(ما قيل لألكسندر بوب، مترجم “الأوديسة” إلى الإنكليزية، في كتاب صموئيل جونسون “حياة بوب”)
نُشر العدد الأول من مجلة MPT (الشعر الحديث المترجم) في لندن سنة 1965، وقد أسّسها تيد هيوز ودانييل وايسبورت صديقه الحميم منذ أيام حياتهما الجامعية في كيمبريدج. كان هدفهما الأول هو طباعة مجلة عالية المستوى منخفضة التكاليف ومنفتحة على شعر العالم، وخصوصاً أوروبا الشرقية في الستينيات والسبعينيات حيث يتوهّج الشعر في “قلب الكارثة”، حيوياً في انفتاحه الحقّ على العالم، “لا يتهيّب الفلسفة، أكثر كونية من الشعر الإنكليزي [وضرورياً] لتحفيز صناعة الشعر في هذا البلد [إنكلترا]” بتعبير تيد هيوز، وهو رأي شاطره إياه صديقه شيمَس هيني الذي استعاد بطريقته الميراث الشعري في شرق أوروبا. أمام مقولة أدورنو: “بربريةٌ هي كتابةُ الشعر بعد أوشفيتز” استضاء تيد هيوز بالشعراء “ضحايا” القمع السوفييتي، يتامى ستالين.
إلى الآن، لا تزال مجلة MPT محتفظة بتقليدها في طباعة أعدادها على ورق رقيق كورق الكتاب المقدس، ودأبت على الاكتفاء بالترجمات فحسب، ووضع الشعر الأجنبي من مختلف لغات العالم بفرادة مخياله وحممه الإنسانية والسياسية داخل الشعر الإنكليزي، المحاصر بنفسه في جزيرة بريطانيا إن جاز القول، وإخصاب الأخير باستعارات القصائد المترجمة وأجنبيتها وغرابة صورها، حتى لو فقدت كامل موسيقاها الأصلية.
تضمن ذلك العدد الأول قصائد من زبيغنييف هربرت وجيسواف ميووش وفاسكو بوبا وإيفان لاليتش وميروسلاف هولوب وشعراء آخرين. كان لتيد هيوز دور حاسم في نشر سلسلة لدى دار بنغوين ضمّت دواوين شعراء أوروبا الشرقية باللغة الإنكليزية أشرف عليها أ. ألفاريز (وازاها في الرواية سلسلة أخرى لأدباء أوروبا الشرقية أشرف على تحريرها فيليب روث).
على النقيض من فيليب لاركين، آمن تيد هيوز بجدوى الشعر الأجنبي وضرورة خروج كل شعر من سجن لغته التي يُكتب بها. كانت الترجمة فتنة حياته وجزءاً أساسياً من عمله الشعري، لا يكاد يضاهيها إلا معايشته للأساطير والحكايات الخرافية والفلكلورية طوال حياته. رأى الشعر صوت الروح والخيال قدّام المصيبة المادية التي يواجهها العالم، وكان أحد أسئلته الكبرى هو: “كيف ستُقال التجربة الروحية داخل الخواء المكتظّ بشتى أشكال التديّن؟” وجد بعضاً من الجواب في الترجمة، وعدّ نفسه على الدوام مترجماً (لا بالمعنى التقليدي لمصطلح “الترجمة” طبعاً)، رغم استفزازه لكثيرين استهجنوا هذه المفارقة، إذ لم يكن يجيد أية لغة أجنبية، ربما باستثناء الفرنسية؛ “ترجم” في “صحراء الحبّ” قصائد للشاعر المجري يانوش بيلينسكي كان أثرها كبيراً على قصائد ديوانه “الغراب” وأغنياته “الخالية من الموسيقى أياً كانت”. (لنتذكر هنا مثالاً آخر هو قصيدة إدغار ألن بو “الغراب” التي ترجمها بيسوا إلى قصيدة موزونة، بينما ترجمها بودلير ومالارميه نثراً أو “شعراً منثوراً”). قلما خرج بيلينسكي عن لغته الفقيرة بعد جنون القتل في أوروبا الحضارات عقب الحرب العالمية الثانية، ومتقشّفاً أمام الكوابيس لخّص طموحه الشعري ببضع كلمات: “أودّ الكتابة وكأنني أبقى صامتاً”، وكتب: “حيثما سقطتَ ستبقى. في الكون كله، هذا هو مكانك”.
