كل هذه المشاهد التي نألفها يوماً بعد يوم أودت بالكثير من الآمال والأحلام التى أخذت تتراءى لنا شباباً وأطفالاً ومن أبرزها عودة الأرض المغتصبة من المحتل الصهيوني.
ومع ارتفاع الأسعار فى مصر وتعويم الجنيه ورفع الدعم بنسبة كبيرة إضافة لغياب الرقابة وانتشار الجشع بين التجار أصبح هم كل عائل لأسرة أو شاب يواجه الواقع بمفرده أن يجد لنفسه موطأ قدم، فرصة عمل تؤمّن له احتياجاته الأساسية، أو كما نقول تؤمّن فقط “حد الكفاف”.
وأتساءل فى ظل هذه الظروف العصيبة كيف يتسنى لأب وأم كادحين أن يجدا الوقت والطاقة والبراح النفسي والمادي حتى يغرسا قيم الانتماء وحب الوطن فى نفوس أطفالهم ناهيك عن الانتماء العربي والكفاح الفلسطيني ضد الاحتلال. كيف لشاب أن يحمل الهم الفلسطيني وهو غارق حتى أذنيه فى دوامة لا تنتهي من الصراعات النفسية والاجتماعية والمادية من بعد آماله التى تحطمت بعد ثورة يناير.
الشتات هو عنوان المرحلة التى لم تنته بعد فى العالم العربي، شتات داخل الأوطان وخارجها، يعلم الجميع أن ما يحدث من مفاوضات ومؤتمرات لحل مستجدات القضية الفلسطينية وإدانة وشجب وتنديد من قبل كل الدول بما يفعله الكيان الصهيوني، ما هو إلا استكمال لمحاولات بائسة فى تمثيلية معادة مملة.
الحسرة والعجز والصمت هو ما يعتري جيلاً بأكمله كممت أفواهه بالعوز والاحتياج وخيبة الأمل ولازال يرى ويصمت قهراً، ومع ذلك لازلنا نحمل داخلنا ذلك الشغف القديم لفلسطين، وما إن نرى بارقة أمل -حتى وإن كانت مؤقتة- حتى نستعيد حنينا إليها المتواري خلف أستار همومنا اليومية.
الهموم الداخلية تطغي
ويؤكد الروائي والقاص مصطفي الشيمي الحاصل على العديد من الجوائز منها جائزة دبي الثقافية عن مجموعة «بنت حلوة وعود» لـ رمّان: مشكلة فلسطين، في ظني، هي أنها لم تعد تمثل أهمية كبرى في شتى البلدان التي مرت بما يُعرف بالربيع العربي، فهذه الثورات تركت البلاد في وضع صعب، وما دامت البلاد مشتعلة كلها، وتأكلها النيران، فإن خصوصية الوضع السياسي لفلسطين، قد تراجع إلى الخلف قليلاً، وهذا أمر طبيعي.. على سبيل المثال، فإن المواطن المصري الآن، مهموم أكثر بارتفاع أسعار البنزين، والدولار، الذي سبب ارتفاع أسعار كل شيء، وهو يراقب جيدًا حال السوق الذي يبدو كأنه على كف عفريت. عند الوقوف على منحدر، اقتصادي، فإن أعين الجميع تعود إلى الداخل، رغم اهتمام المصريين طوال الوقت السابق بالقضية الفلسطينية، وكذلك اهتمام الدولة بها باعتبارها قضية تمس أمنها القومي، أو من قبل تيارات أخرى تنازعت على حق امتلاك القضية، لتسويق وجودها السياسي، إلا أن قيمة القضية الفلسطينية الدينية لم تتأثر -كثيرًا- بهذا الصراع على السلطة في مصر.
