صدر كتاب “معضلات لينين: الإرهاب، الحرب، الإمبراطورية، الحب، الثورة” للكاتب والصحفي وصانع الأفلام طارق علي في أبريل الماضي بمناسبة مئوية الثورة الروسية، وفي أبريل، وبالتحديد بعد مئة عام من «أطروحات أبريل» للينين؛ التي دعا فيها للانخراط في القتال بعد ثورة فبراير الناجحة، التي أسقطت القيصر، لكنها لم تأت بالسوفييت إلى السلطة.
يبرز لنا كتاب طارق علي لينين غير المعروف، لينين الذي أحب الأدب اللاتيني، والموسيقى الكلاسيكية، والذي تأثر للغاية بالاضطرابات السياسية، في الوقت التي كانت تؤثر بشكل وثيق على عائلته.
يرى التاريخ أن لينين مجرد ديكتاتور قاس، لذا، سيكون من المفاجئ أن نسمع عن التزام لينين بالديمقراطية. في هذا الحوار مع راديو جاكوبين؛ يكشف سوزان وايزمان وطارق علي الأساطير والافتراءات التي التصقت بدور لينين في التاريخ، ويساعدانا، في تقييم أفكار لينين وأفعاله، ويطرحان سؤال صلة لينين بما لدينا اليوم.
في كتابك، تعطينا صورة للينين الذي لم نره، حبه للأدب، وللغة اللاتينية، والشطرنج، وتأثير موت أخيه عليه.
هذه هي الأشياء التي لا يتم الحديث عنها لأسباب عديدة منها؛ ما فعلته القيادة السوفييتية بلينين بعد موته. كان المكتب السياسي قد اتخذ قرارًا بتحنيطه، وعرض جثته على العامة، ليحولوه إلى قديس بيزنطي. وهذا تقليد مشهور جدًا في الكنيسة الأرثوذكسية، وعلى الرغم من أن بعض أعضاء المكتب السياسي لم يكونوا مؤيدين لذلك، لكنهم لم يستطيعوا مواجهة الأمر، ذلك أنه قد بدا مذهبيًا.
دعت ناديا كروبسكايا، أرملة لينين، وأختاه القيادة وقلن: “كان لينين سيكره ذلك، لقد احتقر كل أشكال التأليه، أرجوكم أن تدفنوه تحت حائط الكرملين حيث دفن القيادات والنشطاء، لا تفعلوا به ذلك”.
لكنهم كانوا قد فعلوا به ذلك، وقد كانت حركة ذكية، لقد استطاعوا استخدام لينين، خاصة في سنوات حكم ستالين، الذي أعيد بناؤه من جديد فلم يكن ستالين قد التقط صوراً مع لينين.
ستالين بالتحديد فعل هذا، بالطبع كان قد قابل لينين كثيرًا في اجتماعات المكتب السياسي، لكن لإظهار أنهم أصدقاء، زُوّرت الكثير من الصور، ورُسمت الكثير من اللوحات، لإثبات أن هناك تواصل غير محدود بين لينين، وفكره، وما بقى في الاتحاد السوفييتي في الثلاثينيات.
هناك مجموعتان مختلفتان من الناس يصدقون هذا أو ذاك، الأولى هي القيادة الستالينية في روسيا، والثانية كانت الغرب.
فقد بات يجمعهم حلف غير مقدس في هذا الشأن. يقول الستالينيون، “ما نفعله هو استمرار لعمل الرفيق لينين”، وما يقوله الغرب وقياداته وأيديلوجياته “نعم، لقد كان لينين هو الأساس لكل ما يجري في الاتحاد السوفييتي اليوم”. هاتان الدولتان العملاقتان وأجهزتهما الأيديولوجية قد اشتركتا ليجعلا الناس تنسى لينين الحقيقي. لكن أسفل هذا كله، هناك زعيم سياسي ومنظَر مختلف جدًا.
