دارت أحاديث بين صانعي الأفلام الشباب في مدينة بيت لحم بأنه لم يعد أحد يرى سمير، فهو منشغل بالعمل على إنتاج جديد، لم يستوقفني الأمر كثيراً، لم أكن أعلم بأنه يقوم بإنتاج فيلم بهذا الاتقان، فيلم بمستوى عالمي. امتلأت مدرجات سينما “دار الكلمة” التي تتسع لـ ٣٠٠ شخص مستمتعين ومنشدّين لأحداث الفيلم.
وعندما التقيت بسمير مهنئة قال أمراً في غاية الغرابة: “كنت أشعر باكتئاب، كنت أفكر بإنهاء حياتي، كان لا بد أن أعمل على صناعة فيلم لأخرج من هذه الحالة. قلتُ له: “وهل ساعدك الفيلم على الخروج؟ هذا فيلم وليس حبوباً مضادة للاكتئاب. قال: “قلبَ كياني، غيّر منظوري للعالم!”
فالعبرة تكون بالرحلة والتجربة. فماذا لو كان الفيلم عن الرحلة؟ يبدأ الفيلم بفتاة تتحدث عن “فن المشي”، تقول: “فن المشي الذي يجعلك تشعر مع التجوال بأنك في بيتك أينما ذهبت وهذه هي الحرية” وتخلع ملابسها وتقفز في مياه بحر. رسالة الفيلم بلا شك واضحة من الدقائق الأولى، وهي البحث عن الحرية، قد يكون هذا هو الـ teaser للفيلم، في لغة صانعي الأفلام.
بعد مشهد البداية الجاذب للانتباه والباعث على التأمل، يصدمنا سمير قمصية مخرج الفيلم باستخدام فن المونتاج -هو بالأساس مونتير- يصدمنا بمشهد المشي مع انعدام الحيز المكاني، أي المشي أمام جدار الفصل والضم العنصري. جلب الفكرة وعكسها في المشاهد الأولى بأسلوب ذكي.
ويأتي اسم الفيلم بالإنجليزية Walled Citizen ، ومعنى الاسم المواطن المحاط بجدار، ولكن المخرج يختار اسما مختلفا بالعربية وهو “رحالة وجدار”، مع أن الاسم باللغة الإنجليزية أقوى وأكثر اتقاناً وجذباً. ويخبرني سمير بأنه أصر على أن تكون لغة الفيلم هي الإنجليزية ليصل إلى العالم بشكل أسرع، لا يحب الناس قراءة الترجمة، الصور أقرب من اللغة إلى قلوب البشر.
بعد المقدمة، يبدأ التعريف عن الرحلة بأسلوب أفلام الطريق. يقول سمير في الفيلم إنه في اللحظة التي يضع فيها شنطة الظهر ويمشي، يتخلص من كل القيود المجتمعية ومن الهوية والالتزامات، إنها لحظة سحرية، وفي لقطات مونتاج سريع نرى أقدامه تمشي على مناطق مختلفة، مرة في مناطق زراعية ومرة جبال، صحراء، ثلوج، شوارع معبدة وأرصفة، لقطات تحمل بعض التشويق لأننا نريد كجمهور أن نرى أكثر من مجرد أرجل تمشي على الأرض.
في قواعد كتابة نصوص الأفلام، مع كل انفراجة يجب أن تأتي عقدة والعكس صحيح، فعندما رأينا سمير يسير في بقاع الأرض بحريّة، تلاه مشهد العقدة في أن جواز السفر الفلسطيني لا يخولك السفر بحرية كما تحلم وتتمنى، ويكتمل مشهد العقدة بمقابلة مع شاب من بيت ساحور يتحدث فيه عن صعوبات السفر لنا كفلسطينيين، فالفيلم الوثائقي يعطيك معلومات عن قضية ما، وهذه المعلومات مهمة بالطبع لغير الفلسطيني، وكون لغة الفيلم هي الإنجليزية فهذا اختيار صائب بلا شك لأن الجمهور الذي يحتاج لمعرفة هذه المعلومات هو الأجنبي غير الفلسطيني، نحن نعلم هذه المعلومات وكرهناها لشدة ما عرفناها وعايشناها.
وتتوالى المقابلات مع شبان فلسطينيين وآخرين من أماكن حول العالم، لنرى كيف يعيشون ويتنقلون، فنشعر بإبداع التقطيع والمونتاج، في تضاد الظروف، أشخاص محبوسون في مدينة واحدة محاطة بجدار وآخرون يكتشفون أنفسهم أثناء السفر وفي المساحات الواسعة والترحال. كم حزين لنا أن نرى هذه المقارنة، نعم لقد شعرت بالشفقة على حالنا، فمحافظة بيت لحم تبلغ مساحتها الكلية حوالي ٦٠٠ كم مربع يبتلع الاستيطان والجدار أغلبها، فليس هنالك أفق إلا السماء.
وأول موسيقى محسوسة في الفيلم كانت في الدقيقة الـ ١٤، جميلة هي الموسيقى في الأفلام الوثائقية عندما لا يتم استخدامها كثيراً، والأجمل عندما تكون حقيقية من روح المكان، صوت غناء يرافقه عزف بيانو في جامعة وصل إليها سمير للدراسة في أوروبا، وهذا ما ساعده على الحصول على الفيزا والإجراءات اللازمة للسفر.
