تؤمن منال بأن الفكرة هي أساس العمل الفني وهذا يختلف عن المدرسة الكلاسيكية للفن، فدافع منال القوي لفهم وتحليل ماذا حدث للطبيعة من تشويه بعد قدوم المحتل الإسرائيلي كان أساساً للبحث والذي أدى إلى تقديمها لمعرض ”أعمال قيد الإنشاء“.
هذا المعرض الذي أقيم في وسط مدينة بيت لحم في جاليري “باب الدير” للفنانة منال محاميد ينقلنا وللوهلة الأولى إلى عالم الخيال لجمال اللون الأبيض في المجسمات والتقنيات الفنية المتعددة واللوحات فهو لون الصفاء والسلام والطمأنينة، ولكن لا يمكث هذا الشعور كثيراً بل يبدأ بالزوال حيث تختلط الطمأنينة بسيل التساؤلات. فأول ما تراه كزائر هو غزال كبير أبيض جميل وضع بشكل ذكي في حيز أبيض اللون أيضاً، ولكن ما يشتت جمال الشكل العام أن الغزال له ٣ أطراف بدل أربعة!
فكان لا بد لي أن ألتقي بمنال، لأن هنالك نهر من الأسئلة عن أي اتجاه أسلك في مخيلتي لهذا المجسم كجزء أساسي من المعرض. وتبدأ الحكاية عندما تأخذ منال الأم أطفالها إلى حديقة الحيوان، فتفاجأ بأن غزالاً اسمه “الغزال الفلسطيني“، الاسم مكتوب بالعربية كما الانجليزية، في حين أن اسم الغزال بالعبرية “الغزال الاسرائيلي”! كيف يحدث ذلك أمام أعين الناس، فقد وصل التهويد إلى تشويه أسماء الحيوانات فلم يقتصر فقط على أسماء القرى والمدن وتهويد التاريخ وكل شيء، بل إن التشويه قد وصل إلى عالم الحيوان!
هذا كان الدافع الأول الذي حفز منال لتجسيد الغزال في معرض فني كامل، أما الدافع الثاني، فهو أن أحد الغزلان في الحديقة كان بثلاثة أقدام، وعندما سألت عن سبب بتر رجله، قيل لها إنه مريض فاضطروا لبتر رجله، فشعرت منال بأن الغزال ليس بخير في هذه البيئة الجديدة، فما هو السبب؟ هل هو ناتج عن كونه معنفاً أم أنه يحاول التكيف والتغير؟
التكيف في علم الأحياء هي عملية تحدث للكائن الحي ليصبح أكثر قدرة على التعايش فالكائنات الحية تواجه تحديات بيئية وأحيانا قد تحدث طفرة جينية ناتجة عن محاولة الكائن الحي التكيف مع التغيرات البيئية الجارفة. إسرائيل حاولت وتحاول تشويه الطبيعة الفلسطينية فتهجين التسميات والنباتات والحيوانات هو جزء من مسح الذاكرة التاريخية، وتصف لي منال كيف تمت عملية تشجير القرى الفلسطينية المهجرة في الداخل المحتل بشجر ليس بالأصل من هذه الأرض بل تم اجتلابه من بعض الدول الأوروبية مثل شجر السرو والصنوبر، ليغيروا طبيعة بلادنا وليخفوا المعالم التي تدل على وجود حضارة فلسطينية في زمن ما. وهذا التغيير في جغرافيا المكان يؤثر على الحيوانات البرية الفلسطينية تماماً كما يؤثر على الرواية.
إن مشروع منال هو بحثي وفني معاً، يركز بشكل أو بأخر على الهوية الفلسطينية، ومن وجهة نظرها فإن الحياه البرية هي أحد أهم معالم الهوية الفلسطينية التي تواجه قساوة المستعمر وفكره، فهي علاقة معقدة في سياق طويل من الصراع الكولونيالي بين المواطن الأصلي والمستعمر.
استخدمت محاميد في المجسمات مادة السيراميك بعد محاولات عدة لاختيار المادة التي تناسب الفكرة، فالسيراميك مادة جميلة لماعة ثمينة ولكنها ضعيفة هشة سهلة الكسر تشبهنا.
