أولاً: مشكلة علاقة بين المؤلف والبطل:
ينتقد باختين التعامل الذي أشاعة تاريخ الأدب في رؤية العلاقة بين البطل والمؤلف، ويصفها بالفوضى التامة حيث نلاحظ تعاقب وجهات نظر مختلفة، ويتم التصنيف على أساس الأبطال الإيجابيون والسلبيون، الأبطال الموضوعيون والسيريون الذاتيون، المثاليون والواقعيون، وتعظيم البطولة، السخرية والهزل والعبث والبطل الملحمي، الدرامي والعاطفي، الكاريكتر، والتيب، ومن ثم الشخصية وبطل الفكرة، أيضاً العاشق (العاطفي، الدرامي)، الصاخب والبسيط. كل هذه التسميات غير مقنعة بالنسبة لباختين، وهو يجدها غير منظمة أو منسقة فيما بينها.
يقرّ باختين بأنه تم اقتراح محاولات جادة للمدخل المبدئي لفهم البطل، وهي ذات منهج علمي نظري سيوسيولوجي سيري ذاتي، ولكن هذه المناهج العلمية النظرية لا تتمتع بفهم جمالي شكلي معمق للمبدأ الأساسي الإبداعي لعلاقة البطل والمؤلف، لأنها تستبدله بعلاقات وعوامل اجتماعية سيكولوجية خاملة مطابقة للوعي المبدع.
إذاً، ينتقد باختين الدراسة السيرية الذاتية في رؤية العلاقة بين البطل والمؤلف، لأنها تطابق بين حياة المؤلف وبين حياة البطل ببساطة، ويتم أخذ عينات من حياة كل منهم، يفترض أن تكون لها دلالة ما، ويلغى في هذه الحالة كل البطل وكل المؤلف نهائياً، ويلغى بالتالي الجانب الأكثر جوهرية، أي شكل العلاقة بالحدث، شكل معايشته في كل الحياة والعالم.
يميز باختين بين أربع حالات في العلاقة المبنية بين البطل والمؤلف:
الحالة الأولى: يمتلك البطلُ المؤلف. ويكون التوجه المادي والإرادي الانفعالي للبطل، ومن ثم يكون موقفه الأخلاقي-المعرفي في العالم قدوة بالنسبة إلى المؤلف، لدرجة أنه لا يستطيع أن يرى العالم إلا بعيني البطل وحده، ولا يستطيع أن يعيش إلا من داخل أحداث حياته. يعني أن المؤلف لا يستطيع أن يجد نقطة استناد قيميّة مقنعة وثابتة خارج البطل. وينسب إلى هذا النوع من العلاقة كل أبطال دوستويفسكي، وبعض أبطال تولستوي وستاندال.
الحالة الثانية: يمتلك فيها المؤلفُ البطل، يُدخل في داخله جوانب إنهاء، حيث تصبح علاقة المؤلف بالبطل بشكل جزئي وكأنها علاقة البطل بنفسه ذاتها، يبدأ البطل، إذاً، بتعيين ذاته، يُدخل تجليه في روح البطل أو شفاهه. ويستطيع البطل من هذا النوع أن يتطور بإتجاهين: اتجاه السيري الذاتي، وهكذا ينهي انعكاس المؤلف بشكل فعلي، واتجاه البطل في الكلاسيكية، وهو البطل الذي يحمل في توجهه الحياتي من داخل نفسه ذاتها وحدة إنهاء فنية، تعطى له من قبل المؤلف في كل انعكاس له، في تصرفه، في إيمائه، في إحساسه، ويبقى وفياً للكلمة فيه، لمبدئه الجمالي. مثل الأبطال الكلاسيكيين المزيفين أمثال سوماروكوف، كناجين وأوزيروف، الذين يتحدثون بشكل ساذج جداً، وفي غالب الأحيان يتحدثون عن تلك الفكرة الأخلاقية-المعرفية التي يجسدونها من خلال وجهة نظر المؤلف.
الحالة الثالثة: يكون البطل فيها سيرياً ذاتياً، يفهم انعكاس المؤلف الذي يفهمه، ويفهم ردة فعله الشمولية المتشكلة ويجعلها البطل جانباً من المعايشة الذاتية لها ويجتازها، ويكون هذا البطل غير منته، فهو يتجاوز كل تعريف شمولي وكأنه غير مطابق له، يعايش كليته المنتهية كاكتفاء ويقابلها بسر داخلي لا يمكن التعبير عنه. أنتم تظنون أنني أنا هنا كلي؟ وكأن هذا البطل يقول هل ترونني كلي؟ لكنكم لا تستطيعون أن تروا الشيء المهم فيّ، لا يمكنكم أن تصغوا إليّ أو تعرفونني. ويكون مثل هذا البطل غير هادئ بالنسبة إلى المؤلف، أي أنه ينبعث مرة ثانية وثالثة ويتطلب أشكالاً جديدة وجديدة منتهية، ينهيها هو نفسه ذاته بوعيه الذاتي. هكذا يكون البطل الرومانسي: يخاف الرومانسي أن يقدم ذاته نفسها من خلال بطله ويترك فيه شعرة داخلية، يستطيع أن يسقط ويرتفع فيها فوق انتهائه.
