قرابة المئة وعشر صفحات بين نصوص قصيرة وطويلة الحجم، توصلت فيها الشاعرة والمترجمة السورية صبا قاسم، 1977، عبر كتابها الشعري الثاني «رأسي مقبرة جماعية» إلى ما يمكن تسميته تفجير الطاقة في المفردة الواحدة، وهذه الميزة التي استوقفتني كثيراً عندها، فهي تعتبر إحدى التقنيات اللغوية التي تعتمد على توليد المفردة وضخ دلالات مرادفة، تكون بمثابة رئات تعبيرية تصل بالشاعرة إلى أن تتجاوز القصيدة النثرية، بل تحاول أن تقفز عليها بمظلات لغوية متشابكة وملغزة، دون اللجوء إلى ذلك الفرز في تنقية الكلمات وطحنها، فكل كلمة هي بقعة مشهدية كونية شاملة غير قابلة إلى التجذر والتشظي.
في المقابل تقاتل المفردات كي لا تستجمع في بوتقات دلالية ضيقة تحيل اللغة لاستعمالات أخرى تبعد الشعرية وتفسد جماليتها، كون الاقتطاع المتقصد للمفردة وجزّها من معناها أو الأصح من شكلها اللغوي تودي بالجملة الطويلة إلى أن تتقلص وتتملص من فحواها ومرماها، لأن هذه المفردات ينبغي أن تتلاءم مع لحظتها وآنيتها ، فالتململ اللغوي الحاصل اليوم في الشعرية السورية نتيجته هذا الانفجار البنيوي الذي يخلخل غالباً قوام النص وواجهته الداخلية، ولدرء هذه الخلخلة لجأت الشاعرة إلى بحث جديد عن ما هو لحظوي وراهن في الدقيق من الحياة الاعتيادية، العودة إلى العلاقات الثنائية بين الكائنات، وإجراء مصالحة مع موجوداتها وأشيائها الحياتية، مبتعدة عن داخلها قليلاً ومتوغلة في التناقضات والتضادات وكل شيء متحرك حولها، كأنها هنا ترجع إلى الشعريات الأجنبية التي استفادت كثيراً من ترجماتها، الشعرية التي تبدو لنا كأنها عدوة الفكر والفكرة، غير مهتمة بخصوصيتنا التخييلية والعقلية في إدارة هذا الكائن اللغوي، إنه العقل المدمر المدهش الذي يبني الشعر في أرض أخرى، والذي بدوره ينظم العالم والناس في ذاكرة أخرى، ذاكرة المفردات التي تريد الانفكاك من تبعية معناها لتغدو في أشكال تعبيرية تستعيد ذاكرتها الحقيقية الواضحة:
لأنّ الزمنَ
عجوزٌ يُمثِّلُ الموتَ فيُغمِضُ عيناً
ويَفتَحُ الأخرى
واضرِبي قوسَ الريحِ على كمانٍ عتيق
ليخرجَ الصوتُ على مقاسِ جَسَدِكِ
بدراً مُكتمِلاً
هَدْهِدِي جناحَ الظُّنُون
سوف تتنشَّقينَ الهواءَ النّقي
بجوارِ
سُحُبٍ
لا يَعنيهَا
المَطَر !!
