مقابلة كنّا أجريناها مؤخراً مع الروائي…
الفصل الثالث والثلاثون
أضغاث أحلام..
البغال في مخيّم اليرموك تهيم على وجوهها.
أكلَت الأعشاب في ضواحي المخيّم حتى نفدت.
ثمّ أكلت الأوراق حتى نفدت.
وبعد ذلك نفقت إلاّ واحداً.
البغل الأخير جرجر جسده الهزيل، وذهب بعيداً في عمق الخلاء.
ذهب ليموت وحيداً.. ليموت ميتة الغزلان.
*
فرّت من عين جميلة المعلّقة على الجدار دمعة. انحدرت على وجنتها ثمّ سقطت على طرف الإطار. بفعل الجاذبية، سقطت على بلاط الغرفة، وتحولت إلى حبّة لؤلؤ وتدحرجت على البلاط وعبرت إلى الباب المفتوح، وإلى درجات السلّم، ووصلت إلى رصيف الشارع.
شاهدها عصفور جائع، فالتقطها بمنقاره، ولمّا وجدها صلبة، أبقاها بمنقاره ولم يزدردها.
رفع رأسه عالياً، ولعلّه أدرك أنها سقطت من علٍ، وتتعيّن عليه إعادتها.
أمسك اللؤلؤة في براثنه ورفرف بجناحيه، وطار ثمّ حطّ على بلكونة البيت في الطابق الثالث، ودون أن يستأذن دخل إلى الغرفة، ونظر إلى السيدة في إطارها، السيدة التي تشبه العطور في قواريرها.
قال لها: وجدت هذه اللؤلؤة، لعلها لك.
في تلك اللحظة، ذرفت السيدة مزيداً من الدموع، فسالت على خدّيها، وتعلّقت بالإطار، ثمّ سقطت على الأرض وتحولت إلى حبات لؤلؤ، كأنّها حبّات عقد انفرط وسقط عن جيدها.
دُهش العصفور، فأفلت من بين براثنه اللؤلؤة، ووضعها إلى جانب أخواتها.
*
شجرتان، وطائران، ومعزاتان، ورجل واحد.
الأولى شجرة لوز ذات نوّار أبيض، والثانية شجرة زيتون تتناثر على أغصانها البراعم.
الطائر الأول قبّرة رمادية، الثاني بلبل أصفر.
المعزاة الأولى سوداء، المعزاة الثانية بيضاء.
الرجّل يلبس ملابس جزّار، ويحمل سكيناً.
قبل أن يأتي الرجل وهو يسحب المعزاتين، كان البلبل الأصفر يغرّد على غصن شجرة اللوز الذي تتفتح عليه الزهور، وكانت القبّرة تنصت بانتباه ومتعة.
عندما وصل الرجل، صمت البلبل، وتوقف صرير الصراصير.
فكّ الجزّار رباط المعزاة السوداء، وشحذ سكينه، ثمّ طرحها على الأرض وجثم فوقها، وحزّ رقبتها، فشخب الدم.
لعبطت المعزاة قليلاً، ثمّ همدت.
ضحكت المعزاة البيضاء، وسخرت من المعزاة السوداء المذبوحة.
طار البلبل من على غصن شجرة اللوز، ابتعد وحطّ على صخرة قريبة.
لم تتحرك القبّرة الرمادية من مكانها، وعَرَتْها هِزّة، لكنها جمدت في مكانها.
تناول الجزار الكلاليب وعلّق المعزاة المذبوحة على غصن شجرة اللوز حيث كان يحط البلبل، واستدار إلى المعزاة البيضاء.
فكّ رباطها، وطرحها على الأرض، وجثم فوقها، وحزّ رقبتها، فشخب الدم. لعبطت مثل سمكة، ثمّ هدأت.
ارتعشت الزهور على أغصان شجرة اللوز، وارتعشت أيضاً البراعم على شجرة الزيتون.
ربط المعزاة البيضاء بالكلاليب على غصن في شجرة الزيتون، فطارت القبّرة وحطّت على شجرة قريبة.
