في واحدة من حكايات ”النكبة“ السورية المتعددة والمستمرة منذ سبع سنوات، تقرر المخرجة اللبنانية إنجي عبيد، أن تصنع فيلماً يناقش هواجس هجرة السوريين إلى أوروبا، وهربهم من جحيميّة الحياة في بلادهم، فيقع اختيارها على ضيفتها السورية نهاد الخوري، التي تبدو من سكّانِ دمشق، وقد قررت كالملايين من المنكوبين السوريين، الهجرة لأوروبا بحثاً عن ملاذٍ آمنٍ من جحيم الحرب المستعرة في بلادها، لتكون شخصية فيلمها.
فجاء فيلم «كنت نام على السطح»، الذي ينتمي إلى سينما المؤلف، إذ قدّمت عبيد أفكارَها ورؤاها الشخصية إزاء قضيّة عامّة، كما لم تكتفِ بحياد المخرج وكاتب السيناريو، فقررت أن تكون هي الشخصية الرئيسية الثانية بالفيلم.
لا نعرف الكثير عن نهاد خوري، كنيتُها تُخبرُنا أنّها تنتمي لإحدى الأسرِ المسيحيّةِ السورية. وتخبرُنا صباحاتُها، أنّها من مستمعي الأبراج اليوميّين، وهي من مواليدِ برج الميزان. نعرفُ أنّها تُدخّن. تخافُ المفرقعات. تنامُ على الشرفة، ذلك أنها «كانت تنام عالسطح» في دمشق. وهي الجملة التي اتخذها الفيلم عنوانًا له.
وفي العموم لا يحتاجُ متابعُ الفيلم لمعرفة ما هو أكثر، ذلك أنّ الشخصية الرئيسية، نهاد، ليست هي المقصودة تمامًا في رسالة الفيلم ومقولته، إنما ما تمثّل، أي أن ”التغريبة السورية“ هي التي أرادت عبيد تصويرها، عبر شخصية بطلتها.
وعلى الرغم من ذلك فإنّ المشكلات التي تسلّط هذه الشخصية الضوء عليها، تتعدّى حتى مسألة الهجرة. إذ تمثّل أيضًا مشكلات المرأة عامةً، في بلادٍ يستوي فيها الرجال مع النساء في مسألة واحدة: انعدام الحقوق!
لم تكتفِ المخرجة بأن تكون مؤلفة السيناريو أيضًا، لكنّها ذهبت إلى أن تكون شريكًا مباشرًا في العمل، حيث أننا رأيناها كمصوّرةٍ أيضًا. حملت الكاميرا، اقتسمت مع نهاد خوري الكوادر البسيطة والجذابة التي اختارتها هي بنفسها، بل وساهمت في كتابة مصير شخصيّتها بشكل واقعيّ، إذ كانت دائمًا تسعى وراء حلّ لوصول نهاد إلى حلمها. الهجرة. ما يُعيدُ المفارقة التي حاولت الفنونُ ما بعد الثورة في سوريا تسليط الضوء عليها: أن تقترنَ نجاةُ الناس برحيلهم عن حيواتهم السابقة بكل ما فيها.
لم يحاول الفيلم، المشارك كأحد أفلام «مهرجان الفيلم العربي ببرلين» في نسخته الأحدث، الاستعانة بما هو مؤلم، ليُظهر حالة التخبط التي وصل إليها السوريّ خلال السنوات السبع الماضية. لم تُرد إنجي عبيد أن تثير بكاءنا، واستدرار عواطفنا. ثمّة دلالات على اضطراب الشخصيّة السوريّة خلال هذه السنوات، يُمكنُ البحث فيها والاشتغالُ عليها، دونَ حاجةٍ لاستدرار العاطفة. كما أننا لم نُشاهد في «كنت نام عالسطح» تكلّفًا. ولم نجد مبالغةً في رصدِ الفيلم لشخصيّة نهاد المتخبّطة، الخارجة من الكهف. لم نشاهد بيانًا سياسيًا ولا مواقف مُعلنة وصريحة مما يجري في سوريا. لكنّنا شاهدنا غودو، أسطورة صموئيل بيكيت العبثية، التي يطولُ انتظارُها ولا تأتي.
رمزيّة عالية، استخدمتها المخرجة، عن قصدٍ أو عن غير قصد في الفيلم، إذ تبدو الإحالةُ واضحةً إلى انتظار ما هو مجهول، وما لا يُمكنُ إدراكهُ، حيث لا يعرف الهاربون من جحيميّة الحياة في سوريا، ما هية الحياة التي تنتظرهم في مستقرّاتهم المقبلة، لكنّهم مع ذلك يقررون الهجرة. انحيازٌ واضحٌ ومنطقيّ إلى المجهول إزاء المعلوم. وكأنّ المهاجرين يقولون: لا نهربُ إلى الأفضل، نهربُ من الأسوأ. وهي مقولةُ السوريين أساسًا منذ بدء ثورتهم، وحجّتهم الدائمة في وجه السؤال الذي يُباغتون بهِ بين فينةٍ وأخرى: ما هو البديل؟!
ينتهي الفيلم بمشهدٍ ذكيّ للغاية، ومشغول بحرفيةٍ و”مخّ نظيف“، يُصوّرُ شابّين يحاولان انتزاع المرآة عن أحد جدران منزل إنجي. لا نشاهدُ نُهاد، بطلة الفيلم، ولا نعرفُ ما إذا كانت استطاعت نهاية السفر أم لا. لا نعرف مصيرها، وإلى أين ستؤول بها الحال. يفكُّ الشابّان المرآة نهايةً. ونسمعُ صوتَ أحدهما أثناءَ خروجه: سفرة موفّقة.
لا ندري ما إذا كانت السفرةُ موفقةً فعلًا. ولا يستطيعُ أحدٌ الجزمَ إذا ما كان من الواجبِ المباركة للسوريين بترك بلادهم. لا نعرفُ إذا جاء غودو حقًا؟!
لم يُقدّم فيلمُ أنجي عبيد إجاباتٍ على أسئلة كثيرة. لكنّهُ لم يسعَ لذلك أصلًا. كما أنه لم يسعَ للفذلكة. قدّم حياةً عاديّة للغاية. مستنبطًا منها الأفكار الكبيرة، والهواجس المقلقة، وحسبُهُ أنهُ استطاعَ شحن عواطفنا وأفكارنا، من غير أن يسعى لذلك.