أصواتٌ كثيرة يمكن أن نسمعها في روايات نبيل الملحم، قاسية، ورطبة، حادّة وليّنة، وعوالم من الثنائيات الجارحة، ليراها بعين ثالثة، ويمنحنا وجوهًا مشلولة من الضجر، الحرمان، العزلة، الألم، الحب، الطهارة. ولا نعرف حقيقة السؤال التالي: في رواياته، هل هو البطل أم الراوي؟ وهل سيكون مصيره مصير شخصياته في تداعياتهم وانهياراتهم؟
عن الأدب والثورة والمدن وشخصياته، أجرينا مع الروائي السوري هذه المقابلة…
وأنا أقرأ “خمّارة جبرا”، ومن بعدها “إنجيل زهرة” ولم تزل تحت الطبع بعد، أصابني إحساس وكأنك تذهب في روايتك هذه لفضح كل شيء.. كل شيء: السلطة، المعارضة، المسجد، الكنيسة، الكاباريه، وحتى ماكدونالدز.. ألهذه الدرجة أنت داخل كل هذا التاريخ؟
ظننت أنني داخله، بل في عمقه، ربما يستدعي دخول هذا الجدل، أعني جدل تاريخ أبطالي، أن أكون في مركزه حين أعيشه، وعلى حوافه حين أكتبه، وفي جميع أعمالي كنت أفعل ذلك.. ما من حدث في جميع أعمالي الروائية، إلاّ وكنت داخله في المعاش، لأخرج منه وأنا أسجّله، والتاريخ بالنسبة لي هو هذه المنظومات التي عددتها أنت: السلطة، المعارضة، المسجد، الكنيسة، الكاباريه، وحتى ماكدونالدز، وبوسعك إضافة “العزلة”، ذلك المكان الذي يكثّف كل الأمكنة.
لهذا دفعت ببطلتك سلمى في “إنجيل زهرة”، ومنذ صفحاتها الأولى إلى التبوّل على جدار الكنيسة؟ هل كنت ترمز بهذا إلى السخرية من الدين كما عادتك؟
لا .. أبداً لا، لست ممن يستخدمون الترميز في كتاباتهم، لقد تبوّلت هناك بأوامر مثانتها لا بأوامري، هي فعلت ذلك، لأنها لم تكن بمحاذاة حديقة، أو ملعب كرة قدم، هو شرط (اللوكيشن)، هذا كل ما في الأمر.
وهل تطلب من قارئك أن يصغي إليك وأنت تقول ذلك؟ أن يصدّقك“.
ولمَ لا يصدّقني؟ أنا رجل قطعت وعداً على نفسي أن لا أكذب.. بي من الشجاعة، ما يسمح لي أن أكون وفيّاً لهذا الوعد، ما من متعة تساوي أن لا تكذب، ثم ليس مهمّاً أن يصدّقني القارئ، المهم أن يصدّق أبطالي، لست أنا من تبوّل هناك.. سلمى هي من فعلت ذلك.
من هي سلمى؟
هي المرأة التي دخلت الرواية لتبحث معي عن “زهرة”، فتحوّلت إلى بطل روايتي.
