مليئة هي بيوتنا بالخزف… فناجين قهوة بزخرفة الحطة الفلسطينية، أواني طبخ نتباهى أنها من الخليل، رسومات معلقة على الجدران على شكل مفتاح العودة، تماثيل لعرس فلسطيني نصراوي مصنوع من الفخار، والكثير من تفاصيل تشبه الوطن الذي نطالب إلى اللحظة بالعودة إليه، وكأن تلك الخزفيات ما هي إلا هوية نريد إظهارها لكل من دق بابنا، وهذا تحديداً ما نقلته المخرجة الفلسطينية/الدينماركية لاريسا صنصور، ابنة القدس، في فيلمها الأخير «في المستقبل، أكلوا من أفخر أنواع الخزف» الذي تعرّض مؤخراً إلى حملة عنصرية من قبل مؤسسة تدعم الصهيونية توجهت برسالة إلى صالة “باربيكان” في لندن تطالبها بمنع عرض الفيلم، والحجة أن هذا الفيلم يتعرض لحق اليهود في فلسطين وبالتالي هذا الفيلم يعادي السامية وهي الديباجة الحمقاء التي ما زال تأثيرها موجوداً.
كيان صهيوني قائم على أشلاء بشر وحجر وشجر، يمتلك أقوى ترسانة حربية، يخاف من صلصال موجود في فيلم سينمائي يندرج تحت فئة الخيال العلمي، وهذا من شأنه يؤكد فعلًا على قدرة السينما على صناعة الفرق دائماً، خاصة إذا نقلت الحقيقة النابعة من واقع مؤكد.
هذا الفيلم القصير مبني على طريقة جديدة لحفظ الهوية الفلسطينية بعيداً عن التاريخ المزور الذي تعتمده ”إسرائيل“، تتحرك فيه المخرجة من خلال البحث عن مكان بعيد لدفن ما حدث في فلسطين حقيقة منذ النكبة على شكل شخصيات من الصلصال والخزف، موجودة في كوكب بعيد عن الأرض وتأمل بيوم من الأيام أن يجد أحدهم طريقه إليهم وينتشلهم من الحفر التي تم دفنهم فيها وينقل قصتهم إلى كواكب الفضاء كلها بما فيها كوكب الأرض.
في البناء السريالي للأحداث لغة من السهل أن تخاطب بها الغرب، وهذا هدف من أهداف صنصور، فالسينما سلاح من نوع آخر، يراد منه إيصال ما لم تستطع السياسة أن توصله من خلال قصص من الواقع، هي تتأمل في فيلمها أن ينصفها علماء الآثار الذين أنصفوا تاريخياً حضارات وثقافات شعوب متعاقبة، لأن علم الآثار في لحظة كشف الحقيقة يتخطى حدوده العلمية ليصبح مدافعاً شرساً عن ما أخفقت عنه السياسة يوماً.
لا شك أن المزج في طريقة صناعة الفيلم بين مشاهد حية ومشاهدة جرافيك، له سحره في المخاطبة، بخاصة مع وجود الشخصيات الرئيسية التي ترفض كل ما قاله التاريخ عنهم ويتمسكون بروايتهم ويتأملون أن ثمة من سيأتي ويطالب بحقوقهم في أراضيهم قبل أن تصبح تلك المطالبة ترفاً.
كمية الرموز في الفيلم ثيمة تعتمدها صنصور في الصناعة، مثل ما حدث مع فيلمها الذي حمل عنوان «مبنى الأمة» فقد حضرت الحطة الفلسطينية وشجرة الزيتون والمفتاح، لكن في هذا الفيلم ارتأت طريقة مغايرة من خلال محطة سفر، وبأدوات فنتازية، تسمع خلال الفيلم وكأنك في مطار كبير جداً، الصوت الذي ينادي على الرحلات، فيسمع المشاهد نداء ”رام الله في الطابق الثالث، القدس الطابق الرابع، بيت لحم في الطابق الخامس“، مع مسافرين يرتدون الملابس ذاتها، في حضرة فتاة جامدة الملامح باستثناء عيونها التي تحكي كل الألم، تمشي ببطء مع حقيبتها لتقف أمام المصعد، تدخل وتجد أشخاصاً يرتدون رداءها نفسه، يسلمون على بعضهم بصمت، المصعد لا توجد فيه أرقام، بل أسماء المدن الفلسطينية التاريخية، كل راكب يختار المدينة التي يريدها، ليكتشف المشاهد، أن الطوابق عبارة عن مبنى ضخم أشبه بناطحة سحاب، تأوي الشعب الفلسطيني كله، وما عليه إلا أن ينظر من النافذة ليشاهد وطنه. المبنى سجن كبير في وسط الوطن الحلم، والتمسك بالثقافة الفلسطينية حاضرٌ ولو من خلال طبق ”ملوخية“، وحياة الفلسطيني اللاجئ التي تختصر بالرموز، موجودة في علب بالمطبخ، حسب رؤية المخرجة صنصور التي صنعت فيلمها بتقنية عالية، وبفكرة جديدة تدخل إلى شكل صناعة السينما الفلسطينية.
الحكاية تكمن دائماً بقدرة السينما على تحقيق الفرق، ولاريسا صنصور كغيرها من السينمائيين الفلسطينيين الذين وجدوا أن القضية يجب أن تجوب العالم بلغة تجمع الجميع، يقولونها دون شعارات، ولا خطابات ولا صور مناضلين معلقة على الجدران، ولا شعارات الأحزاب المتنوعة والمختلفة بطبيعة الحال، يحكونها كما هي بلا بطولات وبلا انتصارات وخيبات، ينقلونها من نبع أحاسيسهم، لذلك فقط استطاعت السينما الفلسطينية أن تقدم المميز وتتنقّل من محفل دولي إلى آخر محملة بكبرى الجوائز، وتكون الكابوس الذي يخض مضجع المُحتل.