فصل من رواية «الزعتر الاخير» لمروان عبد العال

رمان الثقافية

مجلة ثقافية فلسطينية

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

14/03/2018

تصوير: اسماء الغول

رمان الثقافية

مجلة ثقافية فلسطينية

رمان الثقافية

رقصة المعّاز البدوي، الراعي الذي يجوب فوق تضاريس الارض الخضراء، حركة تساوي كل معلقات القصائد وملاحم الشعر التي كُتبت، يسير كمن يزرع قبلاته فوق الندى، الفتى البدائي المتهدج الصوت على ضوء الفجر، لا يعرف النعاس و لم يتعوّد الخمول، بيته الدائم هو الغربة، ووطنه الاجمل حيث المراعي الخضراء، يطارد مروج العشب، أينما نبتت يحطّ الرحال. الممشوق القوام والفارع الطول، العسلي العينين والكستنائي البشرة، يرقص التانغو مع الماعز رقصة الرغبة مع البراري، على صدى عواء الذئاب، الراعي المصاب بفضيلة المعرفة، هوايته المفضلة الدخول في مدرسة.
كنت جندياً صغيراً في قطيع وادي الحنداج، كائن بين الكائنات التي تعقد تحالفاً مقدساً بينها، معاهدة موثقة ومحكومة بقانون الطبيعة، تسمع من بعيد صرخة طائر، ثم تتبعها من بعيد عدة صرخات متقطعة، قد لا يجذب هذا الامر انتباه أحد، لكن أذن الماعز زعتر تبدأ بالدوران كأنها رادار يستشعر انذاراً عن بعد بخطرٍ قادم، لا اعرف سر التفاهم بين طائر في السماء وزعتر النائم تحت شجرة في عمق الوادي؟ لكن حتماً هي معاهدة تفاهم غير مكتوبة ولكنها محترمة.
الطائر لا يفعل ذلك مجاناً، حينها كان يحذر الماعز أن هناك عنصر غريب قد دخل الوادي، لتكشف أنه كان ذئباً يتسلل للنيل من عنزة شاردة من القطيع. يقول لتلك الخارجة عن الجماعة بأن تكون حذرة، وفي نفس الوقت كنت اراقب الطائر عندما يحط على غصن شجرة ويحدق في حركة الديدان بالاسفل، كان زعتر يؤمن له الهبوط الآمن و لا يقع فريسة كمين ينصبه له ثعلب ماكر.
تعلم من كائنات الوادي ان غريزة البقاء تجعل الحياة أخذ وعطاء وان تكامل ووحدة طبيعية .وثيقة الوحدة بين الكائنات من اجل الحفاظ على الحياة، وثيقة الوحدة بين حيوانت الوادي هي بمثابة وثيقة تأمين لا تقدر بثمن، حياة البراري القاسية تحتاج لصيحة طير واحدة ومن لا يسمعها أو يدركها لا يلمن الا نفسه. هكذا أعتز برفقة هذه الكائنات وأنا الراعي الذي يعيش معك يا زعتر ويحاكي الماشية يسرح معها في البراري وبالخيال معاً.
وأنت تتغندر وسط بقايا الماء في الوادي، ودائما هناك دزينة عصافير تشكل لك فرقة مرافقة، عصافير تعيش على الحشرات فوق جلده ولكنها في ذات الوقت هي بمثابة صفارة انذار فوق ظهره. حتى وقت القيلولة تظل العصافير تحلق فوقه.
أُغمض عينيَّ وأفكر، رأيت مرة بيت شعر منعزل، وقد خرجت منه امرأة بدوية توجهت نحوي ولمّا أصبحنا وجهاً لوجه، كنت أظن أنّني أراها للمرة الأولى في حياتي، ويظهر أنّها هي لم تعرفني، سألتني: هل أنت عرفان البدوي؟ قلت لها نعم أنا بلحمه ودمه. فأَخذت تبكي وهجمت عليّ وضمتني إلى صدرها وهي تبكي وتقبلني وتقول يا حبيبي أنا أميرة، بدت امرأة مكتنزة جريئة جذِلة، وعندما استقيظت من حلمي اختفت، لكنّي أذكر أنها قالت: عليك أن تجدني أو تنزل عليك لعنة سيدنا وتصبح بنظره ذاك الشخص الذي لا يحبه لأنّه غير مرغوب فيه.
ثلة شقية من الأولاد من عشيرة البدو، دخَلَت بيننا فتاة في مثل عمري وأذكر أنّنا كنّا نلعب ليلاً، وعندما لامست يدي يدها أطبقت عليها وأخذت تشد، فأخذت بدوري أشد على يدها، لكن علاقتي بها لم تتعدّ هذه الحدود.