انتقل الجزّار إلى المعزاة السوداء المعلّقة، وبدأ يعمل على سلخها، وبعد أن أتمّ عمله، نظرت المعزاة البيضاء المذبوحة، وسخرت من المعزاة السوداء المسلوخة.
طار البلبل إلى مكان بعيد، وطارت القبرة إلى الوادي، وطارت طيور الغابة، وذبلت الزهور والورود.
يا للغرابة، المعزاة المذبوحة تسخر من المعزاة المسلوخة!
الفصل الرابع والثلاثون
أكتب لك يا سمعان الناصري، وأقبّل روحك الجميلة.
حان الوقت لتنتهي هذه الرواية.
ولم أتخيّل أنّ النهايات ستكون فيها غصّة، لكنها لا تخلو من جمال.
أتعبتني بحكايتك، وألقيت عليّ عبء كتابتها، فعانيتُ، وتوتّرتُ، وزادت همومي همّاً.
لم أكن محايداً، فقد تعاطفت مع صوفي أكثر مما تعاطفت معك.
أكتب الآن بحماسة السياسي، لا بهدوء الكاتب.
اليوم وصلني الخبر الذي وصلك.
كانت صوفي قد كذبت عليّ كذبة بيضاء حين أبلغتني أنّها قادمة مع مجموعة سيّاح للحج إلى القدس وبيت لحم. كانت تحرص على سلامة المهمة القادمة من أجلها.
واليوم، لا بد لي من أن أضع خاتمة للرواية من نسج الواقع لا نسج الخيال.
حين وصلت طائرتها مطار اللد، كانت تنتظرها نرمين، التي ذكرت لك بالتلميح أنّها يدي الدافئة.
وصلت طائرة اللوفتهانزا، وخرج الركاب بحقائبهم دون أن تظهر صوفي قطعة الشوكولاته.
انتظرتْ نرمين طويلاً، وقلقت كثيراً، ولأنّها تحمل هوية القدس الزرقاء، فقد استطاعت أن تدخل الصالة، وتتوجه للاستعلامات.
قالت لها المجنّدة الإسرائيلية إنّ سلطات المطار الأمنية لم تسمح لها ولمن معها بالدخول. جادلتهم نرمين واشتبكت معهم بالكلام، وقالت إنهم مواطنون ألمان قادمون للحج.
قالت المجنّدة إنّهم منعوا لأسباب أمنية.
وفيما بعد، عرفت نرمين عن طريق مؤسسة (بتسيلم)، التي تُعنى برصد التجاوزات الإسرائيلية، أنّهم منعوا صوفي ومن معها لأنّهم ينتمون إلى حركة المقاطعة الدوليةBDS ، التي تعمل على عزل إسرائيل سياسيّاً واقتصاديّاً وأكاديميّاً.
بقدر ما أحزنني إغلاق نافذة لعودتك مع صوفي للإقامة في أرض الوطن، فقد أفرحني أنّ صوفي الشجاعة التي بداخلها سنديانة، تناضل من أجل قضيتنا مع الأخلاقيات الإنسانية على امتداد هذا العالم.
اعذرني على الكلام الذي أبدو فيه كأنني ملاكم يرفع الأثقال. اعذرني لأنّ الغصة تمتزج بالفرح، لأنكما تناضلان على جبهة العالم الأخلاقية التي هي سلاح ناعم.
سأكتب نهاية الرواية اليوم، وستكون نهايتها مفتوحة على كل الاحتمالات.
أما حكايتي الشخصية، فقد شارفت على نهاية ما، وتجاوزت عقبتين: العقبة الأولى كانت جميلة، الحاضرة في القلب والروح والوجدان، رحلت لكن عشرتها ودفئها ووفاءها وذكراها لا ترحل.
كلّما نظرت إلى صورتها على الحائط، يداهمني إحساس غريب، أشعر بروحها ترفرف، أشعر بعتب في عينيها، أشعر أنني خنت المودة والرحمة.
