مِنْ أبرزِ سِمات قَصيدة الشاعرة الأردنيّة مريم شريف تلك اللغة الشفيفة في تماهيها مع النبرة الموسيقيّة الهادئة؛ ثمّة مَزجٌ جَمالي حَميم نجدهُ في البُنية الأسلوبيّة لقصيدتها، الجُملة تكاد أن تكون أشبه بمعطفٍ شتويّ دافئ في محاورتها للذات والآخر، محبوكة بعنايةٍ ورويّة. فيما التعابيرُ تسيلُ بغزارةٍ، تماماً كالمطر.
في مجموعتها الشِعريّة الأحدث «ما لا يُستعاد»، الصادرة أخيراً عن دار الآن ناشرون وموزعون (عَمّان- 2017)، تميلُ الشاعرة مريم شريف إلى الأشياء العَذبةِ النديّةِ، المهمّشة والدافئة في الآنِ معاً؛ “صوتك، الأصابع، الورقة الممزقة، الألم، البياض المتلاشي، الركام”.. عبارات نجدها في هذه المجموعة. ولعلّ المُثير للانتباه ذلك الإحساس المُتدفّق بين طياتها، حيثُ الأصوات المُتداخلة تعلو أو تخفتُ برقّةٍ وصفاء، فيما اللغةُ تتداعى إلى أحلام وكوابيس، تبدو وكأنها مُستلّة من الذاكرة وحدها؛ “الأشياء الصامتةُ هي صوتكَ/ الأشياء المألوفة/ صوتك الذي لا تخفتُ أجراسهُ/ صوتك الذي لا يذهب/ كالأيّام”.
عديدةٌ هي الجوانب الوجوديّة التي تتناولها مجموعة «ما لا يُستعاد»، بخصوصيّةٍ جليّةٍ وأداءٍ خصبٍ، وذلك عبر سَردٍ حكائيّ سلسٍ، مشحون بصور شِعريّةٍ مُذهلةٍ تستفزّ مخيّلة المبدع والقارئ في آنٍ واحد؛ حيثُ تبدأ بالوجع اليوميّ الراهن “الحرب”، مروراً بردّات فعل الكائن الهشّ في مواجهة كل ما يهدّد مصيره، ليحلّق النصّ في فضاءات الدهشةِ المرجوّةِ دونَ الوقوعِ في فخّ النمطيّة أو التكرار المملّ. في قصيدة بعنوان (لم يعد أبي من الحرب)، تقول الشاعرة: “ما زالت هنالك أغنياتٌ جميلة،/ ربما تلك التي أسمعها صدفةً،/ في شارعٍ أو في حافلةٍ،/ ما زال هناك غرباء،/ أريد أن أبادلهم حديثاً عابراً،/ عميقاً وعابراً،/ ثمّ ينتهي إلى الأبد“.
ثمّة إيحاء إلى كل الأشياء دون أن يشي ذلك بالموضوع الرئيس “الحرب”، بالرغم من الألم المدفون بين مفردات المقطع السابق، ألمٌ بلاغيّ ساذج يفضي إلى دروبٍ أبديّةٍ، والمقصود بالأبد -هنا- أبديّة النصّ/ المدوّن؛ “في غيابكَ،/ لم يكن على الشتاء أن يذهب،/ البرد الذي كان يلفحني من رأسي حتى قدميّ،/ كان يتحوّل بتلقائيّةٍ وبالقليل من الألم/ إلى فكرةٍ عن دفئك”.