بسرعة غير معهودة، بتّ مكشوفاً عليها، وضعت كل حياتك بين يديها.. هل يمكن أن يحدث ذلك في الحياة؟ امرأة تصادفها للمرة الأولى فتجد نفسك وأنت تتعرّى أمامها على هذا النحو الذي حدث في الرواية؟
لو عرفت “العزلة” بما تشكّل من هواجس، لعرفت معنى هذا الانكشاف، تكون في القطار، إلى جانب سيّدة لا تعرفها، وربما تحكي لغة غير لغتها، فلا تجد نفسك إلاّ وأنت مدفوع لتحكي كل شيء، حدث معي ذلك، وكنت في طريقي من الجزائر إلى منطقة تندوف في الصحراء الغربية، كان إلى جانبي بنت برتغالية، وكنّا، كلانا، معلقين في الفضاء، منتزعي الإرادة، أسرى صندوق الحديد الذي يسمى طائرة، لا أعرف ما الذي دفعني لأحكي وأحكي وأحكي، فيما لا يمكن أن يُقال سوى في تلك اللحظة، كنت أحكي بالعربية، وهي لا تفهم العربية، وكانت تُصغي.. بل تُصغي بكل أمانة الكاهن الذي يُصغي إلى معترف، هو فعل التعرّي الذي يتوق إليه الرجل في بحثه عن كسر عزلته، الرجل في مثل هذه الحالة كما المرأة في وحدتها وهي أمام المرآة.. يحلو لها التعرّي.. التعرّي النسوي أمام المرآة هو هذا البوح، بوح مع آخر هو الجسد.. الصدر، البطن، الفخذان، المؤخرة، وحتى التفاصيل الدقيقة التي لا تكشفها المرأة سوى في حالتين.. أمام عشيقها أو مرآتها.. هذا بالتحديد ما يحدث لرجل عاش عزلة “يوسف” وانكساراته، ثم كسر أسوار عزلته لتتسلل منه امرأة هي سلمى.. كان عليه أن يحكي ويحكي ويروي ويسرد.. هو فعل تعرّ إن شئت، وإن شئت هو فعل اعتراف، فكاهن الكنيسة الذي يذهب الخاطئون إليه، يذهبون إليه مدفوعين برغبة التعرّي هذه.. صدقيني ليس من خاطئ يذهب إلى كاهنه طلباً للمغفرة.. لا .. هو يذهب إلى كاهنه ليتعرّى.. الكاهن ليس أذن الله كما يحلو له أن يُقدّم نفسه، هو مجرد وعاء ندلق فيه ما نذهب إلى التخلص منه في داخلنا.. هو الحاوية.. حاوية قمامتنا إن شئت، وفي لحظة ما، حاوية زهورنا اليابسة.
وكنت أنت يوسف في روايتك “إنجيل زهرة”، وكانت سلمى كاهنتك؟
لا .. أبداً، بالتأكيد لا، أنا لم أكتب سيرة شخصية، أنا كتبت رواية، ولكنها رواية بلغة الراوي، هذا كل ما في الأمر، وإذا كان لي أن أكتب كما يكتبون على تيترات بعض الأفلام “إذا كان ثمة تشابه ما بين أبطال هذه الرواية وبين بشر آخرين فالأمر مجرد صدفة”، فأنا سأكتب “إذا كان ثمة تشابه بيني وبين بطل روايتي، فليس في الأمر أكثر من أنني رجل متعدّد فيه من كل البشر.. من سؤال كلّ البشر، سؤال الله.. الحبّ.. الفضيلة.. الرذيلة.. الانحطاط.. السموّ.. القاتل.. الطيب.. تماماً كما حال يوسف بطل روايتي، هذا الرجل الذي يبحث عن ميتة مشرّفة، ثم لا يلبث أن يجد نفسه مدفوعاً إلى الحياة برغبة وكيد وعناد.. هذا كل ما في الأمر.
من يعرفك عن قرب، لا يقنعه كلامك.
ومن هذا الذي يعرفني عن قرب؟
حتماً كثر وأنا أستطيع أن أدّعي ذلك.
كنت أظن أن يوسف متحرّر مني، ليس من حقي أن ألبسه ثيابي، له خزانته وثيابه وقامته ومزاجه، مع ذلك بوسعي القول أنه حقيقة حياة، كما هو حقيقة روائية، فور أن يصبح في الورق، سيكون يوسف هو يوسف، فإذا ما محوت اسمي عن غلاف الرواية، سيتحرّر من هذا التصوّر، سيستعيد اسمه، وشخصه، وحريته، من العار أن أسطو عليه وأجعله أنا.. حين أرغب في روي (أنا)، أكتب مذكرات أو سيرة شخصية ولا أتعكز على الرواية.