من جانب آخر وفي النصوص القصيرة تواجه صبا قاسم مشكلة صغيرة في المقدمات والاستهلالات لبناء المقطع، فأغلب النصوص تستهل بالضمائر وأدوات الوصل والأفعال المتداولة البسيطة التي تشرع إلى فتح النص بسلك وليس بمفتاح، ومرده أن المواجهة مع الأفعال القوية تكلف الشاعرة جهداً لغوياً مبالغاً وطاقة بلاغية عالية، قلما يهرب إليها الشعراء الذين لهم أنفاس قصيرة ورؤية قريبة، ولأن هكذا النوع من الكتابة لا تتطلب هذا التوغل والتعمق والكشف عن ظلال أخرى للكلمات والأفعال والبدايات القوية، ويبدو أن أسهل وسيلة لمواجهة اللغة هي النأي من المواجهة والاكتفاء بالايحاءات والرموز والتصورات الأولية، فقصيدة النثر هذه لا تتطلب سوى التصريح والإبلاغ والمغامرة ضمن مساحة مفتوحة على مصراعيها:
عندما كنتُ أظنُّ القصيدة
تسريحةً جميلة
لا بدّ من يَدِ كوافيرٍ ماهر
كي تخرجَ على هيئةِ مُودِل
كنتُ أبحثُ
عن مساميرِ كلماتٍ
أُثبتُ خَصَلَ أفكارٍ مَنكُوشة
أو دبابيسَ ملوّنة
أٌشكِّلُ فيها نهاياتِ الجدائل
وعندما، غرقتُ مرّةً في ساقيةٍ عَكِرة
وسمعتُ نقيقَ الضفدع
وهو يقفزُ بين أوراقٍ تُغطّي سطحَ الماء
أدركتُ أنّ الشِّعْرَ المجنونَ الذي يدورُ على حَلِّ شَعْره
بين البراري
يصبحُ أجملَ قصيدة
عندما يتعثّرُ بغُصنِ خرنوبٍ تعبثُ بقُشُورِه
يدٌ عاشقةٌ تُمشِّطُ شَعْرَهَا
ولا تهتمّ بما تساقطَ منه.
تذهب صاحبة «يشتد بي الأزرق»، 2013، بلغتها إلى صياغة أخرى للتعبير عن مشاهداتها عبر التشكيل البصري والتخييلي اللذان يصطدمان بالعين مباشرة ، العين التشيكلية والعين القرائية، تشكيلان يصنعان قدر ومصير النصوص بل يطلقان النصوص نحو فضاءات مدهشة ومثيرة تجعلان من المعاني والدلالات ذوات تحولات وتبدلات في المقطع الشعري الواحد، كأنها سلسلة عوالم وطقوس تخييلية تشبه أحلام اليقظة، أفكار طوباوية غزيرة، الحلم في أوجهه، يمارس واجباته الوجودية والعبثية، حيث اللبس اللغوي من جديد ولكن دون ثرثرة وظلال، دون متاهات متوقعة، ليتيح للشعر أن يمارس غواياته وينجذب كما هو سمته إلى التفسخ المؤلم الذي يعيشه الانسان السوري:
كلّما كَثُرَتِ النّوافذ
ضاقَ الحُلم
يقيني نافذةٌ مفتوحة
يقيني
حَبْلٌ مليءٌ بمَلاقِطِ الغسيل
الكلمةُ التي لم تقلْها
جعلتْني راعيةَ الحَرْف
أقولُ لكَ!
الكأسُ التي لم تشربْها
أَسْكَرَتْني
أقولُ لكَ!
عندما تسيلُ حُرُوفي
كمُكعّب ثَلْج
أمامَ كرةِ نارِكَ
.سأقولُ لك
الحربُ؛
حفلةٌ تنكّريّة
يرتدي الأحياءُ فيها زيّ الأموات
ويخرجُ الأمواتُ فيها على هيئةِ آلهة.
لا أعرف إن كانت الشاعرة تعيش في اللغة أم خارجها، إذ ثمة كتابة صدامية، أن تقود اللغة أم اللغة تقودك، ولكن هي ككل بداية تحاول الشاعرة رسم طريق أو طريقة نحو اللغة المكان ومن اللغة الأشياء، والحضور والغياب، فاللغة هنا في نص ”حكايات“ و ”شيطنات“ تنقلب على نفسها، تعلن وبشكل ما إعلان مناوشة مع الكلمات، مع البلاغة الرصينة، تشارك في محو الصور، الصور الخادعة للعين القرائية التي كنا بصددها، هي مواجهة عنيفة وعميقة بين اللغة واللغة، تصادم المفاهيم والغوايات والأهداف، من يصل قبل من؟