“ترجم” تيد هيوز قصائد يهودا عميخاي، معتمداً في البداية على ترجمات حرفية نقلتها عن العبرية آسيا غوتمان (ويفيل)، شريكته أثناء فترة زواجه من سيلفيا بلاث، وكانت في تلك المسودات صور شدّته لقربها من عوالمه الشخصية، مثل “فمٌ باكٍ وفمٌ ضاحك/في عراكٍ مرير أمام حشدٍ صامت”، أو “ذئاب تأتي لتعوي على الكلاب التي صارت عبيدَ البشر”، أو “من الجرح في صدري/يحدّق الله بالعالم./ أنا بابُ شقّته”. كما “ترجم” هيوز مسرحيات راسين وسينيكا وجورج شحادة، وتحرّى هواجسه في الكتابة واحتياجاته النفسية والروحية عبر “ترجمته” للعديد من المآسي الإغريقية، لأن كلّ فن حوار داخل الحاضر الواسع للإنسان، أو الحاضر المؤبّد إن صح التعبير. “ترجم” كذلك كتاب الموتى التيبتي و “النبي” لبوشكين وتحولات أوفيد التي لمس في تضاعيفها منذ البداية شيئاً من أدب الأطفال (ولربما الكثير من الأدب الجادّ يتاخم الأدب المكتوب للطفل)، ولا ننسى إنه قد كتب للصغار أعمالاً عديدة ورواية تجمع بين الخيال العلمي والقصص الخرافية، وهي “الرجل الحديدي” التي أتبعها بـ “المرأة الحديدية”، ولا علاقة لهذين العملين بمرغريت ثاتشر أو المسلسل المدبلج الذي لاقى رواجاً بالعربية في الثمانينيات…
ربما كان دور هيوز الأساسي هو الاشتغال على ترجمات حرفية نُسخت كلمةً بكلمة، وكأنها صورة شعاعية تظهر فيها عظام القصيدة الأصلية الحيّة، أو إضفاء اللمسات الإنكليزية، “النهائية” والحاسمة جمالياً، على حصيلة جهود مشتركة مع مترجمين آخرين لم يكونوا بالضرورة كتاباً وشعراء. المقصود بالترجمة “الحرفية” هنا هو ترجمة كلمات القصيدة وإغفال موسيقاها، مع المحافظة على الاستعارات والصور والتراكيب، بغض النظر عن غرابتها، وكتم الطنين البلاغي وتقليص صقل العبارات والتدخلات “الشعرية” إلى حدودها الدنيا الممكنة. كانت الترجمة الحرفية مثاله ومحرّضَ خياله الشعري بشكل من الأشكال، وليس المقصود التقيد بالحذافير بل الحفاظ على جذوة الأصل ما أمكن، فكتب، مسترجعاً فكرة “المحاكاة” التي سمّى بها روبرت لويل ترجماته، قائلاً: “فنّ الترجمة الحرفية ليس إلا تسجيل التأثير الذي تتركه مخيلةُ شاعرٍ على مخيلة شاعر آخر”، وقال في مناسبة أخرى، متطرّقاً إلى سحر الخلل والكلام المكسّر الذي يفشل في الإفصاح عما يريده صاحبه: “إنّ مَن لديه شيئاً جدياً حقاً ليقوله في لغةٍ لا يعرف منها إلا بضعَ كلمات سيتوصّلُ إلى قول ما يريد بطريقةٍ أكثر إقناعاً وتأثيراً من أي مترجم”. لكنّ هيوز، الحريص على انتقاء المفردات والتراكيب، لم يلتزم بمقولته هذه، ففي عدد الـ MPT المخصص للشعر المجريّ، قدّم نسخته الحرّة من قصيدة ف. يوهاتش التي أدهشته، وهي: “الصبيّ الذي تحوّل إلى وعل صارخاً أمام بوّابة الأسرار”.
لاحقاً استلم تحرير مجلة MPT كلٌّ من ديفيد وهيلين كونستانتين، ثم أخيراً ساشا داغديل التي ستترك رئاسة التحرير بعد صدور العدد المقبل في خريف 2017 كي تتفرغ لكتابتها وترجماتها عن اللغة الروسية، حيث ستنهي كتاباً عن سيرة بوشكين. واحدٌ من الأسباب التي دفعتها إلى هذا القرار هو تلقي كمية هائلة من المراسلات، الإلكترونية في عصرنا، وكان تيد هيوز قد ترك المجلة للسبب ذاته فيما مضى، وسخر من نفسه حين رسم المحرّر منكبّاً على مكتبه، مدفوناً تحت ركامٍ من الرسائل.