في إحدى زوايا المعرض تجسد منال الغزال باللون الذهبي في حين أن كل ما حوله بلا لون، هذا التباين الحاد بين ما هو رمادي وبينه يميزه أكثر، كيف لا وهو يحمل كل هذه المضامين والتجربة والرواية، فمنال تنقل إلينا فيضاً من الرسائل البصرية بمجرد أن تولي وجك من جدار إلى أخر. وعندما نظرت إلى اليسار رأيت الغزال نفسه بلا لون كجزء من المحيط الشاحب كما وأنه يحاول الاختفاء في محيطه ولكنه يظل جميلاً.
فالغزال ملهم للجمال في الثقافة العربية الإسلامية، أنيق جميل سريع وذكي استلهمت منه قصائد وزجل وفسيفساء، فغزال منال بالرغم من أنه بثلاثة أطراف إلا أنه لايزال نرجسياً يقف ممشوق القوام معتداً بنفسه، وهو كثير ما يشبه الهوية الفلسطينية فهي قوية نفتخر بها إلا أنها وفي بعض الأحيان قد تحمل تعقيدات كثيرة تحديداً عند التفريق ما بين فلسطينيي الـ ٤٨ وفلسطينيي الـ ٦٧.
يضم المعرض تقنيات عدة منها الفن التركيبي والنحت ومنها الصور الفوتوغرافية واللوحات الفنية والفيديو حيث أنه يصرخ بصرياً عالياً بألوان هادئة فاتحاً أبواب الخيال للماضي ليرتبط بالحاضر، ففي أحد الزوايا، تتفوق محاميد بمزج طبقات الأبيض بعمدان التاريخ الروماني والغزال يقف عليها، فالهوية الفلسطينية محصلة لكل هذه الحضارات التي دخلت بهندستها وثقافتها ولغاتها فكان الكنعانيون والسومريون واليونان والرومان والمسلمون العرب والصليبيون والمماليك وغيرهم.
تعود محاميد لتظهر الغزال باللون الذهبي المائل إلى الأصفر وهو على جدران المنازل يشع نوراً ويتمايز عما حوله، في حين أن اللوحة التي بجانبها يتخذ الغزال لوناً متماشياً متماهياً مع الخلفية الغامقة وكأنه جزء من كل. تفوقت منال في بعض اللوحات عن غيرها بتقنيات الرسم واختيار الألوان، فاستخدام الأبيض والذهبي ودرجات الرمادي كان أكثر احترافاً وعمقاً من آلية استخدام الأزرق الغامق مقابل الأصفر، حيث يبدو أنها في حالة تجربة مستمرة للألوان والأشكال ونوعية المواد المستخدمة.
يقفز الغزال في إحدى اللوحات عالياً فوق كل القرى والمدن غير آبه بحواجز أو تقسيمات الأبرتهايد فهو لا يرى الجيش الإسرائيلي على الحواجز، هو هنا قبلهم بكثير. تقول محاميد: ”إن الصراع في داخل أراضي الـ ٤٨ أكبر من مجرد حدود وحواجز ، فهو على وجودنا على لغتنا حتى على قصصنا وذاكرتنا وموروثنا الحضاري.“
يجذب انتباهي مجسم لقطيع من الغزلان يسير في دائرة وهم مبتورو الأقدام متداخلين متشابكين معاً في دائرة محاصَرين داخلها قد تكون دوامة، فالدائرة في رمزيتها قد تحمل معنى الهزيمة وقد تحمل معنى التوحد أو قد تحمل فلسفة الحياه اليومية، ففي كل يوم تمر بنفس الدائرة ونفس الروتين فتدور الدائرة لننتهي بنفس النقطة التي بدأنا منها. تستخدم محاميد الدائرة بعدة أساليب في اللوحات والمجسمات فهي حتماً جزء من عمق الفكرة وتشكيلها البصري.
تعيد الفنانة التفكير بالماضي وتقدم لنا شريط ذاكرتها وتوحدها مع الغزال بأسلوب مبتكر يتبلور به إسقاط تعقيدات شخصيتها وهويتها على الغزال، ففي إحدى الصور تظهر هي إلى جانب الغزال في حين أن انعكاس صورتها على مرآة مكسورة على الأرض يبدو مبعثراً مشوهاً وغير منتظم، فهي تمزج بين الوعي واللاوعي فأحدهما يشبه الآخر ولكن يرى ويفهم بشكل مختلف.
هنالك حالة استثنائية وفكر عميق وسحر في أعمال محاميد تحمل طابع التجريب المحترف الذي يضعنا في عالم جميل أنثوي رقيق متشابك من الناحية البصرية والفكرية.