في المرة الأولى التي زرت فيها الاتحاد السوفييتي، كنت متفاجئًا من رؤية الخطوط الطويلة في الطريق لمقبرة لينين، وفكّرت حينها في أننا سنحتاج لأجيال لنفهم لينين. هل مرّ وقت كاف حتى نستطيع إظهار لينين غير المألوف؟
بالطبع هناك قدر هائل من الخصومة ضمن التيار الرئيسي، لكن شراستها خفتت لأن الاتحاد السوفييتي لم يعد موجودًا. كنت في منتهى السعادة – وأنا أتحدث بصراحة تامة – لكني كنت متفاجئًا تمامًا، حين طلبت مني نيويورك تايمز أن أكتب افتتاحية عن لينين، دافعت بفعالية عن رؤاي كما كتبت ذلك في الكتاب، ونُشر المقال دون تذمر.
آمل أن يشير هذا إلى أن هناك انتباه جاد سوف يوجه لفكره ولبعض كتاباته الأساسية. لقد بدّل رأيه بطريقة مثيرة في «أطروحات أبريل» لما يحتاجه الواقع، حيث قال في “الدولة والثورة”: “ما نحتاجه هو نسخة من كومونة باريس”.
واحد من الأشياء الرئيسية في كومونة باريس هي الانتخابات من أسفل لكل مستوى بشكل منفرد، لدرجة أن الرسام الفرنسي غوستاف كوربيه نظّم الفنانين في كل حي في باريس، لينتخبوا مفوضين يكونوا مسؤولين لتقرير كيف يجب أن تبدو باريس. كانت هذه عملية ديمقراطية كلية. هذا هو النموذج الذي كان يريده لينين.
بعض الناس قالوا بعد وفاته: “إن الحرب الأهلية كانت مروعة، لكن حتى خلال الحرب الأهلية كان لدينا بعض الحريات التي تذكرنا بكومونة باريس، حيث كان هناك إحساس بالمساواة، كان أي شخص بإمكانه أن يقول ما يريد في صفوف الحزب والجيش، كان بإمكاننا أن نتجادل مع المفوضين، إلخ”.
تلك الخبرة الهائلة انمحت خلال ديكتاتورية ستالين، ومن هنا نشأ الرأي أن كل هذا قد بدأ مع لينين. الجدل القديم مفاده أن هناك استمرارًا بين لينين وما جاء بعده، أو لا شيء على الإطلاق، لا يمكنك أن تقول إما أو. أعتقد أن هناك عناصر من الاستمرار. لا نستطيع أن ننكر ذلك، لكن عادة ما كانت من خلال القرارات التي تتخذ خلال حالات الطوارئ.
الشيء المثير للعواطف هو الاطلاع على كتاباته الأخيرة، حيث كان في ثورة غضبه، أقعدته السكتة الدماغية. فألقى لينين نظرة من مسافة مناسبة، ولم يعد الأطباء يسمحون له بحضور الاجتماعات الحكومية أو اجتماعات الحزب. نظر إلى ما أنجزوه في تلك الفترة، وقال “يا إلهي، الوضع لا يسير على ما يرام”.
كانت حجته في «الدولة والثورة»، هي أن الدولة الاشتراكية لابد أن تدمر كل بقايا القيصرية، وبيروقراطيتها، والشوفينية الروسية العظيمة، قال: “يبدو لي في بعض الأوقات، أنه على الرغم من أننا انتصرنا في الثورة، إلا أن البيروقراطية القيصرية لا تزال في السلطة، بل وأصابت بعض الرفاق البلاشفة والقيادات بما اعتادت أن تبدو عليه”.
وهذا الحال صدمه، لذلك، عمد لينين إلى تحضير وثائق لاذعة، وحاول تغيير ذلك. بدّل بنية المكتب السياسي للحزب، وأعطى سلطة أكبر للجنة الرقابة المركزية، بل وقال أن ستالين لا بد أن يقصى من الأمانة العامة للحزب، وبيّن الأخطاء وأسبابها.
وهذا ما قاله الكثير منا لسنوات. الاشتراكية مجرد مقاربة، أينما حدثت ووقعت، ليس بمقدورك أن تقوول “هذه هي الاشتراكية”، أنت فقط تسعى إليها. لينين كتب هذا بسرعة.