الحالة الرابعة: يُعتبر البطل المؤلف نفسه، يستخلص حياته الخاصة بشكل جمالي، وكأنه يعلب درواً، يمثل دوراً. ويكون هذا البطل بخلاف بطل الرومانسية المطلق، وكذلك بخلاف بطل دوستويفسكي غير التائب، يكون راضياً عن نفسه، واثقاً بنفسه ومنته أيضاً.
ثانياً: المعايشة الجمالية بين البطل والمؤلف:
يرى باختين أن الجانب الأساسي في الفعل الجمالي هو المعايشة. وهذا الفعل الجمالي يتجسد ويتمثل من خلال الذوات (المؤلف والبطل)، وهذه الذوات تتبادل أدوار الحوار، كشخصيات تعمل في العمل الفني ويجري الحوار بينهما باشتراك وعي ثالث آخر يتأمل ويتلقى ويسمع ويرى ويقرأ، وذلك بأن يغادر أيعاده المكانية ليشغل مكان البطل، ليعود مرة ثانية إلى مكانه ليتأمل الحدث، وبذلك وحده يتحقق ويتجسد الفعل الجمالي في النسيج الفني. وذلك يتم على مستويات ثلاثة: المعايشة المكانية، المعايشة الزمانية، والمعايشة الدلالية.
المعايشة المكانية:
تحت عنوان (الشكل المكاني للبطل)، يدرس باختين المعايشة المادية في العلاقة بين البطل والمؤلف. وهي تمثل بالنسبة لباختين الجانب الحسي من التواصل، أي ما يتعلق بالمظاهر الخارجية، والأفعال الظاهرة، والتصرفات الواضحة إلى الخارج، ويرى بأنها المعايشة المتعلق بالجسدي بين البطل والمؤلف.
المعايشة الزمانية:
بعد أن يستعرض باختين جسد الإنسان الخارجي كجانب مهم من الناحية الجمالية، وكذلك العالم المادي كمحيط للجسد الخارجي، ينتقل تحت عنوان (كل البطل الزماني) إلى دراسة جانب الروح، فيكتب: (أعايش أنا حياة الآخر الداخلية كروح، في الوقت الذي أكون فيه في ذاتي. فالروح هي الصورة الكلية لكل ما يعاش بشكل فعلي، كل ما هو كائن في النفس في الزمان)
المعايشة الدلالية:
تحت عنوان (كل البطل الدلالي)، يتعامل باختين مع الجانب الثالث من جوانب المعايشة الجمالية، وهي المعايشة على المستوى الدلالي: (لا ينظم البناء الفني المتناسب الأجزاء، بالنسبة لعالم الرؤية الفنية فقط، الجوانب المكانية والزمانية فحسب، لا بل والدلالية الحية أيضاً، ولا يكون الشكل مكانياً وزمانياً فقط فحسب، لا بل ويكون دلالالياً أيضاً. إن التوجه الدلالي للبطل يكتسب في الكينونة أهمية جمالية، ومن ثم ذلك المكان الداخلي الذي يشغله الإنسان في حدث الكينونة الوحيد والوحداني، وكذلك موقفه القيمي فيه. فهو يُعزل من الحدث وينتهي بشكل فني، ويحدد اختيار الجوانب الدلالية المحددة للحدث اختيار جوانب الإنهاء المتوافقة والمتطابقة معها. ويتم التعبير عن هذا باختلاف أشكال كل البطل الدلالي)
الأشكال الستة للبطل الدلالي:
الإعتراف-التقرير الذاتي : وهي أدب الإعترافات مثل تلك المعروفة للقديس أوغسطين، أو اعترافات جان جاك روسو. لا يوجد في الإعتراف-التقرير الذاتي بطل، ولا يمكن أن يوجد بطل، فالبطل والمؤلف متمازجان بواحد، وهو الروح التي تتجاوز النفس في سيرورتها، ولا تستطيع أن تنتهي، لكن تمتلئ بشكل مرتقب في الإله وحده، ولا يوجد هنا أي جانب يرضي النفس.
السيرة الذاتية: يميز باختين المذكرات الاعترافية عن المذكرات السيرية ويرى أن كل مذكرات تولستوي هي اعترافية، غير أن مذكرات بوشكين هي سيرية ذاتية تماماً.
