ثمة تحولات كبرى أثارتها معركة سيف القدس، إذ أعادت وحدة الشعب الفلسطيني والأرض الفلسطينية تحت الاحتلال، ووحدة القضية الفلسطينية في تمسكها بروايتها التاريخية، وتجلى ذلك في هبة فلسطينيي الأراضي المحتلة منذ عام 1948 التي فاجأت العدو الصهيوني، وقلبت حساباته، وأفشلت محاولاته المستمرة لأسرلة المجتمع الفلسطيني في تلك المناطق؛ وفي هبة القدس والضفة الغربية التي نقضت مقولة أن صواريخ المقاومة المنطلقة من غزة تعني عسكرة الحراك الجماهيري وإجهاضه، حين اندفعت الجماهير إلى نقاط الاشتباك، وملأت الشوارع والساحات؛ وفي الإنجاز الباهر الذي حققته المقاومة على الصعيد العسكري، وعبر اختيارها اللحظة المناسبة للمواجهة، بحيث ربطت قضايا الشعب الفلسطيني بعضها ببعض، وتجاوزت إشغالها بالحصار المفروض على قطاع غزة، وكسرت المعادلة السابقة التي وضعتها في موقف الدفاع عن القطاع في وجه الاجتياحات الصهيونية، لتعلن بوضوح عن معادلة جديدة مفادها أن الاستيطان، وترحيل الفلسطينيين من أحيائهم، والاعتداء على الأقصى أو أي مكان في فلسطين، يعني كسرًا لحالة الهدوء، واستئنافًا للمواجهات. ما يعني أن غزة والمقاومة فيها قد أصبحتا جزءًا مؤثرًا في المعادلة السائدة في الضفة الغربية منذ إعادة إنتاج اتفاق أوسلو في عهد الرئيس محمود عباس.
على عكس الاجتياحات السابقة لغزة في أعوام 2008، 2012، 2014، توقفت السلطة الفلسطينية عن اتهام صواريخ المقاومة بأنها عبثية، وصمت أغلب كتابها حتى اللحظة عن مقارنة الدمار الذي أحدثه العدوان الصهيوني بذلك الذي اعترف به الكيان الصهيوني في المقابل، واعتبار ذلك مقياسًا للهزيمة والنصر، ليصلوا إلى نتيجة مفادها بأن خيار الحرب والمقاومة خيار مدمر، وأن الكف لا تقاوم المخرز، وأن لا بديل عن خيارات السلطة السياسية. وبعد أيام من اندلاع المواجهات، وإزاء تنامي الحراك الشعبي في فلسطين كلها، توقفت أجهزة الأمن عن منع المتظاهرين، بمن فيهم شبية فتح، من الوصول إلى نقاط التماس، وبدأ الإعلام الرسمي بتغطية الأحداث.
جاءت الحرب الأخيرة والسلطة الفلسطينية تعاني ردة الفعل الجماهيرية والفصائلية على قرارها إلغاء الانتخابات، حيث اتخذت من عدم موافقة العدو على تصويت ستة آلاف فلسطيني في مكاتب البريد في القدس ذريعة لذلك في الوقت الذي كانت المواجهات في القدس تشتعل، وكان بالإمكان أن تكون الانتخابات فيها مدخلًا للتصعيد مع الاحتلال وإلحاق الهزيمة به. كما جاءت في وقت عانت فيه حركة فتح من خروج عدد وافر من كوادرها على قائمتها الرئيسة لخوض الانتخابات، وتشكيلهم قوائم موازية، لعل أبرزها قائمة الحرية التي تزعمها مروان البرغوثي وناصر القدوة. أما في خضم الحرب المستعرة، فقد عانت قيادة السلطة تجاهلها في الاتصالات العربية والدولية الجارية للتخفيف من حدة التصعيد ووقف إطلاق النار، حيث تركزت الاتصالات الدولية مع قطر ومصر اللتين تحظيان بخطوط اتصال قوية مع حركة حماس التي انتقل مركز القرار إليها. ومن اللافت أيضًا أن أداء الدبلوماسية الفلسطينية الرسمي كان باهتًا، كما تمثل في خطابات وزير الخارجية، مقارنة بنظرائه العرب في الأردن ومصر وقطر وغيرهم.
ثمة طريقان أمام السلطة الفلسطينية اليوم؛ أولهما أن تنحاز إلى الإرادة الشعبية، وتعيد بناء موقفها، انطلاقًا من التزامها بمقررات المجلس المركزي واجتماع الأمناء العامين، وأن تعمل على تشكيل قيادة موحدة، وتدعم تصعيد المقاومة الشعبية السلمية في الضفة الغربية، وتغير مسارها السياسي وتتحول إلى سلطة خدمات للشعب الفلسطيني، وتعود القيادة السياسية إلى منظمة التحرير الفلسطينية، بعد إعادة بنائها إطارًا جامعًا للشعب الفلسطيني كله. أما الخيار الثاني فيتمثل في المحافظة على الخيار السياسي الراهن، والسعي للعودة إلى دائرة المفاوضات، والالتفاف على الحراك الجماهيري، واستمرار التنسيق الأمني، في محاولة لإعادة تأهيل نفسها شريكًا في عملية السلام.
يبدو أن السلطة الفلسطينية عازمة على المضي في الاتجاه الآخر، ويعزز هذا الاحتمال تلك الاتصالات التي أجراها الرئيس الأميركي جو بايدن والمجموعة الأوروبية مع الرئيس محمود عباس، وعودة الحديث مجددًا في أروقة المجتمع الدولي عن حل الدولتين وإحياء المفاوضات، وهو ما انعكس على تصريحات الرئيس محمود عباس عن نيته تشكيل حكومة (وفاق) تحظى برضى المجتمع الدولي.
الخيار الثاني يعني أن على السلطة الفلسطينية أن تتوافق مع متطلبات الولايات المتحدة الأميركية والمجموعة الأوروبية، واشتراطات اللجنة الرباعية التي ساهمت في تعزيز الانقسام الفلسطيني عبر منحها معايير الرضى والقبول والرفض والاستثناء للتيارات الفلسطينية المختلفة. واللافت هنا أنه في الوقت الذي يُطلب فيه من السلطة الالتزام بتلك المعايير، تقوم هي بفتح حوارات غير مباشرة مع حركة حماس، كما صرحت بذلك المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، وكأنهم يتعمدون بذلك إخافة السلطة، والتلويح بوجود منافس لها قد يجلس على مقعدها إلى طاولة المفاوضات، إن لم تستجب لهذه الشروط.
العامل الحاسم في هذا المسار سيكون حركة الشارع الفلسطيني ذاته، فإن استطاع أن يحافظ على زخمه الذي تجلى في هبّة الشيخ جراح والأقصى، وانتفاضة عرب عام 1948، وخلال المواجهة في غزة، وفي احتفالات النصر التي شهدتها جميع المناطق الفلسطينية، فإنه بلا شك سيكون قادرًا على تغيير المسار السياسي، والحفاظ على وحدة الشعب والأرض والقضية.