أعلنت ”مؤسسة اتجاهات- ثقافة مستقلة“ مؤخراً، عن فوز الباحث السوري الشاب إيلاف بدر الدين، بجائزة ”صادق جلال العظم الاستثنائية للبحث الثقافي“ للعام 2017، عن بحثه الموسوم بـ”ترجمة لغة الثورة السورية”، الذي يهدف إلى تسليط الضوء على أثر ترجمة اللغة المستخدمة في التعبير عن مفردات الثورة السورية، على الصورة التي تكونت لدى الغرب، عما حدث ويحدث في سورية، والذي رأت لجنة تحكيم الجائزة أنه “موضوعٍ فيه تجديد، واستكشاف وتركيز على الجانب الفكري والثقافي، والدور الذي يمكن أن يلعبه هذا الجانب ومدى تأثيره في الأحداث الجارية”.
“رمان” التقت إيلاف بدر الدين للحديث معه حول تفاصيل بحثه المتوج بجائزة المفكر السوري الراحل، والذي سيصدر قريباً في كتاب عن ”دار ممدوح عدوان“، فكان هذا الحوار:
يصدر قريباً في كتاب، بحثك المتوج بجائزة ”صادق جلال العظم الاستثنائية للبحث الثقافي“ ، سؤالي: ماذا عنى لك على الصعيد الشخصي فوزك بهذه الجائزة، ومن ثم كيف تقدّم لنا هذا العمل؟
أعتقد أن حصول أيّ باحث على جائزة في البحث العلمي هو وسام وتقدير كبير لمجهوده البحثي، فكيف إذا كانت هذه الجائزة موسومة باسم المفكر السوري الراحل صادق جلال العظم؟ لذلك أشعر بالفخر والامتنان بنفس الوقت لمؤسسة اتجاهات، ولدار ممدوح عدوان، لنشرها قريباً هذا البحث في كتاب، خاصة أني لم أفكر أبداً في هذه المرحلة بنشر أيّ دراسة باللغة العربية، لصعوبات قد نتحدث عنها لاحقاً.
أما بالنسبة للبحث، فإنه قائم على فرضية تقول إن “الفرد السوري كان محكوماً ليس فقط بالعنف المادي (المتمثل بالاعتقال والتنكيل والتخويف والقمع)، بل أيضاً بالعنف اللغوي أو الخطابي”.
ويعتمد العمل على مجموعة من ”المواد الرمزية“ يراقب تحركها داخل المساحة العامة السورية. وهو قائم بفكرة عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديوو المواد أو ”السلع الرمزية“ وتقلب هذه المواد وتحركها داخل ما يسميه بـ ”السوق“ من قبل الأفراد وإقبالهم عليها.
وما قمت به باختصار في هذا البحث هو مراقبة بعض ”المواد الرمزية“ وزمان انتشارها وتأثيرها على ممارسات الفرد السوري اللغوية والثقافية، والتي كانت النتيجة لخلق ما أسميته ”اللغة الثورية“ أو ”مواد رمزية ثورية“ متمثلة بالأغاني والجرافيتي والشعارات والتي تظهر جلياً بمقابلها مما أصدره النظام من ”مواد رمزية“ ضمن الصراع في المساحة العامة السورية.
بأيّ معنى ترى أن “العنف اللغوي كان له دوراً كبيراً في قمع الشعب السوري والتحكم بإرادته”، وأن للنظام هيكلية لغوية مسؤولة عن “إنتاج وتكوين لغة السوريين خلال فترة حكم البعث”؟ وبالتالي ما هي ماهيّة هذه الهيكلية؟
العنف اللغوي هو إحدى الوسائل التي ضبطت المجتمع والفرد عبر المؤسسات الحزبية والمجموعة الإعلامية، وأهم من ذلك كله هو القبضة الحديدية لأجهزة المخابرات. ففي فترة التسعينيات على سبيل المثال وبالنسبة للأجيال التي لم تشهد العنف المادي للنظام، كان الفرد السوري متبع للقوانين التي أقرتها الهيكلية الخطابية اللغوية للنظام من دون استخدام العنف المادي للفرد لكي يُقمع.