يطرح الفيلم تساؤلات فلسفية كبيرة كمحاولة تعريف الحرية والاستقرار، والوطن والمأوى فيلتقي سمير وهو في الدنمارك برجل بريطاني يعيش في الشارع على الرصيف، يتحدث بعمق عن الوطن، والمفارقة هنا تبدو واضحة باللغة الإنجليزية، فهو رجل بلا مأوى يتحدث عن الوطن والبيت، فيقول: بأن أسماء البلدان تتغير والحكم يتغير والناس كذلك، فليس الوطن هو المكان الذي تولد فيه، بل الذي تجد فيه حريتك، ويقارن سمير نفسه بهذا الشخص الأوروبي الذي يستطيع العيش في بلد أوروبي آخر، هي ليست غيرة أو حسد، إنه الإحساس بانعدام العدل في هذا العالم.
تأخذنا القصص لنتجول معها في الشوارع والمساحات، بشكل انسيابي، ونتمنى لو نعيش في تلك البقاع من الأرض، ثم يلتقي سمير وبالتالي نلتقي نحن المشاهدين مع فلسطينيين يعيشون في أوروبا ويعانون من العنصرية والروتين، لنعود ونسأل هل فعلاً الحرية هي في ذلك الجزء من الكرة الأرضية؟ أحد أصدقاء سمير يخبره بأن الحرية ليست أمراً سهلاً بل هي شيء ثمين جداً لا تحصل عليه بسهولة. فكل شخص لديه تعريفاته المختلفة وبالتالي يختلف المنظور والدافع والآمال.
تزداد العقدة في التصاعد، الفلسطينيون في أوروبا يعانون ظروفاً قاسية، مقيدون بعقدة الجدران وبجواز سفر فلسطيني يحاصرهم ويضعهم أمام المساءلة أينما ولوا وجوههم.
أسلوب التصوير واقعي جداً وكأن الكاميرا عينا المخرج، تنظر وتستكشف وتدخلنا إلى منازل أصحابه وخصوصياتهم، فتشعر بالقرب وتتوحد أحياناً معهم. كما وأن الكلام والعبارات التي تستخدمها الشخصيات طبيعية جداً مما جعل الحضور في السينما يتفاعل ويضحك أحياناً. حيث شعرت بأن الشخصيات لا تكترث لوجود الكاميرا، وكأنها مختفية، سألتُ سمير عن ذلك فقال “إن الكاميرا كانت موجودة دائماً، وعندما أرى ما هو مميز أو عندما يتحدث أحدهم، ما عليّ إلا أن أضغط على زر التشغيل، وأحياناً لا أضع المايكرفون، تخيلي أن أقول لأحدهم انتظر حتى أضع المايكرفون مثلاً؟ سوف يخرج حتماً من الحالة النفسية أو العاطفية الطبيعية وربما ينسى ما يقول.
يعود سمير في أحداث الفيلم إلى فلسطين ويلتقي بشبان يحاولون إيجاد الحرية بالرغم من الجدار والحواجز، وهذا يجعلني أتساءل عمّا إذا كانت الحرية في دواخلنا، فالشباب الفلسطينيون في أوروبا يعيشون نوعاً من الحرية، ولكن بعد وقت يكتشفون بأنهم في قفص وفي سجن مقيدون. أما هنا، فالشباب في سجن كبير وفي بحث دائم عن الحرية.
وتجعلك القضايا التي يتم طرحها والبحث فيها توقن بأن الفيلم هو دعوة لمحاربة الكراهية والعنصرية من جهة، ومن جهة أخرى هي دعوة للسفر للتعرف على الآخرين وإقامة صداقات وعلاقات حقيقية لا تحكمها المصالح والمادية. ويسلط الضوء على أننا في هذا الزمن حبيسو نظام الحياة القائم على الروتين والبحث عن الاستقرار والنظام المادي الرأسمالي والقروض.
والذي يعرف سمير بلطفه وبراءته يفهم جيداً بأن سرد الفيلم يتصل بشكل أو بآخر بهذه الشخصية الحالمة المختلفة، فهو يحب الناس حتى وإن كان قد مر بوقت كئيب، إلا أنه ليس شخصاً ينشر الحزن والكآبة، وهذا ما قلته لسمير عند لقائنا، وأضفت أنني كنت أبحث في الفيلم على لحظات أكثر كآبة تفسر ما يحدث لنا كفلسطينيين.
في الدقيقة ٤٠ نشعر كأن الفيلم الذي يمتد لساعة ونصف، بدأ يعيد نفسه، فبرغم جماليات الصورة والمونتاج إلا أنه لم يعد يقدم لي شيئاً جديداً، لا من حيث التشويق ولا من حيث المعلومات والصور.
أعتقد بأن الفيلم الوثائقي يجب أن لا يزيد عن ساعة. أعلم بأن سمير قضى ٣ سنوات وهو يعمل على الفيلم ولا يستطيع الاستغناء عن كثير من المشاهد، ومع ذلك يقول العاملون في هذا المجال “يجب أن تقتل أطفالك”، بمعنى أن تتخلى عن أجزاء من المادة المصورة التي تعني لك الكثير حتى يصبح الفيلم أكثر تماسكاً. وعن اعتراضي هذا قال لي سمير “إن هذه النسخة من الفيلم هي الثانية عشر، كانت مدة إحدى هذه النسخ ٤ ساعات، فلقد تخلى عن أطفاله في مراحل المونتاج حتى إنه غيّر فكرة الفيلم كلياً والتي كانت في البداية البحث عن طريقة للخروج من حالة الاكتئاب.
وعن فرحته بإنجاز أول فيلم وثائقي طويل يقول لي “أنا بالتأكيد أشعر بالفرح ولكني لا أعلم ماذا أفعل بعد الانتهاء من عمل دام لسنوات، كنت أشعر بأن هنالك دافع للعمل والحياة في كل يوم، الآن يجب أن أبحث عن دافع جديد.”