في الهجرة الأولى لم يترك فلسطينيو مخيم اليرموك مدنهم وقراهم، حفظوها في قلوبهم عندما أُجبروا على الرحيل عنها، وسرعان ما نحتوا أسماءها على شوارع المخيم، ورسموها على واجهات دكاكينهم الصغيرة، وتقاسمت القرى حاراته وشوارعه، وكأنّها انتقلت على بساط الريح من أماكنها لتستقر في خاصرة الشام. أمّا خيامهم التي استحالت منازل صغيرة، فقد زُيّنت جدرانها بصور شهدائهم التي ازدادت يومًا بعد يوم عبر مسيرة النضال الفلسطيني حتى غطت الصورة على الصورة في سباق محموم نحو الوطن السليب.
بعد نكسة حزيران/ يونيو عام 1967 توسّع المخيم، إذ احتضن أبناء نكبة عام 1948 أخوتهم أبناء الجولان السوري المحتل الذين لجأوا إلى جيرانهم الفلسطينيين في تكريس واضح للأخوة في الوطن والمصاب والأمل الدائم بالعودة.
في سورية لم يعانِ اللاجئ الفلسطيني ما عاناه شقيقه في أقطار اللجوء الأخرى، فعلى مرّ العهود واختلاف الأنظمة والسلطات بقيت القوانين التي تنظم حياة اللاجئين الفلسطينيين في سورية منذ عهد شكري القوتلي كما هي، حافظ فيها وعبرها الفلسطيني السوري على هويته الوطنية الفلسطينية في الوقت ذاته الذي نال فيه كامل حقوق المواطن السوري المدنية في التعليم والصحة والعمل في المؤسسات الخاصة والحكومية دون أي تمييز.
المخيم الفلسطيني حيثما وُجد، أكان في اليرموك أم النيرب قرب حلب أم بجوار حمص أم في درعا، بقي شاهدًا على رفض مشاريع التوطين، ورمزًا لحق العودة الذي لا يتقادم مع تلاحق الأجيال. حال مخيمات سورية تمامًا مثل حال المخيم في غزة والضفة والأردن ولبنان والعراق، ومرادف لحال الفلسطيني في جميع أماكن الشتات القصري، حيث ثمّة ارتباط عضوي لا تنفك عراه بين النكبة والهجرة والعودة، ولهذا كانت محاولة تفكيك المخيمات وحصارها المدماك الأول في محاولة تصفية القضية الفلسطينية.
لم يبدأ هذا في مخيم اليرموك ولن ينتهي به. في الخمسينيات جرت محاولة لتوطين مخيمات غزة في سيناء عبر مشروع جونسون الأميركي، وهي محاولة تلوح في الأفق مؤشرات لتكرارها ودفع أهل غزة لقبولها كمخرج من عقوبات ذوي القربي وحصار العدو.
وفي الحرب الأهلية في لبنان جرى تهجير مخيم تل الزعتر ومخيم ضبيّة الذي يقطنه مسيحيون فلسطينيون، في إشارة واضحة إلى أنّ المخيم الفلسطيني هو الهدف، وأنّ الاختباء خلف مكوّنات وشعارات طائفية ما هو إلّا تزوير لوقائع الحرب ومراميها. تكرر ذلك في حرب المخيمات وحصارها بعد اجتياح لبنان عام 1982، فالمخيم صار رمزًا للوجود ولاستمرار الثورة في وقت واحد.
ولم يكن فلسطينيو العراق، وأكبر تجمع للشتات الفلسطيني في الكويت، أفضل حالًا. أُلغي المخيم في ضواحي بغداد، كما حدثت هجرة جديدة لأكثر من نصف مليون فلسطيني من الكويت بعد دخول القوات الأميركية إليها.
في نكبة عام 1948 طرد الفلسطينيون من بلادهم، وفي نكسة حزيران 1967 نجح أغلبية الفلسطينيين في البقاء في أراضيهم، وساد اعتقاد أن عصر تهجير الشعوب وطردها من بلادها ومدنها وقراها بالقوة المسلحة قد انتهى. لكن الحرب في سوريا وتهجير ملايين السوريين ومئات الآلاف من الفلسطينيين داخل سوريا وخارجها، أعاد إلى الذاكرة احتمال قيام العدو الصهيوني بطرد الفلسطينيين العرب من فلسطين كلها أو أجزاء منها في ظل ظروف إقليمية مواتية، وفي ظل أن إعادة تهجير الفلسطينيين، وبفعل أيد عربية لم تنقطع في تاريخ المنطقة الحديث، ومع شروع الكنيست الصهيوني في سن قوانين الدولة اليهودية القومية.
في سورية انقلبت الأوضاع رأسًا على عقب، ووقع الفلسطينيون بين مطرقة التطرّف والإرهاب والاستبداد وسندان عجز الفصائل الفلسطينية وقلة حيلتها عن حمايتهم والنأي بهم عن أتون حرب مدمرة يفترض تعلقهم بقضيتهم ابتعادهم عنها.
لم تغفر لهم قدسية القضية الفلسطينية ولا الدعوة للتوجه إلى فلسطين، باعتبارها القضية المركزية التي يفرض الانخراط في الكفاح من أجلها تجميد كل تناقض عداه، إذ يسقط عبر مسيرتها المتخاذل والمتآمر. وعلى الرغم من إدراكهم أنّ الحروب والصراعات الداخلية تعيق التقدّم باتجاه فلسطين، إلّا أنّ مخيماتهم استُبيحت تمامًا، مثلما حدث مع أشقائهم السوريين على طول سورية وعرضها، وتعرضوا مثل أشقائهم للتدمير والقصف والتشريد والتهجير في داخل سورية وعبر أصقاع العالم كلها.
مخيم اليرموك لم يبقَ من سكانه أكثر من ثلاثة آلاف، ودُمرت معظم منازله وبيوته، وهُجّر أهله وسكانه. والآن، ومع الحديث عن اتفاقيات لإخلاء المسلحين منه، فإنّ ثمّة مرحلة جديدة يجب أن تبدأ، وهي مرحلة إعادة إعمار المخيم وعودة المهجرين منه إليه. هي مرحلة المحافظة على المخيم رمزًا للعودة والتمسك بها، وهي معركة فاصلة، يمنع الانتصار فيها انتقال مأساة اليرموك إلى أماكن أخرى كثيرة، ويعيد اليرموك رمزًا لانتصار كبير آتٍ.