فالمؤلف يكون أقرب إلى البطل، وكأنهما يتبادلان الأمكنة، لذلك يمكن التطابق الشخصي بين المؤلف والبطل خارج حدود الكل الفني. يعتمد المؤلف في إبداعه للبطل وحياته على نفس القيم التي يعيش المؤلف بها حياته.
فالمؤلف ليس أغنى من البطل ولا توجد لديه جوانب زائدة متوافقة مع الإبداع، لا يمثلها البطل بالنسبة إلى الحياة. يكون المؤلف في السيرة ساذجاً، فهو مرتبط بالبطل بالقرابة، ويمكن أن يتبادلا الأمكنة.
البطل الشعري الغنائي: يكون البطل والمؤلف هنا قريبين، غير أن الجوانب المتوافقة تكون أكثر بحوزة المؤلف وهي تكتسب طابعاً أكثر جوهرية. فموقف المؤلف قوي، أما البطل نفسه وتوجهه الحياتي فهما أصغريان، وهو لا يعيش تقريباً، بل إنه ينعكس في روح المؤلف الفعال المولع بالآخر.
الطبع/المصير: هنا العلاقة المتبادلة بين البطل والمؤلف والتي تحقق قصد خلق كل البطل كشخصية محددة، بحيث يعتبر هذا القصد أساسياً: ويُعطى البطل لنا من البداية ككل، تتحرك فعالية المؤلف وتخدم للإجابة عن السؤال: من هو؟ يكون المؤلف هنا نقدياً، يستخدم المؤلف في كل لحظة من إبداعه كل امتياز لكل خارج وجوده بالنسبة إلى البطل. وبنفس الوقت فإن البطل في هذا الشكل من العلاقة المتبادلة أكثر استقلالية، وهو يحيا أكثر، يعي ويعاند من خلال توجهه القيمي والحياتي الصرف وكذلك الأخلاقي والمعرفي. ونميز بين نوعين أساسيين للطبع، وهما: الطبع الكلاسيكي والطبع الرومانسي.
الطبع الكلاسيكي: المصير هو التعيين الشامل للكيونة الشخصية، وهو يحدد بشكل قدري مسبق بالضرورة كل أحداث حياته. وتعتبر الحياة بهذا الشكل مجرد تحقيق أو تنفيذ لما هو واضح من البداية في تعيينية كينونة الشخصية. تبني الشخصية نفسها من الداخل، تفكر تحس وتتصرف حسب الأغراض الدلالية. هنا إن موت البطل لا يعتبر نهاية، بل يعتبر إجمالاً، ويلقي على كل جانب من حياة البطل أهميتها الفنية، فيصبح الموت كإجمال ضرورياً من الناحية الفنية.
الطبع الرومانسي: يكون البطل الرومانسي بخلاف البطل الكلاسيكي، مُصلحاً ذاتياً ومباداً من الناحية القيمية. ولا تنتفح هنا ذاتية البطل كمصير، وإنما كفكرة، أو على الأصح كتجسيد للفكرة. فالبطل الذي يتصرف من داخل نفسه حسب أغراضه وأهوائه، يحقق فكرة ما، حقيقة ضرورية ما من الحياة، ويحقق صورة نفسه. ومن هنا تكون أحداثه وجوانبه وكذلك طريقة الحياتي ومن ثم المحيط المادي في الغالب رمزية. فالبطل هو جوال، رحالة، باحث مثل أبطال بايرون وشاتوبريان فاوست وفرتر، تلقى كل جوانب بحثه الدلالية-القيمية تعريفاً متوافقاً كمراحل رمزية للطريق الفني الموجود لتحقيق الفكرة. تحتل الجوانب الشعرية الغنائية في البطل الرومانسي بصورة حتمية مكاناً كبيراً.
إن حالة خارج وجود المؤلف بالنسبة للبطل الرومانسي، بلا شك، أقل ثباتاً منها في النموذج الكلاسيكي، حيث يؤدي هذا الموقف إلى تفسخ الطبع وتبدأ حدوده بالزوال.
التيب-النموذج: إذا كان الطبع بأنواعه زخرفياً-نقشياً وبخاصة الكلاسيكي، فإن التيب يكون فنياً تشكيلياً. فإذا توضع الطبع على مستوى القيم والعقيدة، ووضح بذلك عن توجه الإنساني الأخلاقي المعرفي عن العالم، فإن التيب بعيد عن حدود العالم ويعبر عن توجه البطل بالنسبة للقيم الملموسة والمحددة بالعصر والوسط للحيز. ويتطلب التيب تفوق المؤلف على البطل واستقلال قيمية كاملة عن عالم البطل، ومن هنا يكون المؤلف نقدياً تماماً. وتكون استقلالية المؤلف في التيب مخففة بشكل كبير.