تحتفي الشاعرة مريم شريف في قصيدتها بالمكان بوصفهِ عتبة أولى لا بدّ منها، هذه العتبة تشبه إلى حدّ ما تلك “الشاخصة” التي تفضي إلى أماكن أخرى قد تكون قصيّة في غالب الأحيان، وهو ما يمنح قصيدتها المزيد من الحميميّة والانبهار، ويضيفُ إليها ما يسمّى بعنصر المفاجأة. كما في القصائد التالية: “في الطريق التي أحملها”، “انظرْ إلى الفراغ”، “في أكثر الأماكن صمتاً”، “ما زلتُ أريد المرور من هناك”، “الانعكاس العائدُ إليّ من بعيد”، “تقفُ خلف نافذتك”، “العابر بمحض الصدفة”، و”كثنيةٍ في ثوبٍ قديم”. حيثُ تقول الشاعرة في القصيدة الأخيرة: “بيتي الذي لم يركَ/ يعرفكَ/ صامتٌ هو هذا اليوم/ قديمٌ/ وشاحبٌ كالمرضى/ بيتي الذي لم يركَ/ يعرف أنّكَ ذهبتَ”. ثمّةَ تدوير “للأشياء/ الجماد” في هذا المقطع، حيثُ البيت له عيونٌ واليوم بدوره شاحبٌ ومريضٌ، حزناً على غياب الأب/ الحبيب. وفي مقطعٍ آخر تقول: “الأوراق تساقطتْ عن الأشجار/ بالكادِ أُلاحِظ/ الأشجار تخضرّ/ بالكاد أنتبهُ/ أنا التفاصيل المهدورةُ/ في كلّ ذلك/ أنا الزمن الذي لم تلتقطه عينايَ/ من الكون/ ومن قلبي”.
لا الرسمُ بالكلماتِ فحسب، بل الكتابةُ بالألوان أيضاً ما نجده في قصائد مريم شريف، وهو ما تشيرُ إليه الشاعرة بشكلٍ علني ومباشر أو بمجرّد الإيماء وحده، إذْ ثمّة تداخلٌ “شِعريّ/ تشكيليّ” عميق، لدرجةِ أنْ لا وجود لحدودٍ فاصلةٍ بينهما. اللغةُ زئبقيّة شفّافة والجُمَلُ مسبوكةٌ بعنايةٍ فائقةٍ، تكاد أن تخلو من أيّة مفردةٍ زائدةٍ، أو خارجَ نسقِ الشِعريّة. سواء في العناوين الرئيسة للقصائد كما في هذه العناوين: “الذين يُخربشون على الجدران”، “مثل لوحة لا تنتهي”، “الورقة بيضاء وعميقة”، و”القليل من الظلال”، أو قد يكون داخل النصّ نفسه، حيثُ يكثر الوصف وتغدو القصيدة أشبه بمشهد تشكيلي مُعد للتأمّل؛ كما في هذا المقطع، وفيها تقول الشاعرة: “كأثرٍ ليَدٍ لوّحَتْ في الهواءِ قليلاً/ تلك الكلمات القليلة/ أنا لم أعدْ أسمَعُ الكلماتِ/ ولا أرى اليدَ لوّحَتْ/ لكنّني أرى الأثرَ الماثلَ في الهواء”.
مجموعة «ما لا يُستعاد»، والتي جاءتْ في مئتينِ وإحدى وثمانينَ صفحةً من القطع المتوسط، هي الإصدار الثالث للشاعرة مريم شريف، إذْ سُبِقَ لها وأنْ أصدرت مجموعتين شِعريّتين، هما: «صلاة الغياب» (2002) و«أباريق الغروب» (2007).
في هذه المجموعة؛ ثمّة جماليّات جَمّة تستخلصها الشاعرة بحِنّيةٍ وأُلفةٍ من بين جنباتِ كل ما يحيطُ بها من عوالم مرئيّةٍ أو لا مرئيّة أيضاً، كما يفعلُ البستانيّ مُدندناً حوارياته الشجيّة مع الأشباح والعصافير والأغصان، ربّما لأنّ “وظيفة الشاعر، تشبه عمل الفراشات، صنع الجمال في هذا العالم”، على حدّ تعبير الشاعر صفاء سالم اسكندر.
“الآن أعرف أنّ المكان/ يتذكّر الألم/ أنّ المكان هو الألم”.. تقول مريم.