دخل غياث إلى الفصل الدراسي، ألقى التحية على طلابه، تمازح معهم قليلا معرجا على حرارة الطقس والرطوبة في بلاد الخليج عموما، بينما كانت يده في محفظته تبحث عن زجاجة الكوكا كولا الفارغة التي ما لبث أن أخرجها وداعبها قليلا، وقلبها بين كفيه مهزهزا برأسه وحرقة تلتهم روحه، ثم وضعها على الطاولة أمامهم طالبا من تلامذته القيام برسمها كما يحلو لهم ويتخيلونها وبالتقنية الفنية التي يختارونها. بينما أخذت رادارات عينيه تقوم بمسح شامل لردة فعل طلابه متنقلة من واحد لآخر، ملتقطة صورا لملامح وجوههم… محاولا من خلال ذلك تقدير مدى تفاعلهم مع ما طلبه منهم عبر الذبذبات التي تبثها نظراتهم وقسماتهم.
ترك مكانه وتنقل بين طلابه يجر رجله الخشبية مبديا بعض الملاحظات لأحدهم، مثنيا على بداية آخر. مراقبا فيما إذا فهم طلابه ما أراده من وراء ما طلبه منهم. عاد بعدها إلى كرسيه وجلس ينتظر ما ستسفر عنه إبداعاتهم.
استقر غياث على كرسيه وأخذ ينظر إلى تلك الزجاجة الفارغة التي وضعها على الطاولة. حسرة، ألم، وانفعال أخذ بالزحف على دواخله فانعكس على كل كيانه. ضغطت أسنانه على بعضها كحجري رحى. أغمض عينيه وتركهما تسافران بعيدا عن حجرة التدريس عبر الزمن والمكان. مستذكرا لأيام وساعات خوال لم تتطرق إليها أقلام مبدعي المعلقات أو ألف ليلة وليلة. تذكر تلك الفراديس الوطنية وذلك العالم المخيف بكل ما فيه. أصوات أقدام السجانين وهم يقتربون من مهجعه، فترتفع وتيرة ضربات قلبه، فيقتادوه أو بالأحرى يجرجروه بالرغم من توسلاته وصياحه إلى غرف الفرفشة والنعنشة في نزهة عروبية مائة في المائة، وسط ضحكاتهم الأقرب إلى عواء ذئاب وكلاب مفترسة. تذكر أيضا رغيف الخبز وحبيبات الزيتون التي كانت تلقى له كحيوان بهدف الرشوة كي لا يبدي اعتراضه أثناء اقتياده للتنعم. بل ليبقى على قيد الحياة فيُشبعون بالتالي ساديتهم كيفما أحبوا وشاؤوا…
استحضرت أذناه ذلك الصوت المتغطرس الأجش وهو يخرج من بين شفتين ينضوي صاحبهما تحت فصيلة البشر ظلما وعدوانا. لم يسمع طيلة عمره بصوت يوازيه في بعث الخوف والاشمئزاز والقهر الداخلي. وبالأخص عندما كان يزمجر صارخا شاتما بكل الألفاظ البذيئة التي لم تعرفها ولم تستوعبها قواميس لغتنا الجميلة بعد. رافسا بكل ما أوتي من قوة. ومداعبا في آن معا جسده بالأسلاك المعدنية…
كانوا ينادونه أبا جاسر. ولكن في الواقع لا يمكن أن يكون أباً لإنسان مطلقا. إذ إن الحجارة كانت أكثر نداوة وطراوة من قلبه. بل كان اسما على مسمى كونه تجاسر على كل أنواع القيم والمحرمات الدينية والأخلاقية والإنسانية على السواء…!
حمله فكره المتجول في ذلك العالم الذي ما زال يدك مضجعه مع كل لقمة خبز تدخل أمعاءه. وفي كل ليلة من أيام عمره نسي أن يقيد فيها أحلامه بسلاسل ويدخلها في القماقم السليمانية كي لا تسرح وتحمله إلى هناك… إلى عالم حَوّل حياته إلى جحيم، يعيش تفاصيله ماثلا أمام ناظريه مع كل ذرة هواء تدخل إلى رئتيه فينغص عيشه، ويسيطر على كل تصرفاته وحركاته وسكناته…
تذكر لحظات هجوم المغول على بيتهم واعتقاله بل اقتلاعه من بين أحضان فراشه صبيحة يوم عيد وسط صراخ أمه ومن قبل أن يهنأ بزيارة قبر أبيه الذي استشهد من أجل الوطن في معركة أسموها ظلما : حرب تشرين التحريرية ! مع أنهم لم يحرروا خلالها شبرا واحدا. فنال أمه وإخوته الصغار حينها من خيرات وفظاظة عتاة العروبة وحماتها ما نالهم. كان الصفع والرفس والشتم بألفاظ يندى لها الجبين أهونها. ومر بفكره على دياجير ظلمات تلك الفراديس التي تداخل بعضها ببعض فنسي ضوء النهار وطبيعته وطعمه ولذته، لأن العذاب الذي تساقط على كل أعضاء جسده قياما وقعودا وليلا نهارا فقط لم يجعله يفكر بشيء آخر إلا بتلك الأطباق الشهية التي جاد عليه فيها سجانوه ومواعيدها الرسمية…
في يوم أحس بشيء من عطف سجانيه نحوه وذلك عندما قال أحد معذبيه لرفيقه :
– حاجته اليوم… هذا يكفيه…!