ذاكرة جريئة تحفظ بصورة فتاة أكثر جرأة مني بكثير، فتاة لدنة بيضاء البشرة ذات شفتين مشربتين بالحمرة الطبيعية في حوالي الحادية عشرة في مثل عمري، وكان أهلها مجاورين لنا، دخلت إلى بيتنا في إحدى الأمسيات وكنت نائماً في الفراش وكانت أمّي تحلب العنزات، دسّت جسدها في فراشي وضمتني إلى صدرها وأخذت تقبلني بنَهَم كأنّها أرادت أن تسكن رجفة شفتيها بالقبل. فنهضت كالملدوغ من شدة حيائي ومن المفاجأة التي لم أكن أتوقعها، حضرت أمّي بعد أن انتهت من الحلب ولم تلاحظ شيئاً، وكانت تلك التجربة أول وآخر مرة.
أحد جيراننا رجلاً أعزب في حوالي الخامسة والأربعين من العمر، له صوت رخيم وجميل جداً على “العتابا” يدخل شغاف القلب، فيه بحّة حزينة، عندما كنت أسمعه تعتريني مجموعة من المشاعر التي هي خليط من الفرح والحزن والإشفاق والسعادة.
مُنشد العتابا من يارين له إبن أخت يتيم، شاءت الصدفة أنّه يحتاج رفيقا له لذلك أُدخلت بسببه إلى مدرسة تابعة للمقاصد في أول كانون ثاني عام 1950، أخذني والدي إلى المدرسة، ومن الطرائف التي لا أنساها، سألني الأستاذ أمامه: هل “شاطر” أنت في الحساب؟ قلت له: نعم. لو كانت عشرة عصافير على شجرة وأطلقت أنت النار فأصبت عصفوراً واحداً وسقط على الأرض، كم عصفوراً يبقى على الشجرة؟ أجبت دون روية تسعة يا أستاذ، ضحك الأستاذ ووالدي ثم أردف، هل تبقى العصافير التسعة عندما تسمع إطلاق النار؟ فشعرت بالخزي. 
ندرس في شادر كبير تحت الخروبة، لكنّنا كنّا نجلس على مقاعد خشبية، وطلاب المدرسة يقفون أمامها في صفوف منتظمة، وكان أحد التلاميذ يشكو من جرح ينزف في يده ويقف بجانب منصور، أحضر الأستاذ زجاجة صبغة اليود وقطنة، فتح الزجاجة وأخذ يضع منها على الجرح، تحرّك منصور حركة مفاجئة فلكم يد الأستاذ التي يحمل فيها زجاجة الدواء فاندلق اللون الأحمر على بنطال الأستاذ، فنظر إلى منصور نظرة غاضبة وقال له: “يا ابن 66 مركوب ماذا أفعل ببنطلوني الآن”؟ بعد عدّة أيام انتقلنا مرة أخرى إلى مدرسة الشادر تحت الخروبة.
يقول: “تدور الأرض حول نفسها كما يدور البلبل حول نفسه” لكنّه لم يستوعب معنى البلبل، وهو كرة من الخشب مخروطي الشكل، في طرفه المدبّب مسمار حديدي يصبح محوره يدور البلبل حينما يلفه الأولاد بخيط ثم يرمونه ويسحبون الخيط فيبدأ البلبل الخشبي يدور حول محور كما تدور الأرض.
لم يستوعب هذه القضية وظنّ البلبل انه عصفوراً، ولذلك كان يُملي علينا: “تدور الأرض حول نفسها كما يدور البلبل حول القفص”.
ومن ذاكرتي تخرج فتاة غريبة هي أخت أحد زملائي لها ولد، طلّقها زوجها وأخذ ولده بسبب جنيّة سكنت جسدها منذ فترة طويلة، وكانت تصاب بنوبات جنونية فتحمر عيناها ويخرج الزبد من طرفي فمها وتجحظ عيناها، فيصبح منظر وجهها مرعباً لدرجة أنّ أخاها الأكبر حسن النزّال يخاف منها، أمّا أخوها الأصغر فهو الوحيد الذي لا يخافها فعندما تُصاب بالنوبة وتبدأ بالصراخ المخيف يحضنها ويضعها على فرشتها.
ذات مساء كنت أسهر في بيت الجيران فسمعنا صراخاً نسائياً مميزاً، ركضنا نحو بيتها مع كثير من أولاد العرب “لنتفرج” عليها، كان الأولاد يتدافعون وأنا منهم لنراها وقد وضعها أهلها في فراشها.
سمعني وأنا أقول إنّ الوحيد القادر على شفائها هو سيدنا المنطار، صحيح أنّه مات وشبع موتاً لكن روحه حاضرة، دليل أنّني لا زلت أخشى غضبه منذ أن ضاعت أميرة وتحوّلت إلى خيال، فطلب مني أن أقرأ القرآن عند رأسها علّها تهدأ وتستكين، فأخذت القرآن الكريم وتقدمت منها وأنا خائف جداً، جلست عند رأسها وأخذت أقرأ آيات من الذكر الحكيم، فاستندت وجلست ونظرت إليّ بعيون حمراء جاحظة والزبد ينزل من طرفي فمها وقالت: “يا ابن الزانية… ماذا تفعل هنا” فأصبت برعب شديد كاد يوقف شعر رأسي. 
