وإذا جاز الكلام بأثر رجعي فإن ما التهمته الدولة الإسرائيلية، في مثل هذه الأيام، كان أضخم وأهم وجبة على مائدة الكلمة الجائعة، على مدار سبعة عقود من الزمن، هي عمر الدولة الإسرائيلية الآن، وقرابة مائة وعشرين عاماً من الصراع في فلسطين وعليها بين الحركة الصهيونية من ناحية، والفلسطينيين والعالم العربي، من ناحية ثانية. فإلى جانب ما تبقى من فلسطين الانتدابية، احتل الإسرائيليون في العام 1967 مساحات شاسعة من الأراضي العربية: شبه جزيرة سيناء المصرية، وهضبة الجولان السورية.
بيد أن في دلالة “الجوع” ما يتجاوز ابتلاع الأرض. للجوع، في حالة الدولة الإسرائيلية، وهي فريدة بين التجارب الدولانية في العالم، مضامين ومصادر تاريخية، وميثولوجية، وثقافية، وسياسية، أعقد من عمر الصراع في فلسطين وعليها، وأبعد من الرقعة الجغرافية لفلسطين في آسيا الغربية، منذ أواخر القرن التاسع عشر، وحتى مطلع قرن وألفية جديدين. وكلها، أي المضامين والمصادر، تُستمد مِنْ، وتتخلّق في، التجربة التاريخية لليهود واليهودية، في أربعة أركان الكون، على مدار عشرين قرناً من الزمان.
لذا، يكاد هذا الجوع يكون ميتافيزيقياً تماماً، طالما أن لا إمكانية واقعية لإشباعه دون تصفية الحساب مع التاريخ نفسه. وهذا مصدر خصوصيته، وصعوبة تعريفه، لا لاستحالة تصفية الحساب مع التاريخ وحسب (كأن تُعيد قرطاج، وهي اليوم من ضواحي تونس العاصمة، تصفية حساب مع روما، وهي اليوم عاصمة لإيطاليا، لتسديد فواتير حرب نشبت في القرن الثاني قبل الميلاد)، ولكن لأن ما يُراد تسديده من فواتير “تراكمت” على مدار عشرين قرناً من الزمان، يستمد دوافعه، ومبرراته، من قراءة انتقائية، وتحيّزات أيديولوجية، تبلورت في، ونجمت عن، المخيال الكولونيالي الغربي، في القرن التاسع عشر، وتجلّت في آخر موجاته الكبرى في القرن العشرين. ناهيك عن حقيقة أن الجانب الأكبر مما تراكم (سواء في روسيا القيصرية في القرن التاسع عشر، أو في الحرب العالمية الثانية، مثلاً) وقع في مناطق مختلفة من العالم، ولا ناقة للفلسطينيين فيه ولا جمل.
بيد أن الميتافيزيقي، في الحالة الإسرائيلية، حتى وإن استعصى على التعريف، يتجلى في ما أسمته جاكلين روز بالنزوع المسيائي (الخلاصي) في جوهر الصهيونية كمشروع وأيديولوجيا، وحذّرت من عواقبه الكارثية لا على الفلسطينيين وحسب، ولكن على اليهود والإسرائيليين أنفسهم، أيضاً(1). وقد سبقت المؤسسة اليهودية الأرثدوكسية، خاصة في أوروبا الوسطى، روز بعقود كثيرة، في اعتراضها على الصهيونية، التي وصفتها بالشبتائية، في إشارة إلى حركة شبتاي تسفي الميسيائية في القرن السابع عشر، التي ألحقت باليهودية جراحاً عاطفية ولاهوتية لم تندمل حتى الآن. وبقدر ما يعنينا الأمر، فإن الميتافيزيقي، في الحالة الإسرائيلية، يُعطّل كل إمكانية محتملة للإحساس بالشبع. وهذه مفارقة من عيار ثقيل.
فالدولة اليهودية، كما تجلّت في أذهان آباء الصهيونية الأوائل، كانت الشرط الأوّل والأساس لتطبيع وجود اليهود في العالم، وضمانة لكسر “الاستثناء اليهودي”. وغالباً ما استخدم هؤلاء تعبيرات يمكن وصفها اليوم بالمعادية للسامية. فقد تكلموا عن ضرورة تحويل اليهود إلى “بشر أسوياء” على اعتبار أنهم ما دون ذلك. وهذا ما نعثر عليه، أيضاً، في شعار حركة التنوير اليهودية “أن تكون يهودياً في البيت وإنساناً في الشارع”. وفي حين كان الشعار في نظر مثقفي الهاسكالاه مدخلاً لدمج اليهود في مجتمعات يعيشون بين ظهرانيها، أصبح لدى آباء الصهيونية نتيجة طبيعية للانفصال، فاليهودي، في نظرهم، لن يكون طبيعياً ما لم ينفصل عن الآخرين، ويعيش في دولة تخصه.