دائماً كنت أسأل نفسي هذا السؤال، لماذا أنا منضبط ضمن قواعد النظام من دون أن يتم اعتقالي أو فرض أيّ عنف مادي عليّ؟ وكان الجواب هو أن السوريون لم يكونوا مقيدين فقط بالعنف المادي بل وبالعنف اللغوي الذي علّم أجيال على الطاعة والرضوخ. هذا لا يعني بأن السجون كانت فارغة ولكننا نلاحظ بأن أعداد المعتقلين حتى العقد الأول من العام 2000 قد قلّ مقارنة بما كان عليه في ثمانينيات القرن الماضي، وأحد هذه الأسباب هو العنف الأكثر جدوى والأقل تكلفة على الأرض، وفي نفس الوقت هذا العنف يحقق غاية النظام ويفرضها بالقوة من دون استخدام العنف المادي وهو السيطرة والإكراه على أنه شرعي، كما تشرح الصور والأغاني والأناشيد والكتب والشعارات.. إلخ.
على أرض الواقع لا يوجد ما يُثبت بأن للنظام هيكلية أو ماكينة لإنتاج (المواد الرمزية) في السوق السورية، مجرد قصص قيل عن قال، وهو ما تقوله الباحثة الأميركية ليزا ويديين في كتابها، بأن “هذه السيطرة غامضة الأُسس”.
الإثبات الوحيد الذي قرأته كان في رواية «الصمت والصخب» لنهاد سيريس. هذا أيضاً لا ينفي وجود هذه الهيكلية. بل إن ما يثبت وجود هذه الهيكلية إحصاء المؤسسات التي كانت وما تزال مسؤولة عن إنتاج هذه المواد، وهو ما يجلعنا نكوّن ما أسميه هنا “الهيكلية الخطابية اللغوية”. فنرى بأن كل المساحات العامة (لا أقصد الحيّز العام هنا) في سورية قد صودرت من قبل مؤسسات النظام، خاصة بالفترة التي سبقت وصول التكنولوجيا لذروتها، والتي كانت باباً جديداً لرؤية أوجه أخرى للحقيقة. فنرى بأن الأغاني والأناشيد الوطنية كانت وما زالت موسومة باسم القائد الخالد للأبد وحزبه، والكتب الأكثر توافراً وحتى بالمجان هي التي تخلّد اسمه.
بنفس الطريقة احتُلّت المساحات الموسيقية، والمساحات التي من الممكن أن تأخذها الكتب عن طريق التضييق في النشر، ووسم جميع الأغاني الوطنية باسم القائد الخالد وغياب اسم “سورية” منها.
أما على الصعيد البصري، فيكفي فقط أن تشاهد موقع وكالة الأنباء الرسمية (سانا) لأيّ تغطية مباشرة فترى ما أسميه أنا بـ “عملية الاحتلال البصري للمساحات العامة عن طريق الصور والتماثيل .. إلخ”.
ونفس الشيء بالنسبة للشعارات والمصطلحات والأقاصيص.. جميعها خرج من هذه البيئة التي تم التحكم بها لمدة عقود طويلة. فالسيطرة على هذه المساحات العامة كانت سيطرةً على الفرد السوري من دون استخدام العنف المادي إلّا عند الضرورة.
