من أين ابدأ؟
كلمة ”المنفي“ -أو حتى ”الهجرة“- لا تنطبق عليّ تماماً.
لم أهاجر في يوم من الأيام، لم ينفني أحد من موطني الأصلي، مصر. كل ما في الأمر أنني وجدت نفسي، مع ميلاد وعيي، مقيماً في فرنسا التي صحبني إليها والداي. كنت أنذاك طفلاً رضيعاً لا يستطيع الاحتجاج ولا حتى النطق! بل لم يكن سفر أبي إلى فرنسا يحمل معنى كبيراً. بالنسبة له لم تكن هذه الرحلة أكثر من مهمّة مؤقتة، ستة أشهر ثم يعود لمصر ليكمل فيها مساره. قد شاء الحظ أو القدر أن تحولت الستة أشهر لستّين عاماً. عاش والدي بقية حياته في باريس مع زوجته -والدتي- وولديه، أنا وأخي الأكبر.
إذن نشأت وتربّيت وتعلّمت في باريس. كان بإمكاني أن أندمج فيها تماماً، بل وأنسى جذوري المصرية والعربية، أو بالأحرى أعتبرها خاصة بوالديّ، نبذة فلكلورية لطيفة لكنها لا تخصني ولا تخص حاضري.
لكن ما حدث هو العكس تماماً… لهذا شرح يطول، لكن يمكنني تلخيصه في قصتين.
القصة الأولى: حكايتي مع اللغة العربية
لو تأملتُ تلك الحكاية، حكايتي مع تعلّم اللغة العربية، لوجدتُ أن إصراري على التعمق فيها رغم وجودي في بيئة افرنجية، قد نبع أولاً – في طفولتي- من حرجي لعدم قدرتي على نطقها جيداً، ثم -مع الرشد- من انبهاري الشديد بنصوصها.
هذه اللغة لم تُمنح لي من الأول. فعندما هاجر والداي إلى الغرب، كان المفهوم السائد آنذاك أنه لا یجب إرباك الأطفال بتعليمهم أكثر من لغة في آن واحد.
كان الناصحون يسوّقون على سبیل المثال حالة تلك الفتاة الصغیرة المولودة لأب مصري وأم بريطانية، والتي كانت تتعلم الفرنسية في المدرسة ثم تعود للمنزل لتقوم المربية الإسبانية بمساعدتها على أداء الواجبات المدرسية. ثم يصمتون قليلاً قبل الإفصاح بأن الفتاة أصيبت نتیجة لذلك بالخرس المطبق.
إذن اكتسبتُ لغة البلد المضیف، بل تفوّقت فيها، المشكلة هي أن لغتي العربية كانت في انحدار مستمر.
في البداية لم أعر اهتماماً لتحسینها، بل كانت ركاكتها موضوع مزاح مع الأقارب والأصدقاء خلال عطلاتنا في مصر. لكني أدركت بعد حين أن ما يغفر للطفل الصغیر، جالباً الابتسامة، لن يغفر لي بعد بضع سنوات عندما أصیر رجلاً يحمل شارباً.
عليّ إذن التحرك دون تلكّع..
عظيم، ولكن من أین أبدأ؟ ليس هنالك بداً من أن یلقي المرء بذاته في عمق البحر لینخرط فيه قلباً وقالباً ويبتلع بعض الماء إذا لزم الأمر.
أخذت أستمع بجنون إلى أغاني التراث العربي، وأجتازُ العاصمة الفرنسية بحثاً عن أماكن عرض شدیدة الغرابة: قاعة سینما صغیرة بمدینة الطلبة، مركز ثقافي تابع لإحدى الدول العربية، قاعات عرض بائسة خصصت للعمّال المهاجرين… كل ذلك لحضور عرض فیلم مصري قديم في نسخة مهلهلة.
كنت أشتري جريدة الأهرام في طبعتها الدولية وأنهك نفسي في فك رموز مقالاتها. حققت هكذا شيئاً من التقدم، لكنه بطيءٌ.