غير أن ذلك سريعا ما تبدد عندما تعالت قهقهاتهم المتشفية فصمت أذنيه. فأدرك أنه بالنسبة لهم دمية يتسلون بها. بل جراد يتلاعب به صبية الحيّ فيقطعون أوصاله عضوا بعد آخر، ثم يصلبونه من قبل أن تداعبه قدم أحدهم فيدوس عليه فتكون نهايته وخاتمته.
قام من على كرسيه وداعب بأصابعه تلك الزجاجة المنتصبة أمامه والتي أصبح شكلها حاضرا في كل لحظة من لحظات حياته منذ أن ولد من جديد، أي عندما قدر له الخروج من دياجير ظلمات السجن ومضافات العروبة بعدما باعت أمه بيتهم الذي يؤويهم بثمن بخس ودفعت لأحد كبار الضباط نصف ثمنه ليتسنى لها رؤية ابنها في عداد الأحياء.
هز برأسه…! حطت ابتسامة على شفتيه عندما تذكر صديق السجن نعيم ذلك اليساري العنيد عندما تساءل أمامه يوما : لماذا التعذيب بزجاجة الكوكا كولا…؟
فتضاحك نعيم لدرجة القهقهة بالرغم من آلام التعذيب التي كان يعاني منها في تلك اللحظات ورد قائلا
– حتى تتمكن من هضم كل شعارات الحزب الحاكم بحروفها وفواصلها. وكذلك خطب الرئيس وأقنومه المقدس : صمود، مقاومة، ممانعة.
وعقب آخر رافضا كل هذه الأفكار السوداء مؤكدا لهم أن تذوق هذا الطبق الوطني الخاص والمميز في هذه الفراديس هو بناء على معلومات مؤكدة قد وصلت للمسؤولين عن بعض المواطنين الذين أبدوا إعجابهم وافتتانهم بمفاهيم الديمقراطية والإنسانية والعدالة والحرية والمساواة المضرة بصحة المجتمع وعقلية الشعب… ولهذا فإن اختراق زجاجة الكوكا من الأسفل هي عبارة عن لقاح ضروري لتكوين مناعة ضد كل أنواع جراثيم الحرية وحشرات الديمقراطية الطفيلية واندساسها في الأجسام والعقول…!
بينما قهقه آخر من مكانه بألم معقبا : إنها خير دواء لمحو مشاعر الإنسانية والعزة والكرامة من الذاكرة والجسد على حد سواء، وحتى لا يفكر أحد بكل تلك السخافات مرة أخرى على الإطلاق…!
مشى غياث بين مقاعد طلابه وبوده النظر إلى ما قاموا برسمه، غير أن غشاوة رطوبة ساخنة حارقة قد غطت ناظريه فلم يعد يرى أمامه سوى ذلك الشريط السينمائي لتلك الذكريات التي لا تنسى، والتي انحفرت في عمق روحه وكل تفاصيل كيانه…
عاد وجلس على كرسيه مرة أخرى وتذكر المرة الأولى التي أجبره فيها أبو جسار على الجلوس على زجاجة الكوكا كولا، والألم الشديد الذي شعر به حينها، والتمزقات التي حصلت في أسفله بل في أعماق روحه… وصراخه المزلزل المدوي. والدم الذي سال من أسته. وكيف بقي أياما طوالا والألم قسيم لضربات قلبه يحس به كلما وقف أو تحرك وتقلب على أرض زنزانته الخاوية من الفراش. وكم كانت المرة الثانية أقسى من الأولى إذ أتت بعدها بأيام قلائل والورم قد شق طريقه في مؤخرته. فاشتهى ساعتها الموت وتمناه ألف مرة. فتأخخ وبكى وصرخ كطفل صغير. كإنسان من لحم ودم. بل كبشر من حقه أن تُحترم كرامته. فما كان من أبي جسار اللعين إلا أن طلب منه الانبطاح على صدره وبقية باقية من زجاجة الكولا لم تزل ظاهرة. فوقف ذلك اللعين عليها فانغرست في أحشائه كسارية علم في أرض معركة. فأحس غياث أن داخله قد تمزق. وأن نبعا للكوكا كولا بدأ يتدفق من جمجمته. وأن الموت قد اقترب منه، بل صافحه وسلم عليه متمنيا له عدم الشعور بعسر الهضم مرة أخرى. فتوقف تنفسه في حلقومه. وانتفخت عيناه وكادتا تخرجان من مكانيهما. والزجاجة تتابع دخولها أكثر فأكثر…! بعنف وقوة باحثة عن مستقر لها…! وأبو جسار يتابع الضغط برجله بلا توقف مكررا :
– هه…! هه…! هه…!