أنا أيضًا، المتيم بفلسطين، بشعرائها ومطربيها، لا أتابع ما يحدث هناك، بقدر ما أتابع الوضع في مصر، والاقتصادي منه خاصة، حتى الآمال السياسية، والمطالبات بالحقوق والحريات، فقد انزوت إلى ركن قصي، ولم تعد تمثل أولوية لدي في الوقت الحالي، والتفكير في بلدان أخرى، في هذا الوقت الصعب، يعد رفاهية، ومثالية في رأيي. أعتقد أنه، بعد عبور هذه اللحظة التاريخية الصعبة، فإن القضية الفلسطينية ستعود إلى مكانتها، كما كانت، فهي محاولة لإبادة شعب كامل، مثلما حدث مع السكان الأصليين، الهنود الحمر، في أميركا، لكن هذه الإبادة تتم بأدوات هذا العصر، وبلغة جديدة.
حنظلة يتساءل: وين الجيوش العربية؟
وسام جنيدي روائي وقاص مصري صدر له رواية «نانسي وأصدقاؤها» بالإضافة إلى مجموعة قصصية بعنوان «منزل مليئ بالقطط».. يصرّح جنيدي لموقع رمّان: منذ الصغر وأحلام القومية العربية، وصورة العربي الممشوق، وحلم تحرير القدس والقضية الفلسطينية في عقلي وقلبي، مع مرور الوقت ومع موت الشيخ ياسين راعني منظر حنظلة الذي رسمه ناجي العلي، لتكون تنفيسًا عن غضبه ضد السياسيين الإسرائليين والفلسطينين على السواء، وعندما شاهدت الفيلم المكتوب عن قصة حياة ناجي العلي الذي أخرجه عاطف الطيب رحمه الله، استرعى انتباهي شخصية محمود الجندي، السكير الذي ظل أثناء الغزو ينتظر الجيوش العربية، وظل السؤال يتردد على لسانه طوال الوقت بعد يقينه بعدم مجئيها “وين الجيوش العربية؟” فتكوّن عندي شخصية مشتركة في خيالي تعبّر عما يدور في خلدي، صورة حنظلة وهو يدير ظهره للعرب أجمعين وينفث عن غضبه بالكلمات ولكن إذا ما استدرنا لرؤية وجهه لرأينا وجه هذا الطفل ساخرًا وربما متساءلاً “وين الجيوش العربية ؟”.
كل شيء يسيّس عدا حنظلة، الذي تحول مع الوقت إلى “تعليقة رقبة” يأتي بها أشقائنا الفلسطينون هدية لنا في مصر عند زيارتنا، حنظلة الطفل الذي أصبح سكيراً في أفكاري لا يهادن، ولا يرضى بالحلول الوسط ولا المكاسب الوقتية أوالمكانية البسيطة، حنظلة لن يترك أهله ولا أرضه سيظل منتظراً للجيوش العربية، حنظلة لن يهادن ولن يقبل بالموائمات السياسية بين الأحزاب المتعددة، حنظلة سيسامح على ما حدث له في المخيمات من قتل إذا ما جاءت الجيوش العربية، حنظلة هو أجمل ما في القضية الفلسطينية، الأرض والأيديولوجيات والمعتقدات لا تعنيني، يعنيني أن يدير حنظلة وجهه للعالم ثانية، يسامح، يعود لدراسته ويعود لمنزله، حنظلة هو القضية الفلسطينية، لا الأرض.
الظلم الأكبر
الكاتب عمرو العادلي صدر له العديد من الروايات والمجموعات القصصية حصل على جائزة ساويرس عن مجموعة «حكايات يوسف إدريس» وجائزة الدولة التشجيعية عن رواية «الزيارة» بالأضافة إلى تصدّر روايته الأخيرة «اسمي فاطمة» قائمة البيست سيلر.. يتحدث حول تلك الإشكالية قائلاً: القضية الفلسطينية، أنا ولدت فوجدتها جرحًا لا يداويه الزمن ولا القادة العرب. وهي جرح ليس فقط لأنها دولة عربية. ولكنها لو لم تكن عربية مسلمة لكنت سأتعاطف معها أيضًا، فهي أكبر ظلم تاريخي وقع على شعب منذ بداية التاريخ، لأن الدول التي تحتل دولاً أخرى كانت تعود إلى ديارها بعد أن تتم أعمال السلب والتخريب.