ولكن ما فات هؤلاء كان، في الواقع، مصدر قلق لدى أبرز المثقفين اليهود في القرن العشرين، الذين حذروا من مخاطر إيقاظ الشياطين النائمة في اللغة والمخيال التوراتيين، ففي كليهما ما يعرقل كل احتمال للتطبيع، ويضمن ديمومة الاستثناء. كتب غيرشوم شولم، قبل تسعين عاماً: “ماذا عن جعل العبرية واقعاً على الأرض، يعتقد المرء أن اللغة تعلمنت، وأن الشوكة القيامية نُزعت منها، ولكن هذا غير صحيح، بالتأكيد”(2).
من الواضح أن شولم، وهو أحد أبرز مؤرخي الميسيائية والصوفية اليهودية في القرن الماضي، كان مُصيباً في حدسه، بقدر ما نعرف، اليوم، عندما نجول في أنحاء الضفة الغربية، ونقرأ الأسماء التوراتية لمستوطنات يواصل قاطنوها الحرب على العماليق القدامى، ولا يرون في وجوه الفلسطينيين، في القرى، أكثر من مجرّد أقنعة لفلاّحين أوكرانيين وبولنديين نكّلوا باليهود في القرن التاسع عشر.
ولا نعرف، في الواقع، ما إذا كان الخوف من تداعيات بعيدة المدى، وكارثية في كل الأحوال، “للشوكة القيامية” من دوافع ومُحرّضات موجة ما بعد الصهيونية، التي صعدت في الأكاديميا الإسرائيلية، في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، وانتهت عملياً مع اندلاع الانتفاضة الثانية. ولكنها تبدو، بأثر رجعي، كمحاولة للقول إن في مجرّد وجود الدولة ما يعني أن المشروع الأصلي قد اكتمل، وهي على قدر من القوّة والثقة بالنفس، إلى حد يمكنها من التعامل مع التاريخ والذاكرة كما يفعل آخرون في دول وبلدان طبيعية.
ويبدو أن تلك كانت خلاصة متسرّعة، ومتفائلة أكثر مما يجب. ففي معرض تحليله لنجاح الاحتلال في البقاء خمسة عقود من الزمن، على الرغم من الإدانة الدولية، ومقاومة الفلسطينيين، يذكر غيرشون شافير، وهو أحد نشطاء الموجة في علم الاجتماع الإسرائيلي، أن ديمومة الاحتلال نجمت عن رغبة إسرائيل في استكمال مشروع بناء الدولة بالاستيطان تمهيداً لضم أجزاء من الأراضي المحتلة. لذا، فضّلت الاستيطان على السلام، وحتى على الأمن، في كل مناسبة لاحت فيها فرص دبلوماسية وسياسية لحل الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، والصراع العربي ـ الإسرائيلي.
جاء تحليل شافير في كتاب نشره في أبريل (نيسان) الماضي بعنوان “نصف قرن من الاحتلال: إسرائيل، فلسطين، والصراع الأصعب في العالم” (3) بمناسبة خمسينية الاحتلال، المناسبة التي شهدت نشر العديد من الدراسات في هذا الخصوص. ففي السياق نفسه نشر الكاتب والباحث الأميركي، المقيم حالياً في القدس، ناثان ثرال كتاباً في مايو (آيار) الماضي بعنوان لافت: “اللغة الوحيدة التي يفهمونها: فرض التسوية في فلسطين وإسرائيل” (4)، وخلاصته لا تبتعد كثيراً عن خلاصة شافير، فإسرائيل، في نظره، تُفضّل الاستيطان على السلام، ولن تتقدّم في اتجاه تسوية سلمية مع الفلسطينيين ما لم تتعرّض للضغط من جانب الولايات المتحدة.
ويتجلى الوجه الآخر لخلاصة شافير، وثرال، في مرافعة المؤرخ الإسرائيلي، المختص في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، ماتي شتاينبرغ، الذي حاول التدليل في كتاب بعنوان “البحث عن الأمة الفلسطينية الحديثة” (5) على بطلان مقولة “لا شريك” يمكن التفاوض معه، التي يتذرّع بها الساسة الإسرائيليون لتفسير ترددهم في التوصل إلى تسوية سلمية مع الفلسطينيين. فعلاوة على وجود الشريك، يرى شتاينبرغ أن تحوّلات عميقة طرأت على الحركة الوطنية الفلسطينية، وأن لدى الفلسطينيين الاستعداد للعيش والتعايش مع الإسرائيليين.
وفي السياق نفسه، ثمة ما يبرر الإشارة إلى ميكا غودمان، المُختص في تاريخ الفلسفة اليهودية، الذي أثار كتابه “اقبض 67” (6) ضجة في إسرائيل، وتصدّر قائمة أكثر الكتب مبيعاً. عالج غودمان الصراعات النفسية التي تعتمل في نفس ما يدعوه بالإسرائيلي العادي، أي المنتمي إلى التيار الاجتماعي الرئيس. وهذا الإسرائيلي يمكن، في نظره، أن يكون يمينياً ويسارياً في آن، وهذا مصدر حيرته. فأغلب الإسرائيليين يقر في استطلاعات الرأي بضرورة الانسحاب من الأراضي المحتلة لتفادي تحوّل إسرائيل إلى دولة ثنائية القومية، وهؤلاء أيضاً مَنْ يرفض الانسحاب من الضفة الغربية لأنهم لا يثقون في نوايا الفلسطينيين. وهذا الموقف المتناقض بشأن البقاء في الضفة الغربية أو مغادرتها يمكن أن يطيح بالمشروع الصهيوني نفسه.