لم أخف هذا الإحساس عن نرمين، ولعلّها تفهمت ذلك، وقالت إنّ ذلك يندرج ضمن السجايا الطيبة التي تجعلها تطمئن إليّ أكثر.
تحدثت مع جميلة المعلّقة على الجدار في إطارها. قلت ما يجب أن يقال. وكنت كل يوم أقرأ ما في عينيها من لوم وعتاب.
وكانت العقبة الثانية ياسمين، ماذا أقول لها، كيف تستوعب ارتباطي بنرمين. لا أريد أن أفقد مكانتي المقدّسة في قلبها.
عندما جاءت ياسمين من الإمارات إلى عمّان، كنت في وعكة برد. أصرّت نرمين أن تذهب إلى عمّان وتستقبلها في المطار، وتعتني بها، وترافقها إلى رام الله، وتأخذ بعين الاعتبار وضعها كحامل في شهورها الأخيرة.
كلمت ياسمين بالهاتف، قلت لها إنّ صديقة في العمل ستستقبلك في المطار، وترافقك إلى رام الله، وتعتني بك طوال الطريق.
ضحكت ياسمين، ومازحتني، وسألت إن كانت صبيّة أم كبيرة في السن، وغمزت ولمزت بمرح وعبث طفولي، وبعد ذلك اكتسى صوتها بالجد، ورحبت بحرارة. عادت ياسمين برفقة نرمين، وحدث ما لم أتوقعه.
تعلّقت ياسمين بها، ونشأت بينهما مودّة، وصارت نرمين تزورنا في البيت، وتصطحبها إلى الطبيب للاطمئنان، وتذهبان إلى التسوق وشراء ما يحتاجه المولود من ملابس وغيرها.
بل إنّها صارت تستأذنني في المبيت عندها، وتجد الجو المسلي عندها، خصوصاً أنّ هياتارو أيضاً صارت صديقتها.
وامتدت هذه العناية والرعاية لياسمين عندما حان موعد الولادة، حيث أشرفت نرمين على اختيار المستشفى، والطبيبة، وشهدت لحظة خروج الطفل من رحمها، والعناية به، وبها، ومتابعة شؤونها، وإجراء معاملات الدخول والخروج، واصطحابها إلى بيتها، واحتفال الأسرة بها.
عندما ذهبت لاصطحابها معي إلى بيتنا، كانت جلسة دافئة، وكان الغزل بجمال المولود يفوق الوصف.
وقبل أن نغادر، قدّمت هياتارو هديّة جميلة: كفّاً من ذهب وخرزة زرقاء شبكتها بدبوس على صدر حفيدي الجميل وقالت: هذه الهدية اختارتها شقيقتي الكبرى نرمين، ففي عاداتكم، الكف والخرزة الزرقاء تردان عين الحاسدين.
عندها ردت ياسمين قائلة: إذا كانت نرمين شقيقتك الكبرى، فإنها أمّي الثانية.
هكذا لعبت ياسمين دورها في شق طريق عندما كانت الطرق الأخرى مغلقة.
إذاً، كما ترى، أبحث عن نهاية لحكايتي الشخصيّة، وأبحث عن خيارات أخرى لبقية العمر.
أبحث عن نهايات ممكنة غير حزينة، عن مغيب غير معتم. أبحث عن وصفة لمرحلة ما قبل الأفل.
تقلقني نهايات أولئك الرجال الذين أعطوا سنوات عمرهم للثورة، ووصلوا إلى سن التقاعد، ويشعرون بالإحباط بسبب الإقصاء والتهميش.
تخيّل أن تشعر في لحظة من اللحظات بأنك من الأفواه اللامجدية، أنه لا ضرورة لك ولا رأي ولا مشاركة، وعليك أن تضيع في متاهات المرض وأقساط البنوك وارتفاع الأسعار وانعدام الأمل، وانغلاق الأفق السياسي. ماذا سيكون شعورك إذا ما صرت منسيّاً دون أن يشفع لك تاريخك بلمسة تقدير واحترام.