متى يستطيع الروائي أن يخلق أبطالاً متحررين منه؟ من أفكاره ومعتقداته وسلوكه؟
حين يكون بالغ الشجاعة.. الشجاعة تقتضي أن تطلق أبطالك للحرية لا أن تأسرهم بمعتقداتك، أن تدعهم يصنعون مصائرهم كما يشاؤون هم، وفق مشيئتهم لا مشيئتك.. دعه ملحداً، دعه متهتكاً، دعه منتحراً، دعه مقامراً، دعه معصوماً عن الخطأ.. هذا بطلك، ولكن هل تستطيع أنت كروائي أن تكون هؤلاء أو واحداً من هؤلاء؟ إن هذا يتطلب بالإضافة إلى الشجاعة الخروج من التاريخ الذي حكينا عنه بداية.. أن لا يكون الروائي في مركز التاريخ بل على حافته أو فوقه ليتسنّى له أن يرى أكثر.
وزهرة، من هي زهرة؟ من هذه البنت؟ هل هي البنت التي أهديتها روايتك إلى “ذكرى الراحلة زهرة”؟ أليس لها اسم صريح في الحياة يمكنك البوح به؟
“زهرة”، هي تلك البنت المولودة في زمن اضطراب القيم، اهتزاز منظوماتها، انهيارها لحساب فراغ القيم، هي الحيرة إن شئت، وهي ذلك التصادم القتّال ما بين قيم الحبّ، وقيم السوق، قيم المعنى وقيم البضاعة، هي واحد من تعبيرات بلاد تذهب نحو المجهول تحت مطرقة طوفان حلّ بها.. بشكل ما، هي حقيقة سوريّة في هذه اللحظة، وهي حقيقة كونية تترافق مع الانهيارات الكبرى التي يشهدها الكوكب، قطار لا يعرف سكته، ومع ذلك يمشي ويمشي ويمشي إلى حيث لا يصل، هذه هي “زهرة”.
في “إنجيل زهرة”، كنت أقرأ زهرة وهي خليط من تناقضات لا تحصى، في لحظة ما، عاهرة، وفي لحظة قدّيسة، وكان يوسف يطالبها بأن تكون قدّيسة مع أنه رجل متهتك، وقد تنقّل بين بلدان لا تحصى ولم يكن قدّيساً، كيف له أن يطالبها بأن تكون قدّيسة وهو الرجل المتهتك؟
لنميّز بين الحق، والحقيقة.. ليس من حقه ذلك، ولكن حقيقته تبدّت في رغبته، وحقائقها تبدّت في سلوكها، في روايتي لم أكن مبشّراً بالحق، لا.. كنت أحاول التقاط الحقيقة، وهنا لا بد من التمييز.. بالنسبة ليوسف كانت “زهرة” هي كل ما تبقّى له، ولأنها كذلك، فهي خشبة نجاته، فإذا ما أفلتت من يده سيغرق، وفي مثل حالة زهرة، كان عليه أن يتحوّل إلى شمشون الجبّار، ذاك الذي هدم المعبد عليه وعلى من فيه، أتعرفين ذاك الرجل الذي أعدم زوجته وأطفاله بإطلاق الرصاص عليهم ثم انتحر؟ فعل ذلك لأنه قرّر في لحظة ما، أن لا يترك لهذا العالم السافل شيئاً منه.. أية قيمة من صنعه، وزهرة هي من صنع يوسف، هي أشبه بحكاية فرانكشتاين، ذاك الذي كان مسكوناً بصناعة سلالة أفضل، كائنات أقوى وأذكى، لكنه يكتشف في النهاية أنه صنع الوحش الذي يقتل صانعه.
ولكن يوسف لم يقتلها.. انتهت الرواية دون أن يتحقق موت ”زهرة”.