وبالعودة إلى إسرائيل ككلمة جائعة يجدر القول إن ما يسم موقف أغلب الإسرائيليين من تناقض أبعد بكثير من تحليل غودمان لما طرأ على بنية المجتمع الإسرائيلي من تحوّلات في ظل خمسة عقود من الاحتلال. فجذور التناقض كامنة في بنية المشروع الصهيوني نفسه، وقد تجلى في ثلاثينيات القرن الماضي، أي قبل قيام الدولة، في صراع بين ما عُرف آنذاك بالصهيونية العملية من ناحية، واليمين الصهيوني من ناحية ثانية، واختُزل في سؤال ومعادلة: إسرائيل أكبر ويهود أقل، أم إسرائيل أصغر ويهود أكثر؟ وثمة ما يبرر القول، في الواقع، أن الصراع الأيديولوجي لم يُحسم بعد، وربما لن يُحسم أبداً، خاصة وأن الشوكة القيامية، التي تكلّم عنها شولم لم تكن في يوم من الأيام أقوى مما هي عليه الآن.
أخيراً، إذا كان الإسرائيليون قد حققوا أهم انتصار في تاريخهم قبل خمسين عاماً، فإن ما انطوى عليه من تداعيات بعيدة المدى، المنظور منها، والمُحتمل، قد يعيد التذكير بمقولة ذائعة الصيت للروائية البريطانية ماري كروس، المعروفة باسم الشهرة جورج إليوت: “ثمة انتصارات كثيرة أسوأ من هزائم”.
في لحظة السيطرة على كامل فلسطين الانتدابية، أعاد الإسرائيليون الفلسطينيين، وحتى فلسطين نفسها، إلى سكة التاريخ. ففي الفترة ما بين عامي 1948 ـ 1967 خرج اسم فلسطين في العالم من التداول (باستثناء العالم العربي). واليوم، على الرغم من كل الحيل البلاغية التي استخدمها الإسرائيليون على مدار خمسة عقود لتسمية الضفة الغربية وقطاع غزة (المناطق المُدارة، يهود والسامرة، مناطق مُتنازع عليها، مناطق الحكم الذاتي) إلا أن اسم فلسطين يجاور، منذ سنوات، اسم إسرائيل (Palestine-Israel)، لا في الدراسات الأكاديمية، والمحافل الدولية وحسب، ولكن في وسائل إعلام التيار الرئيس في العالم، ووسائل إعلام إسرائيلية، أيضاً.
وهذا الجوار يكتسي نوعاً من الغموض الإبداعي، إذا جازت التسمية. فقد يكون المقصود بفلسطين الضفة الغربية وقطاع غزة، وقد يكون المقصود، على سبيل النزاهة الأخلاقية والسياسية، أن الاسمين يشيران إلى الرقعة الجغرافية نفسها بين ساحل المتوسط ونهر الأردن، أو، على سبيل التحيّز، أن أحدهما قد يكون بديلاً للآخر. والواقع أن في مجرّد هذا القدر من التكرار، والالتباس، واختلاط المعاني والدلالات، ما ينم عن تحوّلات جوفية عميقة طرأت على الصراع في فلسطين وعليها، وغيّرت ملامحه، على مدار العقود الخمسة الماضية.
بمعنى آخر، وبصرف النظر عمّا حدث ويحدث في السياسة اليومية، وعن السيناريوهات المحتملة للتسوية السياسية، لا ينبغي للفلسطينيين الاكتفاء بإحصاء خسائرهم، بل ثمة ما يبرر إحصاء ما أضافه واقع لم يكن من صنعهم، في أغلب الأحيان، من أوراق في رصيدهم. فإسرائيل كلمة جائعة، وفي الجوع ما يفسّر الكثير من عمى البصر والبصيرة.
هوامش:
1- Jacqueline Rose, The Question of Zion (Princeton University Press 2007)
2- ورد في “على الجانب الصحيح للمتراس” أمنون راز كراكُتسكين (الكرمل الجديد ربيع –صيف 2012) ص 88
3- Gershon Shafir, A Half Century of Occupation: Israel, Palestine, and the World's Most Intractable Conflict, (University of California 2017)
4- Nathan Thrall, The Only Language they Understand: Forcing compromise in Israel and Palestine (Metropolitan Books 2017)
5- Matti Steinberg, In Search of Modern Palestinian Nationhood (Moshe Dayan Center for Middle Eastern and African Studies 2016)
6- “A Best-Selling Israeli Philosopher Examines His Country’s Inner Conflict”, The NewYork Times June 9 2017.