على الرغم من تمردي وعدم اعترافي بالشيخوخة ومرور الزمن، وتوجهي لكتابة المقالات والقصص، ومحاولة كتابة رواية مستوحاة من مسيرتك، فإنني ما زلت أشعر شعور عصفور فقد سربه، شعور فراغ نهايات النهار، أعني مزقاً متناثرة مما تبقى من النهار.
لتكن النهايات بلا غصّة، بلا مرارة، بلا أفول قبيح.
الفصل الخامس والثلاثون
عرس الذيب، عرس جؤذر، عرس أبو الخير وجبينة.
عرس الأرض، عرس الشجر، عرس الصخور التي نحتتها الرياح، عرس السدر، عرس النحل، عرس العسل، عرس السنديان، عرس البلابل، عرس المناطير، عرس النار في قلب حجارة الصوّان، عرس الحنّون والنرجس وقرن الغزال، عرس حديدان ونص نصيص والشاطر محمّد، عرس المجوز والشبّابة والميجنا والعتابا، عرس خبطة الأقدام على الأرض في دبكة الأحبّة، وصوت حادي العيس يشدو بأغنية: عذّب الجمّال قلبي حينما اختار الرحيل.
عرس أبو الخير في مملكة جؤذر.
*
حفلة عرس أبو الخير، وكان الوقت وقت العصيرة.
القرية أسفل الحرش، قرية جبينة. كبارها وشبابها وصباياها، جاءوا وزيّنوا وفرشوا؛ فعلى امتداد السهل سجاجيد وزرابيّ مبسوطة، وزهور منثورة، وفواكه مصفوفة، ووجوه ناعمة، ووجوه فرحة، وطبل وزمر، وملابس فلاحية لقرويين، وملابس عصرية أنيقة لرجال ونساء، وصبايا وشباب.
مدعوون كُثر دعاهم زريف الطول أبو الخير، وعلى رأسهم أحمد وأحبابه: نرمين وياسمين وهياتارو وخليل، والدكتور نادر، والخال وزوجته، وعدد من رفاقه المتقاعدين.
ودعا أصدقاءه من شباب وصبايا الشبيبة الفتحاوية. وهؤلاء يمثلون جاهته وعزوته.
ومن ذوي العروس جبينة وعزوتها: حضر أبوها وأمها وأخواتها وأعمامها وعمّاتها وأخوالها وخالاتها، ووجهاء القرية، وكبارها.
وكان هناك من عزوتها من يعزف على الشبّابة واليرغول، ويدقّ على الطبل.
كان فرح هائل يغمر هذه الأرض وهذا الفضاء.
فرح يتردد صداه حتى الحرش وأشجاره وخنافسه ونوّاره وزهوره ووروده وسلاحفه وغزلانه.
تقدم أحمد رئيس الجاهة حسب التقاليد، من والد العروس، وألقى كلمة أثنى بها على أهل العروس وكرمهم ونبلهم وعلو حسبهم ونسبهم، وطلب يد العروس للعريس مردداً الآية الكريمة، (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة).
وكان الدكتور نادر قد وضع أمامه على طاولة قصيرة فنجان قهوة مغطى.
فردّ عليه والدها بكلمة مماثلة، أنهاها بالموافقة والاستجابة للطلب.
وهنا تقدّم الدكتور نادر ورفع الغطاء عن الفنجان، وأشار له أن يشرب قهوته ما دامت الأمور تمت على خير حسب التقاليد. وفي الوقت نفسه، انطلقت الزغاريد، وعلا صوت الطبل والزمر.
وبعدها انشدّت الأنظار نحو الشيخ المأذون الذي أحضروه لعقد القران.
جرت مراسيم عقد الزواج، وصفق من صفق، وغنى من غنى، وزعردت من زغردت. ووزعت كاسات العصير، وحلوى البقلاوة.
وقف العريس أبو الخير، وقف مثل زريف الطول، ومثل ديك له عرف كبير، وسلّم على والد العروس وقبّل كتفيه تقديراً واحتراماً، فيما هياتارو تواصل التصوير، ويبدو على ملامحها الفرح حتى الدهشة، ويرافقها خليل، ويفرح لفرحها.