لكنني لم أتحرّك وبقيت أقرأ القرآن، فعادت ووضعت رأسها على المخدة، فاطمأنيت قليلاً واستمريت في تلاوة القرآن، ودون ميعاد أو استدعاء حضر الشيخ المنطار متطوّعاً ليعالجها ويخرج الجنية من جسدها. فأقبل سيدنا على بيتها وتجمهر الأولاد أمام البيت وكنت منهم وهو يرمقني بنظرات مخيفة من تحت حاجبيه الكثيفين، وكلّنا شغف لنسمع ماذا سيفعل الشيخ.
دلف الشيخ إلى باب البيت، وهي مضطجعة على فرشتها فقامت وقالت للمنطار: “وقف عندك، إنت مين؟” قال أنا روح سيدنا المنطار الذي يحكم الإنس والجن.
فقالت: “والسبع شحار عليك، قالت: “انت معايا ولّا مع أميرة”؟ قال لها “وحِّدي الله”. فكرّرت: أنت معايا ولاّ معها”؟
ثم دار بين سيدنا والمريضة الحوار التالي وأنا أصغي لهما بكل جوارحي:
– إنتِ مين؟
– أنا جنّية… يا ويلك من الله. أنا وين أروح إذا خرجت من أميرة؟
– إنت من وين؟
– أنا جنّية من سوريا؟
– كيف دخلتِ إلى أميرة المريضة؟
– دخلت فيها في خلّة قديرة، كانت مساء جمعة تهرق الماء على الأرض دون أن تسمي باسم الله فدخلت فيها.
– تقولين أنتِ من سوريا؟
– نعم أنا من سوريا ذاهبة إلى القدس فدخلت هناك في أميرة المنكوبة.
– كنت أصغي بكل جوارحي إلى هذا الحوار وخاصة إلى صوت الجنية لأعرف كيف يكون صوت الجن، ولكن أصبت بخيبة أمل لأنّه لم يكن صوت الجنيّة، بل كان صوت أميرة نفسها ولكنه صوت مزدوج.
كتب المنطار ورقة طويلة بحبر أحمر بعض الطلاسم والكلمات غير المفهومة وطلب من أهلها أن ينقعوها في الماء طيلة الليل تحت النجوم ويسقوها النقيع عند الصباح. ففعلوا دون أن يتحسّن وضعها، ظلّت تتحدث كلاماً غير مفهوم، في اليوم التالي لم يجدها أهل البيت في سريرها، اختفت أميرة واختفى زعتر في ذات الليلة.
نزحت من الوادي ولم أعد أرى زعتر، الإختفاء الذي شغلني وجعلني أرمز له بقصة الصياد الذي وجد قنينة مغلقة في قعر النهر ولمّا فتحها خرج منها دخان ما لبث أن تحوّل إلى مارد عملاق. عشت في هذيان غياب زعتر، بشعره الأسود ورقصته التي أسعدت طفولتي في وادي الحنداج، ذات مرة في موسم التين كانت تأتي فتاة من البازورية، لم أعد أذكر اسمها، وتزورنا وتجلب معها سلة تين هدية من أحلى التين.
خبأَت أمّي عني سر اختفاء زعتر، ونصحتني أن لا أتأسف على غياب ماعز، وتهّون عليَّ بقولها ربما ضاع وسيعود، وإن كان معنا فقد نضطر لذبحه، لكن لحمه سيكون غير ذي نفع، عندما سألتها عن السبب قالت: لحم الماعز يقسّي قلب الفتى وينبت لحية الفتاة، شاهدت الفتاة تحمل كمية من التين في “لجن” على رأسها، وكانت تعرف أنّني أنزل سيراً على الأقدام إلى مدرستي هناك لأتعلّم فتنتظرني عند محلّة المعشوق وتدعوني لآكل التين، لكنّني كنت أرفض معتذراً، إذ كانت تدعوني قائلة: “يا عرفان تَعْ كول تَايْن” فأقول لها ممنون.
الخفايا التي حاصرتني جعلتني أستمتع بعدها بقصص منها “ساحر أفريقيا” “وعلاء الدين والمصباح السحري” و”ليلى والذئب” وبالصدفة أن منها قصصاً باللغة الإنجليزية فزادت ثقتي بنفسي.
أدركت أنه بالنسبة للعقل كل الأشياء الصغيرة التي تتعلّق به تكون هي الأكثر أهمية، تكون عظمتها ليس بحجمها بل بوقعها المؤثر في أعماقه، هكذا كان زعتر هذا الخارق الذي خرج من تفاصيل حياتي بحرب لم أعرف بدايتها ولا نهايتها، وأخذت مني تلك الطفولة الصغيرة.

مقابلة أجريناها مع الكاتب عن روايته… هنا

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع