مجموعة ميس الرّيم قرفول «حين ساعدنا الحرب لتعبرَ…»، الصادرة حديثاً عن دار التكوين (دمشق- 2017)، تأتي في هذا المنحى؛ ولعلّ المُلفت في هذه المرحلة الحسّاسة والتي يتم تشبيهها عادةً بالمخاض، أنّ الشاعرات كُنّ الأكثر قدرةً على تناول “الموضوع” بالرغم من قساوته وما يرافقه من ألم محتم؛ ”لا إله للسوري إلا دمعتَه رأى وجهها في صلاته وقيامه/ في نومه وتخييمه/ في سفره عبر الأرض وفي النبات“.
المُلاحظ أيضاً -كما أشرت سابقاً- أنّ هذه الأسماء وغيرها الكثير، بدأت تتجه إلى هذا النوع من الكتابة: كتابةٌ مفتوحةٌ على الجرح السوري، وحاولت بشتى الطرق بناء نصية شعرية مُتخلّلة، تتماهى مع شِعريات أخرى، لكنها ظلّتْ مخلصة لنبضها وحركيتها ضمن سيرورة شعرية تقيم في الجرح وحده ولا شيء غير ذلك. ما يجعلنا أمام تجاربَ تكادُ تتشابه في المضمون، “كونها شربتْ من النبع ذاته”، بينما تختلف في أسلوبها وأدواتها الشِعريّة، اختلافاً جوهريّاً. حيثُ نجد أنّ التكثيف والإيجاز كدالين أساسيين في الشعرية الجديدة، حاضرة بكل حمولاتها في هذا المُنجز الشِعري.
جماليّات السورياليّة
سِمتان رئيسيتان نجدهما في بُنية قصيدة ميس الريم قرفول؛ اللغةُ أولاً، حيثُ الجُملةُ تطولُ أو تقصر بحسب الدفقة الشعوريّة، فيما التعابيرُ تغدو في بعض الأحيان سورياليّة، السورياليّة المقصودة هنا تلك المُحبّبة بعوالمها المغايرة وحسن توظيف جماليّاتها وليس الغموض وحده كما نجد في تجارب أخرى مجايلة. في قصيدة بعنوان ”اذهبْ بعيداً في الباخرة“ تقول الشاعرة: “أعتقد أن هذه الحرب لم تترك رجلاً واحداً بعينين/ ثمّة عين واحدة/ صِرنا مسوخاً/ ومليئين بالريش/ لهذا نفرحُ أو نتبلّلُ بالدم لكل كسرٍ/ أو هزجٍ/ ضاقتْ أنفاسنا“.
الموسيقا ثانياً، والتي بدورها تختفي تماماً، مع الإبقاء على تلك النبرة الخفيفة من التناغم “الموسيقيّ” بين المفردات المنتقاة بعنايةٍ ورويّة، سواء داخل الجملة الواحدة أو ضمن القصيدة ككل. في قصيدة ”طفولة“ تقول: “في بيوتنا القديمة/ كانوا يطحنوننا مع العاطفة/ كما يُطحن حَبّ السمّاق/ لهذا ترانا حُمْراً متورّدين”.
النهايات المفتوحة
النهايةُ أو القَفْلة في قصائد «حين ساعدنا الحرب لتعبرَ…» مفتوحة على العديد من الاحتمالات وذات تأويل غير محدود، حيثُ تترك الشاعرةُ للقارئ الحريّة في توقّع “نهاية ما” من خلال استفزازها لمخيّلته وتنشيطها، بتقديم جُملٍ متتاليةٍ ومكثّفة؛ بدءاً من العنوان الرئيس للمجموعة، إذْ تلحقه بثلاث نقاطٍ وكأنها هنا تقول بأنّه ثمّة تتمّة ما للكلام، مروراً بالقصائد القصيرة والتي تطرح المزيد من الأسئلة دون أن تجيب عليها، وصولاً إلى القصائد الطويلة نوعاً ما وعناوينها الطويلة أيضاً، كما في هذه القصائد: “تبكي داخل المطر”، “بيت جديد في فرنسا”، “كيان نفطي ضخم بعيون فارغة”، و”قش بحري على قدمي آنا كارنينا وبييرو المجنون“.
في قصيدة بعنوان ”خوف“، تقول الشاعرة: “أخافُ هذا الحبّ الذي يأكل اليابس والطريّ/ على الظلمة، على براعم العتمة، على الأيادي/ المتشابكة في انكماش/ على السجون/ على الخوف/ على البيوت المهجورة التي سيموت أصحابها/ على رغبتي المتعالية، قُبالة عينيكَ/ مثل سنجاب يتقافز/ وأنا أخافُ هذا الحبّ الذي يأكل اليابس والطري/ هذا الحبّ/ الذي يشدّ الرقبة ليصبح الرأسُ عمودَ إنارة/ والجسدُ شارعاً طويلاً من المشي“.
ما نجده في المقطع السابق من سرديّة سلسة ينسحب على العديد من قصائد المجموعة، بحيثُ كلّ جملة هنا تولّد جملة أخرى تليها كسلسلةٍ لا نهائيّة من الجُمل، كأنّ القصيدةُ تبدأ ولكنها تكاد أن لا تنتهي.
وفي قصيدة ”أعراس“ تقول: “النساء اللواتي يذهبن إلى الأعراس بثيابٍ ملوّنة وجلد متعرّق وشَعر مجعّد أو متجمّع لامع بكثرة ووجه متعبٍ/ كأنْ مرّتْ عليه أحصنةٌ”.
في المقطع السابق ثمّة نَفَس طويل يجعلُ منه جُملةً واحدةً فقط، إذْ تكتفي الشاعرة بتقديم المشهد كما هو عليه ببساطته وجمالياته، دون أن تضيف إليه أيّ أثر يُذكر.
كتابة الحرب
مجموعة «حين ساعدنا الحرب لتعبرَ…»، الإصدار الأول لميس الرّيم قرفول، الشاعرة السورية المقيمة في فرنسا، والتي جاءتْ في 100 صفحة من القطع المتوسط؛ يمكننا تصنيفها في خانة أدب “الحرب/ الحياة”، حيثُ نجد مشهد “الخراب” يمتزج بحميميّةٍ مع “الغزل” الشفيف، بالإضافة إلى منسوب الحنين المرتفع والهادئ معاً بين جنباته.
“عيناك تشبهان بيتاً مهجوراً في حمص/ دمعتُكَ مهاجر/ احتضانُكَ ليس صنعةً من قصب/ احتضانُكَ يشبه الاختناق لذا أتملّص منه وأنا فيه”.. تقول قرفول.