أمّا نرمين، التي كانت تراقب عزف اليرغول والشبّابة وضرب الطبل، فقد كانت تشعر بأنها تجاوزت حدود المستحيل في مساحة المسرّة، وكان الفرح يكاد يقفز من عينيها.
وكانت ياسمين تحمل طفلها الرضيع في (الكوت) وتنطنط من السعادة.
أمّا الخال، فقد انضم للدبكة الشبابية، وكان يبدو في خبط قدميه وحركته بحيوية الشباب.
وفي زاوية ما، كانت النساء يُحطن بالعروس البهيّة، والمغندرة، التي تتدثّر بالعباءة، ويغنين ويرددن:
دير الميّه ع السرّيس
مبارك عرسك يا عريس
دير الميّه ع الليمون
مبارك عرسك يا مزيون
دير الميّه ع السرّيس
مبارك عرسك يا عروس
دير الميّه ع النخله
مبارك عُرسك يا فُلّه
وفي مكان آخر، كان الشبيبة يغنون أغنية السحجة، ويرددون:
نِزْلِتْ ع العين تملّي
مزْيونه أخذت عقلي
نزلتْ ع العين تملّي
وغمزتني تا ألاقيها
لاقيني ع دار أهلي
وغيري إوعى تلاقيها
أمّا الوجهاء والشخصيات من الطرفين، فقد جلسوا تحت ظل خيمة كبيرة مفتوحة ومفروشة بالسجاجيد والزرابي والمفارش يتبادلون الحديث ويحتسون القهوة، ومعهم جلس الشيخ المأذون.
كانوا ينتظرون اكتمال العرس بتناول الغداء. وفي مكان ما وراء المناطير، كان رجال ونساء من القرية يطبخون اللحم مع لبن الجميد، ويطبخون الرز أيضاً لإعداد طبخة (المنسف)، التي تقدم بهذه المناسبات.
كانت ياسمين في تلك اللحظة تعتني بابنها، تغيّر له الحفّاظة، وتلبسه ملابس جديدة، وتفوح منه رائحة البودرة المعطّرة، وتنتحي بعيداً وتمدّ له ثديها وترضعه، فيما كانت نرمين وهياتارو وخليل والخال أبو مجدي يراقبون الدبكة ويتفاعلون معها بالتصفيق أو المشاركة.
وكان أحمد يتمشى مع الدكتور نادر نحو المنحدر حيث سيّارته، لأنّه مضطر للعودة إلى المستشفى.
وبعد أن ودّعه وعاد، أقبلت ياسمين تحمل رضيعها وقد تورّد وجهه، وصار لخدّيه لون التفاح.
أضاءت ابتسامة فرح على وجه أحمد وامتدت يداه، وحمل الطفل وقبّله، واحتضنه، وأخذ يلاعبه، ويشمشمه.
أخرجت ياسمين من حقيبتها علبة صغيرة، علبة مكسوّة بالمخمل الأحمر، ودسّتها في جيبه، وفيما هو يلاعب الطفل الذي يبدو عليه الرضا، سألها: ما الذي دسستِه في جيب الجاكيت؟
ضحكت وبانت أسنانها التي تشبه اللؤلؤ: شيء ما. يمكن أن تحتاجه الآن، أو يمكن أن تحتاجه في وقت لاحق.
بكى الطفل، لعلّه افتقد حضن أمّه. حاول تهدئته، لكنّه واصل البكاء.
قالت وهي تتناوله من بين ذراعيْ أبيها: لم يتعوّد عليك بعد. لكنّه شمّ رائحتك. الطفل في هذه السن يتعوّد علينا من خلال حاسة الشم.
*
صار الطفل موضع اهتمام الجميع، وحملته ياسمين ورقصت به وسط رقص الراقصين، والراقصون كثر، لكن من يحيط بها كان نرمين وهياتارو وخليل والخال مجدي.