في كتابك، وصفت المشهد الذي عاد فيه الأناركي القديم، الأمير بيوتر كروبوتكين للاتحاد السوفييتي، فقد كان الأناركيون على وشك الحظر، لكن كروبوتكين جاء إلى موسكو وقابل لينين في مايو 1919، واشتكى من البيروقراطية. لكن لينين أجاب “نحن دائمًا ضد طبقة الموظفين في كل مكان”.
كان لينين مولعًا إلى حد كبير بكروبوتكين، بل لقد كان مولعًا ببعض النشطاء والأناركيين المناضلين، وكيف بوسعه أن لا يكون مولعًا بهم، وقد هيمنوا على السياسة الروسية خلال القرن التاسع عشر كله.
لم تكن الماركسية هي المهيمنة، بل الأناركية. هذه هي الأيديلوجية التي أحبّها الشباب. هذه كانت أفكار كروبتكين وباكونين، التي اعتمدوها والتي قادتهم لنوع من الأناركية الإرهابية، حيث قالوا: “لم يتبق لنا شيء لنفعله”.
في بعض مراسلات كارل ماركس مع الروسيين مثل نيكولاي جرانيفسكي، وبالتأكيد في أحاديثه مع باكونين، قال ذلك: “إنني بالطبع معارض تمامًا للإرهاب عامة، إذ يمثل نوع من الإلهاء عن بناء الأحزاب والحركات الجماهيرية، وكسب ودّ الطبقة العاملة، لكن في الحالة الروسية -يقول ماركس- جرى نقاش منذ أن سُدّت كل المنافذ. حيث قال الشباب أن الطريقة الوحيدة لفك الحظر هي نسف البغاة، أنا أفهم ذلك، ليس بوسعك أن تبني استراتيجية حول هذا، لكنني أفهم ذلك”.
كثير من النساء اللواتي نشطن في تلك الفترة انتموا للطبقة الوسطى، حصلن على تعليم جيد، أو في حالة صوفيا بيروفسكايا -دمّرت أحد القياصرة- التي كانت في الواقع ابنة الحاكم العام لبطرسبرغ، هؤلاء البيروقراطيون العتاة كانوا يعرفون إلى أين يذهب القيصر، ومتى يذهب، وأين يسير، لذا، فقد رتبت صوفيا كل شيء. كانت المدبرة الرئيسية، وبالطبع أُعدمت جراء فعلها، وكانت أول امرأة تعدمها الأوتوقراطية القيصرية.
عرف لينين ذلك. ونشأ فيه. تورّط شقيقه خطأً مع مجموعة صغيرة من الأناركيين في وقت كانت الأناركية قد بدأت بالانكماش، كتب المنشورات فقط، قال له النائب العام في محاكمته: “أليكساندر أوليانوف، نحن نعلم ما فعلت”، فأجاب شقيق لينين: “نعم، تعرفون أني قد كتبت المنشورات، لكني أتحمل مسئولية الفعل كله مسئولية كاملة”. هناك نبل في هذا الفعل، لم يكن يحتاج لذلك، وربما لم يكن قد زُج به في السجن لو أنه لم يقل ذلك.
نشأ لينين في هذه البيئة، وهضم ذلك كله، حيث كان أول الأشياء التي فعلها، هي الذهاب لرؤية الكثير من الأناركيين خاصة المناضلين منهم. كتبت كروبسكايا في كتابها «ذكريات مع لينين» بشيء من الاحتشام: “لم نكن نمرّ بقرية ما لم يوافق لينين على المرور بها، والآن بات عليّ زيارة القرى لأرى المناضلين، إذ أنهم مازالوا أحياء”. دائمًا ما يوجد الكثير من المناضلين الأناركيين، لذا، لا تزال هذه العادة تذكّرني به.
أثارت التكتيكات المبكرة، تكتيكات إثارة الذعر، التي انقلب لينين عليها لاحقًا؛ نقاشات في العالم بأسره. يوجين دبس وبيج هايوود في الولايات المتحدة وزنا الأمر، وتناقشا حول موافقتهم على التحرك المباشر، لكنهما أوصا أن يكون ذلك التحرك، تحركًا عماليًا.
صحيح.