لأنه عاجز عن القتل، له الرغبة كل الرغبة، وعنده العجز كل العجز.. لا تنسي أن يوسف هو تعبير عن رجل طالما واجه العجز.. عجز الحسم.. حسم أيّ شيء، هو شخصية مركّبة بما يجعلها أكثر تعدّدية وتناقضاً من أن يحسم أمره، هو يرفض السلطة بكل تعبيراتها، وبذات الوقت يبحث عن جمهور مسرحها، هو يرفض الدين والفكر الديني، ومع ذلك بقي مسكوناً بالبحث عن الله، وهو يرفض العائلة، ومع ذلك وجد نفسه وهو يبحث عن أمانها حال أن ظهرت سلمى، وهو شخصية انتحارية، ولكنه عاجز عن تحقيق فعل الانتحار إياه.. شخص كهذا لا يصل في أي أمر إلى نهايته.. يوسف واقعي إلى درجة الصرامة في لحظة ما.. دونكيشوتي إلى ذروة الوهم في لحظة أخرى، هذا هو يوسف، مزيج من التردد، المغامرة، الحماقة، اليأس، ومع كل صعود درجة من هذه الدرجات نجده وقد انتقل إلى درجة أخرى في سلّم حياة لا يستند إلى أيّ جدار من جدران الحياة.. هو كذلك.. الآن عرفته، بعد أن كتبته، وأعدت قراءته.. هذا الرجل جعلني شديد الاضطراب، طافحًا بالأسئلة، لقد أحاطني بطوفان أسئلة، ولم يدع لي فرصة واحدة للإجابة عن أي منها، رجل يغرقك بالأسئلة.. سخي بالأسئلة، بخيل في الإجابة عنها.
وكذلك كان حال جاد الحق في خمّارة جبرا”.. كان منهاراً وعاجزاً عن أن يصل إلى نهاية أيّ خيار من خياراته.. وكأن كلّ أبطالك من هؤلاء العاجزين عن الاختيار؟
الفارق بينهما، أن جاد الحق عاجز في صعوده، أما يوسف فهو عاجز في انهياره وهبوطه.
لِمَ لا تعترف بأنهما يشبهانك؟
كيف يشبهانني؟ لا حظي أنك تشتمينني.
لنأخذ مواقفك في السياسة؟ أين أنت اليوم من الصراع في سوريا؟ لست مع المعارضة، ولست مع السلطة.. مواقفك تبعث على الحيرة.
لمَ تبعث على الحيرة؟ أنا أمام نظام سياسي ألغى الحياة كل الحياة لمدة تجاوزت الخمسين عاماً، نظام ليس له مشروعية الاستمرار لا أخلاقياً، ولا إنسانياً، ولا بأي من المقاييس بما فيها مقاييس الدولة المستبدة.. هذه حقيقة من العار نكرانها، يقابله معارضة صيغت من بطنه، من منظومته الأخلاقية، من إفرازاته، بما يعني أنها كتبت بأقدامه، وأظن أن سبع سنوات من الحرائق السوريّة، قد قدّمت بما لا يدع مجالاً للشك صوابية ما أقول.. هل كان مطلوباً مني أن أكون في أي من القاطرتين؟ وسيأتي من يقول بأنها “الثورة” لا المعارضة، وسأقول له: نعم، أنا أميّز بين “الثورة”، بوصفها حلم انعتاق، وبين المعارضة بوصفها مؤسسات، بل وشركات.. أنا انتميت للثورة لا لمؤسسات المعارضة، وإذا كان عليّ أن أبرهن على ذلك فبراهيني في منتجي الروائي أولاً، في “سرير بقلاوة”، وقد كان افتضاحاً لعنف السلطة وكيدها، في “بانسيون مريم”، وقد كانت رواية الحلم – الانعتاق، وبلا شك في “خمّارة جبرا”، وكذلك في “إنجيل زهرة”، أما الانتظام في العمل السياسي، فهذا ما لا أستطيعه، ما لا يستهويني، ما لست مؤهلاً له، ولا أرغب في هذا النوع من التأهيل، أنا رجل لا يصنعني أحد، فما بالك إن كان هذا (الأحد)، من بشر احترفوا الثورات فباتوا متعهدي موت، مقاولين، زجّوا البلاد في كلّ الخيارات الخاطئة؟ ما بالك إذا كان هؤلاء، هم من انتزع من شباب الثورة روح الثورة، فأحالوا حلم الثورة إلى كابوس.. إلى لعبة بين أيدي الأمم.. إلى نزاع على السلطة؟ إذا كان هؤلاء هم من سيحكمون عليّ، فلا يسعني سوى تكرار كلمة طالما استخدمتها : طز.
يطيب لي أن أسألك: ماهي “الثورة” بالنسبة لك؟
أراحني فيكتور هيغو من الإجابة فـ “حين تعيق مجرى الدم في الشريان، تكون السكتة، وحين تعيق مجرى الماء في النهر، يكون الفيضان، وحين تعيق مستقبل شعب، تكون الثورة”.