وكان أحمد يراقب المشهد.
كانوا يرقصون على أغنية “يا زريف الطول” ذات الإيقاع الجميل، وكان الطفل يبدو مبتهجاً بالنغم والدلال، وهو يهتزّ بين ذراعيْ ياسمين، ثمّ بين ذراعي نرمين. وأمام هذا المشهد، توقفت هياتارو عن الرقص، وبدأت تلتقط الصور.
وفي لحظة سرور، ومضت في كيان أحمد ومضة، ومضة مثل رعشة، أحسّ أنّ له عائلة، ودفء عائلة.
تذكّر العلبة التي دسّتها ياسمين في جيبه، وتذكّر ضحكة ياسمين ذات المغزى.
تحسسها في جيبه. كان ملمسها مثل ملمس الحرير.
وفي اللحظة التي فكّر بإخراجها وفتحها، جاء أبو الخير، وأوقف الرقص عندما أشار لعازف اليرغول وضارب الطبل بالتوقف، ورفع صوته قائلاً: تفضلوا لتناول الطعام.
*
تناولوا الطعام داخل الخيمة، حيث الفانوس ساطع الضوء.
جلسوا على البساط وأكلوا بأياديهم دون ملاعق على طريقة أهل البلد.
لم يأكل أبو الخير، بل ظلّ يتنقل بين الجالسين، يتفقدهم، ويرحب بهم، ويطمئن على أنّ كل شيء على ما يرام.
أتقن أحمد تناول الطعام باليد، وكان يتقن دمج اللحم بالرز ولبن الجميد وعمل لقمة متماسكة يرفعها إلى فمه برشاقة، وكذا الخال. أما نرمين وياسمين وهياتارو وزوجة الخال، فقد كنّ يأكلن بصعوبة، وغالباً ما تتفتت اللقمة قبل أن تصل إلى أفواههن، أكلن أكل (تخبيص)، حسبما قال الخال مجدي.
وكانت النساء الفلاحات اللواتي يأكلن غير بعيد ينظرن ويتهانفن ويضحكن.
وصار أحمد بين لقمة وأخرى، يعدّ لقمة كبيرة ويرفعها إلى فم واحدة منهن، وبما أنّ اللقمة كبيرة، فإنّ نصفها يدخل الفم ونصفها الآخر يتساقط عى الأرض. حتى خليل أيضاً كان مرتبكاً ويمد يده إلى طعام المنسف ويأكل بإصبعيه لا بيده وأصابعه الخمس.
أكلن بمرح وضحك وانبساط، دون أن يعبأن بتهانف النساء الأخريات.
ونجحت العفريتة هياتارو أثناء ذلك في إتقان إعداد لقمة متماسكة ورفعها إلى فمها دون أن تتفتت، وصارت بدورها تطعم ياسمين، فيما أحمد يطعم نرمين، وعند ذلك، خجل الخال واضطرّ أن يطعم زوجته اضطراراً، وكم كان بودّه لو أخرج من جيبه زجاجة الكونياك، لكنّه لم يكن يقوى على فعل ذلك.
*
رفعت المائدة، وكانت هناك أباريق لغسل الأيدي في الخارج.
وزّعت كاسات الشاي، وانتقل أحمد إلى حيث رفاقه المتقاعدون، وانضم إليهم. كانوا يتهيأون للمغادرة، فقد طال مكوثهم، وحان موعد نومهم.
رافقهم إلى الحافلة، وعاد إلى الساحة، حيث الدبكة التي عادت تشتعل من جديد، وضوء الفوانيس يسطع.
تسنّى له أن يمد يده ويخرج العلبة التي دسّتها ياسمين في جيبه. فتحها وفوجئ أنّ بداخلها خاتميْ خطوبة.
ابتسم، ووصلته رسالتها.
اقترب من الحلقة ووقف حيث تقف نرمين، تعلّقت به، وألصقت كتفها بكتفه، وأمسكت يدها بيده. عندها، اقترح عليها أن يتمشيا ويبتعدا عن هذا الصخب والضجيج.