لكن في المسألة الفلسطينية الأمر يختلف. إذ أن من احتلوها اختلقوا في خيالهم بلداً. ولكنهم في الحقيقة بلا بلد ولا منطق. لذلك فالشعب الفلسطيني يبقى أشجع شعوب الأرض وأبسلهم في التفنن في الدفاع عن أرضه منذ سبعين سنة. وما ساهم في خفوت القضية العربية الأساسية، وهي القضية الفلسطينية، في المرحلة الأخيرة هو بروز قضايا عربية أخرى مثل الخراب والدمار في العراق ومشكلة اللاجئين في سوريا والإرهاب في ليبيا. وتخبط المواقف العربية في مصر والسعودية والإمارات. كل ذلك جعل القضية الفلسطينية جزءاً من كل. ولكن برغم ذلك فتلك القضية تمثل لي الكثير من محاولة التمسك بأهداب الكرامة العربية المهدرة في السنوات الأخيرة.
فلسطين في القلب والعقل
أما الكاتب محمد علاء الدين صاحب رواية «إنجيل آدم» و«الصنم» و«القدم» و«كلب بلدي مدرب»، والذي أصدر العديد من المجموعات القصصية ومنها «الحياة السرية للمواطن م» فإنه يرى أن: فلسطين ما زالت هنا، لم تعد فقط في القلب، بل في العقل. ربما أدى دخولها العقل إلى تحييد بعض من العاطفة، ولكنه، وفعلاً، فقد قادك العقل لأسئلة أخرى تعيد تشكيل المعضلة، فشعور الظلم كعاطفة تحوّل لسؤال عن العدل، وشعور الهوية تحول لسؤال عن تشكلها، والدفع بالحق توسع ليشمل كل من ولد على هذه الأرض في يومنا هذا.
تحولت فلسطين لمثال عظيم على كيفية اختراع المجتمعات، والثقافة، والفنون. تحولت لمثال بديع، هي والنظر إليها معًا، عن إعادة التوصيف، إعادة التعيين، إعادة التفسير. ما تزال فلسطين تعني لي أشياء كثيرة، أهمها الحب من بعيد، وكيف يمكنك أن تحب ما لا تعرف، وربما جزء من المحبة يكمن في هذا الجهل، بالضبط كمن يميل لإسرائيل في دولة من دول الشمال الاسكندنافي.
أفكر كثيرًا في بقعة من الأرض، في شعب بالأحرى، تم اختطافه مرتين: مرة من سفن بعيدة أتت من الشمال، ومرة من إناس لهم ذات الأسماء وذات الملامح وذات اللغة، تاجروا به في القصور والمطابع وقاعات الندوات والمؤتمرات. كيف تم اختطافنا، بشكل أو بآخر، بسبب اختطاف هذا الشعب. كيف حرمنا من بعض حقوقنا، لأن هذا الشعب قد حرم من أغلب حقوقه.
تأتي المفارقة من تخيل أن حلاً ما لأزمة فلسطين ربما لا يحل أزمتنا؛ سيجدون الإيرانيين، أو الأتراك، أو الماسونيين، أو غزاة الفضاء، ليحدثوننا عن “الخطر المحيق بنا”، ويرجوننا أن نصمت لأن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة. على العموم، نتحدث عن فلسطين وليس عنا، إن كان هذا التفريق ممكنًا جدًا في هذه البقعة من الجغرافيا وهذه البقعة من التاريخ. أتمنى أن يجد كل أبناء فلسطين، من كل الأعراق والأديان والطوائف، مكانًا تحت الشمس، مكانًا يعيشون فيه بعدل وكرامة وحرية، مكانًا يسع كل من ينتمي لهذه الأرض، لا تزال فلسطين في القلب والعقل، طبعًا.
الكاتب: عمرو عاشور