هذا هو الموقف الذي اعتمده لينين لاحقًا، لماذا عنت كومونة باريس الكثير له؟
نشأت كومونة باريس بشكل أساسي نتيجة الهزيمة التي عانت منها الطبقة الحاكمة الفرنسية على يد البروسيون والألمان كالعديد من الثورات الأخرى في التاريخ. كان نابليون الثالث قد ارتكب خطأ كبيراً آثار صراعاً مع الألمان، وكان بسمارك وجانج ينتظران ذلك. بعد الهزيمة التي لحقت بالجيش الفرنسي فرّ الجيش إلى باريس.
قال الباريسيون، خاصة العمال، والحرفيين، والمثقفين: “نحن لن نقبل ذلك الحصار، دعونا نحرر باريس، وتمسكوا بها وقاتلوا البروسيين. “لا نريد أن نُحتل، لا من نابليون ولا من البروسيين”.
هنا ترى أصداء الموقف الذي اتخذه لينين خلال الحرب العالمية الأولي: لن ندعم أياً من الجانبين. نرى أولًا الوميض الخافت لكومونة باريس، ثم استيلائهم على السلطة. لقد هزموا الجيوش الرجعية مجتمعة في فرساي، وغدا لديك الاندلاع الأول لما يمكن أن نطلق عليه الديمقراطية الشعبية.
لم يكن كل المشاركين في كومونة باريس من العمال، بل كان يوجد العديد من المواطنين المتورطين الذين كانوا حرفيين يعملون في ورشهم الصغيرة، وفنانين، وكتاب. رامبو، على سبيل المثال، كتب قصيدة يصف فيها كومونة باريس، التي كانت حركة لا تصدق.
بعد ذلك، قررت كومونة باريس انتخاب كل الأشخاص: “سننتخب كل مفوضينا من الأسفل”، ذلك أن الديمقراطية لم تكن موجودة في ذلك الوقت، ربما كانت ألمانيا الأكثر تقدمًا، لكن هنا أيضًا، كان قد وُضع قانون طوارئ قوي موضع التنفيذ لإبقاء الديمقراطية الاجتماعية على مسافة. هذا الشكل من الديمقراطية من أسفل كان مثيراً لكل شخص، وذهب هؤلاء المفوضون للجمعية العامة، وجمعيتهم الباريسية، وجعلوا أصواتهم مسموعة.
إجماع فيينا 1815، لم يكن مختلفاً بشكل كبير عن إجماع واشنطن 1990، حيث قالوا: “يجب أن نتأكد أنه حيثما تقوم ثورة، وحيثما تتطور قوات معارضة، من أنها ستُسحق فورًا. ليس بوسعنا أن نتقبل تلك المخاطر”.
بعد عام 1848 انتشرت الثورات ومطالب حق تقرير المصير في أوروبا؛ فصار لديك كومونة باريس. وهي ما كان قريبًا جدًا من قلوب وعقول الثوار في العالم كله. هذه الرسالة وصلت حتى الفليبينيين، الذين قالوا: “انظر ماذا يحدث في باريس، انظر لما يقال، أو لما يفعلونه”.
منذ عام 1871 فصاعدًا، تبدأ في ملاحظة تطور تيار ما قبل ماركسي. ماركس دعم كومونة باريس بشكل تام، لكنه شعر أن هناك عدد ضخم من الأخطاء التكتيكية التي ارتكبت نتيجة عدم الخبرة، والتي كان يمكن تلافيها. هؤلاء الناس الذي حاولوا التمييز بين ماركس ولينين سيجدون أن ما قاله ماركس حقًا عن كومونة باريس مشابه لدرجة كبيرة لما قاله لينين لاحقًا.
الشيء الآخر عن لينين والدولة التي أُنشئت عام 1917، أن الحلفاء الغربيين، قوات الحلفاء، والولايات المتحدة، التي مثّلها أشخاص أداروا الاستخبارات الأمريكية لسنوات عدة بعد ذلك؛ التوأم جون فوستر دالاس، وآلان دالاس، كانا يحضران ذلك الاجتماع ليقررا كيف يقضيا على الثورة الروسية. بريطانيا أيضًا كانت متورطة. قوات أوروبية أخرى كانت متورطة. جيوش 22 دولة مدعومة من القوات العظمى للتحالف الغربي كانوا يحاولون هزيمة الروس، لقد تركوا أثرًا كبيرًا جدًا على تلك الثورة.