ولكن ذات صیف كان هناك اكتشاف بانتظاري…
بمجرد حلول المساء قفزت في حافلة متجهة إلى القاهرة القديمة وعند وصولي إلى المكان توجّهت مباشرة إلى الخيمة الكبیرة المقامة طوال شهر رمضان بالقرب من جامع الأزهر العریق. كانت الأرض قد غطت بالسجاد وتم وضع طاولات لیتمكن أهم الناشرين من عرض إصداراتهم.
جذب انتباهي في نهاية جولتي بین الكتب غلاف مرسوم عليه قدمین غاصتا في رمال شاطئ بحري. كذلك كان العنوان، «حتى لا يطير الدخان»، مكتوباً بحروف حمراء ضخمة على خلفية بيضاء قد أثار فضولي بما يعد بتغییب العقل. فتحت الكتاب. قلّبت الصفحات الأولى… عرفت منذ أول لحظة أن هذا هو الكتاب الذي یلزمني الآن.
بمجرد عودتي إلى المنزل، اتخذت مكاني على الصندوق الخشبي في الشرفة، بعد أن أضأت نورها الخافت، ثم شرعتُ أقرأ في هدوء اللیل. اكتشفت في ضوء هذا النور الخافت الخلّاب ما حقّق لي الرضا: أنني أعرف من الكلمات أكثر مما أتصوّر، أو على الأقل ما يكفي لاستنتاج باقى الكلمات الغائبة عني. ومن هنا انفتح أمامي عالم رحب سأحلّق بداخله من رائعة لأخري.
القصة الثانية: حكايتي مع الترجمة والتأليف.
لو تأملت تلك الحكاية، حكايتي مع الترجمة والتأليف، لوجدت أن انهماكي في مجال الترجمة، ومن بعده في مجال التأليف الروائي، قد نبع من انبهاري بمدينة القاهرة.
في حياة أي مصري يعيش في الغربة، مشهد شبه سينمائي مكون من لقطتين. اللقطة الأولى هي اللحظة التي تهبط فيها الطائرة أرض القاهرة، بعد غياب طويل قد يكون استمر لسنة أو أكثر.
لطالما تساءلت عن سبب هذه الحالة الفريدة التي تنتابنى كلما عدت إلى العاصمة المصرية: وجدان خافت يتصاعد تدريجياً طوال مدة الرحلة الجوية، بينما تستعيد الروح ذكريات الزيارات السابقة وتحاول أن تتنبأ بما قد يحدث في هذه المرة، ثم يصل إلى ذروته بعد الهبوط بدقائق، لحظة عبور العتبة التي تفصل بين متن الطائرة المتوقّفة والسلم المؤدى إلى أرض مصر، لحظة استنشاق أول جرعة من الهواء المفعم بالسخونة وبتلك الرائحة الخاصة جداً التي يعبق بها الجو عند أول خطوة في الهواء الطلق.
اللقطة الثانية هي الجولة التي يقطع فيها المغترب العائد لوطنه المسافة بين المطار ومكان إقامته، تتملّكه خلالها الرغبة في الاطلاع على حركة المدينة التي تجرى أمامه فيما يشبه عرضاً مستمراً. وبما أن طول غيابه وشدة حنينه جعلا نظرته ثاقبة، سيلاحظ التغيّرات التي لحقت بالمدينة منذ زيارته الأخيرة. نعم، لا بد أن تكون هناك تغيّرات حدثت، لأن من صفات القاهرة المميزة هذا الاستبدال المستمر في المعالم.
لا أعرف أي عاصمة أخرى في العالم يمكن أن تثير هذا الكم من المشاعر المتناقضة: الحب والكراهية، الإعجاب والاستياء، الاستمتاع والضيق. وإذا سألت سكان القاهرة الدائمين عن مشاعرهم تجاه مدينتهم، ستجدهم إما محسورين على قاهرة زمان التي ولت ولن تعود، أو يطلقون نكتة عن وجوب محْوها بالكامل وبنائها من جديد.
قد يتفهم المغترب هذه الحسرة، قد يضحك لتلك النكتة، لكنه يدرك في قرارة نفسه أن التقلّبات التي تعيشها القاهرة أكبر دليل على أنها مدينة حية، مدينة تنفعل وترتجف وتتحرك، وليست مدينة متحجرة مثل بعض مدن الغرب التي تحوّلت إلى متاحف جميلة ولكنها تموت من البرد.