سيرة القديسين والأنبياء: إن سيرة القديسين والأنبياء تجري في العالم الإلهي. ويصور كل جانب من هذه السيرة وكأن له أهمية فيها تحديداً. فالسيرة القدسية هي حياة مهمة في الإله. ولا يعطي وصف المؤلف مكاناً للمبادرة الذاتية وللاختيار الذاتي من حيث التعبير.
يتخلى المؤلف هنا عن نفسه، عن فعاليته الذاتية المسؤولة. إنه يشبه فن الأيقونة، حيث يتم تحاشي التوافقة الزائدة والمحدودة، لأن هذه الجوانب تخفّض دائماً الهيبة والشهرة. ويجب أن تستثني كل ما هو نموذجي للعصر الراهن أو القومية الراهنة، من الوضع الاجتماعي الراهن، من العمر الراهن، وكل ما هو ملموس في المظهر وكل التفاصيل والدقائق التي تميزه، وتستثنى الإشارات الدقيقة لزمان ومكان الحدث. كأن سيرة القداسوية تجري من البداية في الخلود.
هكذا هي أشكال كل البطل الدلالي. طبعاً لا تتطابق هذه الأشكال مع أشكال الأعمال المعينة، وقد صنفنا هذه الأشكال لكنه من الصعب إيجاد سيرة صرفة أو شعر غنائي صرف، أو بطلاً صرفاً، أو تيباً صرفاً. ففي غالب الأحيان، يكون بحوزتنا عدة جوانب مثالية، يرجح فيها واحد على الآخر، ويمكن طبعاً تداخل كل هذه الأشكال معاً. وبهذا المعنى يمكننا القول أن حدث العلاقة المتبادلة بين البطل والمؤلف فيما بينهما، يتقاربان أحياناً ويتباعدان بشكل حاد، لكن امتلاء العمل يتطلب اختلافاً حاداً وانتصاراً للمؤلف.
خاتمة:
يكتب المترجم عقبة زيدان في مقدمة الكتاب، موضحاً العلاقة بين البطل والمؤلف وفق وجهة نظر باختين، مايلي: يجب أن يتواجد المؤلف على حدود البطل المكانية والزمانية والدلالية، وألا يتطابق معه، وكلما حافظ المؤلف على هذه المعادلة، ارتفعت سوية العمل الإبداعية الفنية، وزادت القيمة الفنية أيضاً: وهذا يتطلب الحفاظ على الحياد الزماني والمكاني والدلالي، وأن يدرك المؤلف دوماً أنه خارج لعبة البطل، وليس داخلها، رغم أنه هو الذي يصنعه ويبدعه.
ويضيف: إذاً، لا يمكن أن يصبح المؤلف الحقيقي مجرد صورة، لأنه هو خالق الصورة، خالق أية صورة وكذلك لكل ما هو صوري في العمل الفني، لذلك فإن ما يمسي بصوت المؤلف يمكن أن يكون فقط أحد جوانب العمل المعطى. لكن هذه الصورة من نوع خاص جداً، حيث يدخل الفنان ذاته في اللوحة، يرسم صورته الذاتية، لكننا لا نرى في الصورة الذاتية المؤلف كما هو، فهو أفضل ما يتجلى في لوحاته كمؤلف-فنان، والمؤلف الخالق لا يمكن أن يكون مخلوقاً في ذلك الجمال الذي يخلقه هو بنفسه، لأنه من طبيعة خالقه وليس من طبيعة مخلوقة. فنحن نرى المبدع في إبداعه فقط، ولا يمكن أن نراه خارج عمله بأي حال من الأحوال.
ونوجز بما اختاره المترجم كفقرة أخيرة في توضيحه لحدود دلالات تأويل العمل الفني قائلاً: لا توجد كلمة أولى أو أخيرة تحسم علاقة الحواراتية مع العمل الإبداعي. فالعمل الإبداعي يذهب بعيداً في الماضي السحيق بلا حدود، وفي المستقبل السحيق وبلا حدود أيضاً، حتى أن الدلالات الماضية المتشكلة في حوار القرون الماضية لا يمكن أن تكون ثابتة ومستقر، ولا منتهية أو مكتملة دائماً وإلى الأبد، فهي متغيرة دائماً ومتجددة في عملية التطور المستقبلي المتتالية، ففي أية لحظة من تطور الحوار مع العمل الفني توجد كميات هائلة لا تعد ولا تحصى من الدلالات المنسية، والتي يمكن أن يتم استرجاعها في لحظة جديدة، كما أنه لا يوجد شيء ميت بشكل مطلق، وسيكون لكل دلالة بعث جديد، فهذه مسألة متعلقة بمسألة الزمان الكبير.