أنت تحتاج إلى فهم السياسة. لينين، وجيله، وماركس أيضًا، كانوا سياسيين. لقد أدركوا الأمر بدون السياسة، لا يمكن لشيء أن يحرز تقدمًا. لينين الذي كان به مس من العبقرية، حتى أن أعداءه اعترفوا بها، والتي كانت واضحة وضوح الشمس، لم يكن ليرسم الهزائم على أنها انتصارات، لكنه يقول أن الانتصارات كانت ممكنة لو أننا فعلنا أ أو ب أو ج.
ثورة فبراير كانت عفوية، فقد تدفق العمال إلى الشوارع، وأطاحوا بالقيصر؛ لكن لترددهم، لم يعلنوا استيلاءهم على السلطة، وبدلًا من ذلك، وصلت إلى السلطة حكومة مؤقتة ضعيفة. كان وقت ضائع، لكن على الجهة الأخرى، لم تكن الثورة قد انتهت بعد، ماذا حدث بعدما عاد لينين من المنفى وهبط في محطة فينلاند في بطرسبرغ؟
عندما وصل لينين هناك، كان السوفييت قد احتشدوا لتوهم، كان بعضهم موجودين، لم ينتشروا عبر البلاد، إنما في المراكز الرئيسية فقط، كان هذا هو النموذج، لم يكن هناك برلمان. ولم يحظ مجلس الدوما باحترام على الإطلاق، وبسبب الخبرة المكتسبة في العام 1905 -الذي أطلق عليه لينين، بروفة الثورة- لم تكن الأحزاب مستعدة للوثوق بهم عندما انتشروا بعفوية. لكنهم كانوا حقًا عفويين وتحرريين. أدرك الكثير من الناس أن هذا يجب أن يكون نموذج الديمقراطية -ديمقراطية سوفييتية- التي اكتسبت معنى مختلفاً تمامًا عما نسب إليها لاحقًا.
عند وصول لينين، استقبله وفد رسمي من السوفييت، يقوده بعض الأحزاب المعتدلة والليبرالية، ثم قال الناشط اليميني التابع للمناشفة، نيكولاي تشيخايدزة: “نيابة عن مدينة بيتروغراد، نرحب بك، رفيق لينين، لكننا نترجاك أن تدرك أن هذه ثورة واسعة جدًا، وعليك أن تتحد مع الآخرين لنأخذ خطوة للأمام”. حياه لينين دون اكتراث، ثم تقدم لمخاطبة العمال والجنود، والوفد ينتظر. قال لينين: “يجب أن نصنع ثورة، وهذه الثورة يجب أن تكون ثورة اشتراكية. علينا أن ننهـي الحرب، وأن تُسنح لنا فرصة السعي وراء الأرض والخبز والسلام”.
هذا واحد من شعارات لينين القديمة والقليلة، وتحت كل شعار “أرض وخبز وسلام”، هناك ركيزة أساسية، تجعلها سياسة تكتيكية واستراتيجية بلشفية. هذا هو ما تتضمنه تلك الركائز، وهـي شعارات شعبية جدًا.
لكن المتذمرين فكروا، “يا إلهي. لم يتغير شيء، الرجل لا يزال كما هو، لم يتغير”. وذلك لأن بعض البلاشفة قد أعطوهم انطباع أننا معًا الآن، ولن يتغير الكثير. لكن لينين كان يدرك أنهم لو فقدوا تلك اللحظة، فلن تكون هناك ثورة، لأن هؤلاء الهزليين الذين كانوا في السلطة، يرفضون أن يأخذوا روسيا بعيدًا عن الحرب، وهو ما كان مطلباً جماهيرياً كبيراً. لكنهم لم يستطيعوا أو لم يكن لديهم القوة لتحويل الوضع الاجتماعي.
في الكتاب، يقول فيكتور سيرجي، أن لينين كان ثورياً في زمن الثورة، وهذا ما يعرّف القائد. كان يدرك اللحظة، واستطاع أن يرى ما تحمله، وقبض عليها وتقدم بها.
بالضبط، صاغ لينين «أطروحات أبريل». ولا يجب أن يربكنا هذا كثيرًا. لقد مال للكتابة في شكل أطروحات. لقد كانت مكثفة، وكانت واضحة، لم تحتو على كلمات زائدة، كان فقط يوضّح ويشير لما يجب أن يُنفذ. قال لينين أن على البروليتاريا أن تتولى السلطة.
لكن السلطة الأرثوذكسية قالت أن كل ما نسمح به في هذه اللحظة هي الثورة البرجوازية الديمقراطية. وهذا يعني أننا لا يجب علينا أن نشارك في تلك الثورة لأننا ضد البرجوازيين. فلندعهم يصنعون الثورة، وننتظر، وحينما ينجزونها ويطورونها، هنا سنخرج ونصنع ثورة اشتراكية مختلفة، كان لينين يقول: “هذا هراء كامل”.
بمرور الأسابيع، بات هناك أمران واضحان، رؤية لينين كانت قد لاقت شعبية في المصانع، ليس فقط مصانع بوتيلوف، لكن بشكل أكبر في المصانع الفرعية التي تحيط يبيتروغراد. كانت أفكاره منتشرة بين النساء، خاصة نساء الطبقة العاملة، وربات البيوت. كان يتأكد أن أعضاء حزبه قد فهموا أطروحاته، وأقنع أولًا أفراد القوات المسلحة للحزب البلشفي بذلك.
كانت الطبقة العاملة تتقدم الحزب، وأفراد القوات المسلحة تتقدم قيادة الحزب، وأخيرًا، وقف لينين وأخبر قيادات الحزب “حسنًا، ما الذي علينا فعله؟”، في هذا الوقت، أغلب قيادات الحزب اتفقت على أن «أطروحات أبريل» يجب أن تعتمد، على الرغم من أنهم قالوا في البداية “لقد وصل لينين إلى الجنون، ما الذي يحدث؟”.
الأهم من ذلك، أن اعتماد «أطروحات أبريل» فتح الباب لتروتسكي ومجموعته الصغيرة من المثقفين الموهوبين للغاية، الذين كانوا يتجادلون على هذا النحو مع أنفسهم لسنوات، أن يدخلوا وينضموا للحزب البلشفي، وبالتالي تعزيز الثقافة الفكرية للبلاشفة، والتي لم تكن على مستوى عال.
دعنا نتكلم في الفترة بين أبريل وأكتوبر، فترة اهتياج الثورة.
كان هناك صعود وهبوط. وفي مرحلة ما، في يوليو 1917، قرّر العمال، أو القسم الأكثر نشاطًا بينهم، وهم غير منظمين من قبل أي حزب، لكن معظمهم متعاطف مع البلاشفة، قرروا أن: “لقد طفح الكيل، وعلينا أن نتولى السلطة الآن”. لينين يعلم بالطبع أن الوضع جيد جدًا في تلك اللحظة، لكنه كان مقتنعًا أن هذا سابق لأوانه، لأنهم لا يملكون بعد معظم المفاتيح الرئيسية في البلاد، وحاول إيقاف الحركة. لكن عندما خرج العمال، خرج البلاشفة معهم. لا يوجد فرصة للجلوس في المنزل، لا يوجد فرصة للسلبية، هذا حشد هائل.
بعد ذلك، حدث رد فعل من الثورة المضادة. قُبض على تروتسكي. القيادات البلشفية الأخرى أعتُقلت، وأجبر الحزب البلشفي لينين على الذهاب للمنفى، لذا، تنكر في زي عامل سكك حديدية، وارتدى شعراً مستعاراً (ما جعله يبدو رائعاً جدًا بالمناسبة).
عبر الحدود، ومن هناك، أدار عملية ضرب القيادة، قال: “هذه انتكاسة مؤقتة، لا شيء أساسي قد تغير”. بحلول سبتمبر، كانت الجبهة قد تفككت تمامًا، كان هناك تمردات، وهروب واسع النطاق من الجيش، ثم أتى الفلاحون في ملابسهم الرسمية، إذ كانوا سريعي التأثر بتحريض البلاشفة. كانت سياسة التحريض البلشفية هي ما تقنعهم.
غدا من الصعب على كورنيلوف والجنرالات اليمينيين، أن يعتمدوا على جنودهم لتنفيذ المذابح. عندما تقدمت قوات كورنيلوف نحو بيتروغراد لمحاولة الاستيلاء على السلطة على غرار بيونشيه، ظهر المحرضون البلاشفة وقالوا: “اسمعوا، هل تعلمون لماذا جلبتم إلى بيتروغراد، لقد جلبوكم إلى بيتروغراد لسحق رفاقكم العمال”. وهنا بدأ الجيش يتنحى عن دوره.
في هذا الوقت، رجع لينين إلى موسكو، وعقد اجتماعات سرية مع القيادة، وقرروا ذلك: “هذا هو اليوم، السابع من نوفمبر، الذي سنتحرك فيه للاستيلاء على السلطة”.
يقول الناس أن الثورة كانت مجرد مؤامرة، لكنها كانت هي الثورة الأكثر علانية في تاريخ العالم. لم يكن هناك أسرار. حتى عندما كان لينين ضمن الأقلية، وسأله أحدهم في بيتروغراد، “يتحدث الناس عن الاستيلاء على السلطة، هل هناك أي حزب في الجمعية العامة مستعد لتولي السلطة الآن؟”. لكن هذا الرجل القصير، الأصلع، قد وقف ورفع يده، تعرفوا عليه، فقال: “البلاشفة مستعدون لتولي السلطة الآن”. فبدأ الضحك وإطلاق النكات والمزاح.
بحلول نهاية سبتمبر، حدث شيء رئيسي. حاز البلاشفة على الأغلبية في صفوف العمال والجنود السوفييت في موسكو وبيتروغراد. وكان لينين قد تعلّم أن هذا حدث من قبل، وأن الوضع قد تغير الآن، ثم قرر، “حسنًا، الوقت مناسب”، وخطط للاستيلاء على السلطة، الذي حدث دون عنف على الإطلاق.
ملاحظة واحدة هنا، المؤرخ المنشفي العظيم، نيكولاي سوخانوف، الذي كتب واحداً من أفضل كتب تاريخ الثورة -والذي كان انتقادياً للينين بشكل ما لكنه كان كتاباً رائعاً- يقول أنه قد اتصل بزوجته ليعلمها أنه سوف يتأخر قليلًا، فقالت له زوجته: “من الأفضل ألا تأتي الليلة، هناك الكثير من الناس يمكثون هنا. فلتمكث في المكتب الليلة”. وفي اليوم التالي اكتشف سوخانوف أن سبب إجباره على المبيت خارج البيت، هو أن اللجنة المركزية البلشفية كانت تجتمع في بيته ليبتوا في قرار إطلاق الانتفاضة.
قال تروتسكي ذات مرة أن الثورة ليست فقط إلهاماً شديد الحماس للتاريخ، لكن الثورة أيضًا معركة من أجل الجيش، وأن الجانب الذي يقف الجيش معه ينتصر، الكثير من المعسكرات كانت تدعم البلاشفة، لكن الثورة كانت سلمية تمامًا.
بكل معنى الكلمة، كان هناك القليل جدًا من الخسائر، فيلم أيزنشتاين «أكتوبر» قد بالغ في هذه القضية. لقد شعر أنه يجب أن يصنع فيلمًا، لكن هذه المسألة كانت هادئة نسبيًا، كان هناك الكثير من المرح في الشوارع.
ما هو ميراث الثورة؟
الاشتراكية، فضلًا عن الديمقراطية. كانت ثورة اشتراكية قد قامت قبل أوانها، معزولة في أوروبا من خلال المذابح التي قامت في ألمانيا من قبل القادة الألمان بحق الطبقة العاملة، روزا لوكسمبورغ، وكارل ليبكنخت، وغيرهم. كل البلاشفة كانوا موافقين على أنهم لو كانوا معزولون ستكون هناك مشكلة كبيرة، وبالتأكيد كانت هناك مشكلة، سواء داخليًا أو من قوة خارجية، وقيام الفاشية في ألمانيا.
لو كانت الثورة قد حصلت في ألمانيا، في عام 1920، لكان التاريخ الأوروبي كله قد أخذ منحى مختلفاً.