طوّقها بذراعه، وتوجها إلى صخرة قريبة.
كان الليل رائقاً ومؤنساً، وكان القمر يطلّ عليهما، وكانت عيناها تضيئان بكل الألق، وتبدو وهي تنظر إليه كأنما تسقيه من حنوّها رحيقاً.
كان قلبه يرسل إلى قلبها شعراً وموسيقى.
وضعت رأسها على كتفه، وهمست: حبيبي.
ضمّها إلى صدره، وقبّل شعرها وجبينها.
كانت الطبيعة التي يغمرها القمر بنوره تبدو جميلة في هذا الليل أكثر من أي وقت مضى، وكان الحرش عن بُعد يبدو صامتاً، يغفو بهدوء وسكينة.
رنّ هاتفه النقّال، فأخرجه من جيبه، جاء صوت الدكتور نادر، اعتذر له عن هذا الاتصال المزعج، وقال: أردت منك أن تأخذ حذرك؛ هناك حاجز إسرائيلي وسيارات جيب على الشارع العام تحاصر مكان الاحتفال، وتفتش المشاركين.
انتهت المكالمة، وكانت نرمين تستمع.
نرمين قلقت، لكنّ أحمد لم يقلق.
ابتعدت بلطف عن صدره، وقالت: هل يزعجك ذلك؟
ضحك، وشدّ بكفّه على يدها، وقال:
كل الطرق مغلقة، ما عدا الطريق الذي نشقّه بأنفسنا.
في تلك اللحظة، انطلقت من جهة المستوطنة قنابل إضاءة، ارتفعت عالياً وأضاءت المكان.
توقفت أصوات الطبل واليرغول. وبدا كما لو أن جو الاحتفال يتكهرب.
ظلت قنابل الإضاءة تملأ الفضاء وتضيء المكان.
لعبط الخوف في عينيها كسمكة.
ظلّ أحمد هادئاً، همس في أذنها: لا تخافي، هذه محاولات إزعاج.
عاد صوت الطبل، وتبعه اليرغول، وارتفع صوت الغناء وخبطات الأقدام في الدبكة.
عاد لها الهدوء.
كان يود أن يقول لها: كم يبدو هذا المكان واسعاً. أنت وهذه الأرض رفيقاي فيما تبقى من مشوار العمر. هنا سنزرع، وهناك سنبني منتجعاً لرفاق الدرب، وسنبني بيتاً صغيراً تزقزق حوله العصافير.
لكنّه لم يقل.
مدّ يده وتحسس العلبة المخملية، وكان يودّ أن يقول لها
: هذه العلبة هدية من ياسمين، وهي تخصّنا.
لكنّه لم يقل.
فكّر قليلا وقال: لحظات الفرح هذه الليلة ساعة وقد عشناها.
ثم أخرج العلبة المخملية من جيبه.
ناولها العلبة، ففتحتها، وفوجئت: ياه.. ما هذا!
أجابها: احتفظي بها لساعة أخرى ، قد نستمتع بها بومضة فرح ،ولحظة الفرح قد تكون ومضة ويتعيّن علينا أن نعيشها.
كانت تلك لحظة سحر هزّت مشاعرها
وكان يود أن يقول لها: هل تقبلينني حبيباً وزوجاً؟
ودون أن يقول أجابت عيناها: أقبلك.
تهيأ للوقوف، وقال لها: هيّا بنا نعود ونلتحق بالعائلة.
وقفت، وظل ممسكاً بيدها الدافئة، وعادا يداً بيد إلى حيث الطبل والزمر والضجيج والفرح، وياسمين، وخليل، والخال، وعرس الشجر، والصخور التي نحتتها الرياح، والحنّون والنرجس، وعسل السدر، والشاطر محمد، وحديدان، ونص نصيص، وجؤذر، وجبينة، وأبو الخير، والنهايات الممكنة، وخبطات الأقدام في الدبكة التي توقظ الأرض الطيّبة من سباتها.