لماذا غادرت سوريا؟
لم أكن مرتبطاً بالمكان يومًا، ولا أسيراً له، كل حياتي ترحال، ساعات الطيران التي حققتها تساوي ساعات طيران طيّار مدني أنهى خدمته، وسأستمر في ذلك، أنا رجل قلق، وليس من مكان صديق لي، كل الأمكنة مضادة لي.
في حوار معك قرأت أن دمشق مدينة دلّلتك.
نعم، والقاهرة منحتني تجربة سخية من الصعب أن تمنحها مدينة لصبي مثلي.. منحتني نجيب سرور، والموالد، والحشيش، ويوميات عشوائياتها، منحتني ذاكرة مازلت أحصد منها.. كازبلانكا أعطتني الكثير الكثير، روح الفلسفة، وعمق التأمل، وبغداد أعطتني روح الزجاج المهشّم الجارح، وفي المخيمات الفلسطينية تعلّمت جدل السياسة والتنقل ما بين حقول الألغام واللعب على حافة الهاوية، وفي اليونان كسّرت عشرات الصحون وتعلّمت كيف يصغي جسدي إلى الموسيقى، وما زلت أتجوّل وسأبقى على هذا النحو حتى يكون موتي.
تحكي عن الموت كثيراً، وعلى الدوام، هل تتمناه؟
أتمناه وأخافه.. في لحظة ما أشعر بالملل.. بالإفلاس، بأن ليس لدي من وعد، ثم تأتي لحظة يتجدّد فيها الوعد فأعود للتمسك بسفالة البقاء.. ثم يأتي من يقول لي: “أن تموت فهذا عمل حيويّ“.
حيوي؟ من قال لك ذلك؟
قاله الكاتب الإسباني المتمرّد دومًا خوسيه لويس سامبيدر، على ذمة عاصم الباشا.
عاصم الباشا صديقك؟
لا.. ولكن أسئلته، وقلقه، من أعز أصدقائي.
سبعة أعمال روائية خلال سبع سنوات، بالإضافة لكتب المركز الذي تشرف عليه، ولا يخلو يوم من منشوراتك على الفيس بوك.. من أين لك كل هذا الوقت؟
الوقت؟ ما من صراع يوازي الصراع مع الوقت، الوقت هو أنت المتبدّل، كل ما عليك فعله هو أن تكون أنت في صراعك مع نفسك، عند هذه النقطة، على هذا المفترق إما أن تنتج نفسك وإما أن تتحول إلى جيفة، وأنا ممن يرغبون في أن لا يكونوا جيفاً، ثم ما الذي أنتجته أنا بالقياس مع البشر الذين تركوا لنا قيما مازلنا نرعى في حصادها؟ لا شيء.. لا شيء حقاً وليس تواضعاً.. سيّد درويش مات وهو في التاسعة والعشرين من العمر وترك لنا ما يمنحنا سبباً للبقاء بصيغة أطيب.. الرحابنة تركوا لنا مئات الأعمال، أقلّها قيم شاهقة.. أقول أقلّها وليس من أقل عند الرحابنة.. أنا لست سوى متسكع في الوقت، متسكع يحاول أن يترك للرصيف قدماً مورقة.
لو سألك الله ماذا تريد؟
لا شيء.. سأخطو خطوة نحوه، أفك أزرار قميصه وأقول له.. عليك أن تنشغل بغيري.
ولمَ تفك أزرار قميصه؟
كي لا يفك لي أزارا قميصي
سؤال أخير.. إلى أين تسير الآن؟ ما هو مشروعك الآن؟
مشروعي الآن يتلخص فيما يلي: بناء ذاكرة جديدة.. ذاكرة الأمس بالنسبة لي باتت شاحبة، بل وموجعة.
وسوريا؟
كل المهن تعطّلت في سوريا، كلّها، بما فيها المهنة الأقدم، مهنة حفّار القبور، فالسوري يحفر قبره بيده.. هذه هي سوريا، ربما ستؤجل مهنة حفاري القبور إلى زمن بعيد، ريثما يكلّ السوري عن حفر قبره بيده.