لذلك، أحبّ القاهرة، لا كمَن بُهر بمنظر طبيعي أو لوحة فنية ثابتة، ولكن كمن وقع في غرام امرأة، ليس بالضرورة لأنها أجمل امرأة في العالم ولا لأنها خالية من العيوب، بل لكونها مليئة بالحيوية ولقدرتها على هز مشاعره وإثارة أحلامه. فالقاهرة تتميز، إلى جانب حيويتها، بقدرة فائقة على تنشيط الذاكرة وتأجيج الخيال. لا يمكنك التفكير فيها دون أن تشعر بفيض من الفلاشات الفنية المتمثّلة في بيت من الشعر، مقطع من رواية، مشهد سينمائي أو معزوفة موسيقية… كانت القاهرة دائماً مصدراً للوحي لكثير من الأدباء، الذين رأوا فيها أكثر من مجرد ديكور لأعمالهم، بل معملاً حياً يصلح لإجراء تجارب كيميائية خاصة، تتفاعل من خلالها روح المدينة مع أبطالها وشخصياتها. أحببت تلك القاهرة الأدبية حباً موازياً لحبّي لها كمدينة حية من لحم وشحم، وربما من هنا كان إصراري على نقل تلك الأعمال من العربية إلى الفرنسية، خاصة أعمال نجيب محفوظ وجمال الغيطاني. وجدت في تلك الأعمال ما يغذي اشتياقي لمصر عموماً والقاهرة خاصة.
لكن كان هناك وسواساً يهمس لى بأن هذا لا يكفي، وإنه ينبغى عليّ أن أخاطب محبوبتي -القاهرة- مباشرةً وليس عبر أصوات أخرى، مهما كانت موهبتها. أخاطبها مباشرة؟ ولكن ماذا أقول؟ وكيف أبتكر قصة تليق بها، أنا الذي أعشق الكلمة ولكننى أفتقر إلى الحد الأدنى من الخيال، أو هكذا كنت أظن.
ظللتُ أفكّر في تلك المعضلة لشهور، بل لسنين، إلى أن جاءني أخيراً مَخرج من هذه الحيرة، عندما تذكرت هذا المشهد الذي أوردته أعلاه -أعنى مشهد المغترب الذي تهبط به الطائرة إلى القاهرة ثم جولته الأولى عبر شوارع العاصمة- والذي استقر في مخيلتي. وفجأة شعرت بسعادة كبيرة، سعادة من اكتشف كنزاً تحت رجليه! أدركت أنه بإمكاني أن أحوّل هذا المشهد الإفتتاحي إلى مطلع رواية مثيرة، تتيح لي إمكانية الخوض في المدينة من خلال حبكة روائية. كل ما يحتاجه الأمر هو القليل من لوْي الأحداث وطي المواقف كي تجارى قدرة القاهرة على خلق الأساطير.
فماذا لو تعرّض مغتربنا العائد، في التاكسي الذي أقله من المطار، لإغماءة مفاجئة؟ وماذا لو استيقظ منها في بنسيون مجهول بوسط المدينة؟ وماذا لو تبيّن له عند إفاقته أنه فقد أجزاء كاملة من ذاكرته؟ وكيف ستبدو له المدينة وهو لا يملك إلا حواسه المشتعلة؟
من هنا كانت روايتي الأولى: Le Caire à corps perdu، «قاهرة النسيان»*، التي ربما كتبتُها فقط لإعادة اكتشاف قاهرتي الحبيبة بأعين جديدة.
* شكر خاص إلى المترجمة القديرة سحر سمير يوسف التي نقلَت روايتي الأولى من الفرنسية إلى العربية، وقد استخدمتُ عباراتها لصياغة الجزء الأول من هذا النص. النسخة العربية تحت النشر من قبل المركز القومي للترجمة بالقاهرة
* ألقيت الكلمة في منتدى “كتابة في المنفى” هذا الصيف في برلين، بتنظيم كل من “مؤسسة آفاق” ومؤسسة “هاينرش بول”