تركوه في نهاية المطاف يتابع بكاءه ونحيبه بعدما عطر أحدهم جسمه وعقّم له جراحه بالتبول عليه. فتوسل حينئذ لأبي جسار أن يضربه ويعذبه كيفما شاء وأحب: بالكهرباء.. بالجلد.. بالماء الساخن.. بإطفاء السجائر في جسده.. ببساط الريح والشبح والكرسي الألماني.. وعدم النوم والطعام وبالبقاء واقفا على قدميه ليلا نهارا… ولائحة طويلة ضمت أشهى الأطباق. إلا هذا النوع من المقبلات. غير أن توسله هذا ودون أن يدري قد حمل إشارة لأبي جسار اللئيم والحقير في آن معا كي يكمل في نفس الأسلوب. وكان كلما أكثر من الصراخ ازداد أبو جسار ومعاونوه فرحا وسعادة وزهوا…
نظر في ساعته فوجد أنه مر عليه في رحلة ذكرياته هذه أكثر من نصف الحصة الدراسية بقليل. فنهض من على كرسيه، وطاف على طلابه. فصحح لبعضهم ما قاموا برسمه ويده ترتجف. فتوقف عند رَسْم لطالب مبدع كاد أن ينطق. وتذكر ساعتها نفسه عندما كان طالبا في المدرسة ومهارته في الرسم، ومن ثم أيام دراسته في كلية الفنون وتوقعات أساتذته له ولمستقبله الذي قضت عليه أيام السجن، وتبخرت بالتالي كل جينات الأحلام التي كان يحملها في داخله. وذكره رسم آخر بأخته الصغرى التي كانت تحب الرسم بالألوان المائية، وتعتبره خير معبر عما في داخلها من آمال وفرح…
توقف طويلا عند طالب رسم الزجاجة على هيئة إنسان بشكل كاريكاتوري فذكره ذلك برسم كاريكاتوري لسيادة الرئيس نسيه يوما على الطاولة في غرفة الاستقبال ببيتهم في أحد أحياء دمشق الفقيرة فرأته جارتهم ونشرت الخبر فكان ذلك سببا لكل ما لاقاه من هوان وذل وتعذيب دام سبع سنوات عجاف في دياجير سجون الممانعة الفخمة وجحورها. فالتهبت من كثرة الضرب بالفلقة تشققات جروح إحدى رجليه وتفشى فيها الورم من دون أن يعره سجانوه كثير انتباه، وقاموا بإعطائه مضادا حيويا قد انتهت صلاحيته مع أسبرين لعلاج الحرارة. ثم انتقلوا بعدها إلى جرعات من المورفين. والضمادات يزداد تعفنها وتقيحها على جروحه، ففاحت رائحتها وسرى الورم حتى تخطى ركبته. وعندما أصبح لا يقوى على الحراك من شدة الألم والحرارة وبفعل شبه غيبوبة. حملوه إلى طبيب السجن الذي قرر قطع رجله فورا من قبل أن يتمدد الورم إلى كل جسده…!
تابع مروره على الطلاب يدفع برجله الخشبية دفعا فتوقف عند رسم لأحد الطلاب حيث رسم القنينة وبجانها دولاب سيارة. فنظر غياث في عينيه وحادثهما دون أن ينبس بكلمة…! فقد كان الطالب الوحيد الذي فهم مقصوده من الموضوع. فهو مثله من نفس الوطن وعلى ما يبدو أنه على علم بالتقاليد الوطنية، وباستعمالات زجاجة الكوكا كولا التي لم تخطر يوما على بال مصممها الذي من المفروض أن يقام له نصب تذكاري في بعض الدول العربية على ما قدمه من خدمات جليلة لتلك الأنظمة، ولرجال الأمن فيها ولسجانيها…
وقام طالب آخر برسم الزجاجة وبجانبها علامة زائد ثم علم أميركي وبعده علامة يساوي أتبعها برسم صليب معقوف. وفي ظنه أن أستاذه غياث أراد الإشارة إلى ما تمثله أميركا من فاشية واستعمار جديد بأبشع صوره. وأضحكه رسم لطالب آخر رسم الزجاجة وبجانبها علامة زائد وبعدها حبة دواء…
صحح لأحدهم ظلا، ولآخر شكل الكتابة على الزجاجة، ووضع بعض الرسومات على انفراد كي ينظر إليها فيما بعد بهدوء وروية. وعندما قرع الجرس مؤذنا بانتهاء الحصة، كانت يده تتلمس الزجاجة الفارغة وهي تنقلها من على الطاولة إلى محفظته.. وبوده أن يحكي لطلابه قصته وزجاجة الكولا واستخداماتها الوطنية. ولكنه تنهد، وهز برأسه، وخرج من القاعة يترنح، ويجرجر رجله وذكرياته.. ينتظر يوما آخر أخبر عنه ابن النيل شاعر السودان : أصبح الصبح فلا السجن ولا السجان باق…