ماذا عن الهيكلية المماثلة لها، والتي ظهرت مقابل الهيكلية الخطابية اللغوية للنظام، والمتمثلة بـ ”المنتجات الرمزية للثورة السورية“، التي انطلقت في آذار/ مارس 2011؟
بنفس الطريقة التي أقول إنه لا يوجد دليل حقيقي على وجود هيكلية خطابية لغوية للنظام فإن الأمر كذلك بالنسبة للثورة. بعد آذار/ مارس 2011 نرى بأن السوق الرمزية السورية خلقت منافسة في إنتاج وتوزيع ”المنتجات الرمزية الثورية“. فحاولتُ أن أُقدّم نفس العناصر التي كوّنت الهيكلية للنظام بتلك التي كوّنت الهيكلية المقابلة/ الثورية. والأخيرة لا يمكن اختزالها بأشخاص، كما يصعب تتبعها بسبب غزارة الإنتاج وقلة التوثيق وإخفاء هوية أصحاب بعض الأعمال.
لكن وضع خريطة بشكل مجازي مصحوبة بالتواريخ والأحداث السياسية التي حدثت، و”المواد الرمزية“ التي أُدرجت إلى السوق يُظهر لك بأن هذه المواد لم تُخلق عشوائياً، حتى لو اتسمت بالعشوائية، حيث يمكننا وضع خط عام لهذه المواد.
ويمكن لهذه (المواد الرمزية) وتواجدها الفعلي على المساحة العامة السورية أن يوصلنا لخلاصة مفادها أنه يوجد “هيكلية خطابية لغوية ثورية” في مقابل هيكلية النظام الخطابية اللغوية.
في جميع الأحوال فكرة “الهيكلية” لا أقصد بها ما أراد الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو من تعريفه لما يسميه “Discursive Formation“ ، بل ما أقصده هو فقط أداة أو ماكينة مسؤولة عن إنتاج هذه ”المواد الرمزية“ سواء للنظام أو للثورة.
هل كان للمسيرات التي سيرها النظام، والتي كان يصفها بـ ”المليونية“، أيّ دور في تكوين اللغة الثورية السورية؟
الإجابة عن هذا السؤال تحيلنا إلى كتاب ميشيل فوكو “L’histoire de la Sexualité“ والذي يشرح فيه أنه “لا بدّ للخطاب المعارض أن ينبثق من الخطاب السائد المسيطر”، وهو كذلك من وجهة نظري للممارسات الثورية، على الأقل في البدايات فنرى بأنه يوجد تأثير واضح وكبير ومتبادل بين الطرفين في طريقة التظاهر وطريق التجمهر والشكل البصري للمسيرة والمظاهرة فقط في الأشهر الأولى من الثورة، وبعد ذلك أصبحت المظاهرات الثورية مختلفة ومستقاة من الهوية الثقافية السورية في طريقة الأداء.
سأحيل لك تساؤلك الأهم الذي طرحته في مقدّمة الكتاب: “هل اللغة الثورية السورية هي انقطاع أم امتداد (1970-2011)”؟
حقيقة حاولت كثيراً أن لا أجيب عن هذا السؤال لإشكاليته، وهو مفتوح بطريقة أو بأخرى. ولكن إذا ما فكرنا بالانقطاع اللغوي فإنه من غير الممكن عملياً للفرد أن يستيقظ في اليوم التالي وهو يستخدم ممارسات ثقافية لغوية مختلفة عن تلك التي كانت بالأمس، وهي أيضاً تحيلنا لفكرة نقطة التحوّل، ففكرة “الهابيتوس” (habitus) للفرد (أي التطبع والتمايز) تتغير، ولكن تحتاج إلى وقت كبير أكبر مما حدث في سورية لتغييره، وشروط أخرى لا تتوافر مع الحدث السوري لخلق “هابيتوس” فردي جديد في سورية.
هل يوجد فعلاً نقطة تاريخية معينة يحدث بها انقطاع ويبدأ شيء جديد كلياً في طرفة عين؟ أعتقد بأن الإجابة هي “لا”. وهو ما تثبته الممارسات الثورية الأدائيّة في الأشهر الأولى. فإضافة إلى الشكل البصري للمظاهرة أو المسيرة فإننا نرى ممارسات معينة تم التنافس عليها، فإذا ما قام الطرف الأوّل برفع أكبر علم، نرى الطرف الثاني يقوم بنفس الشيء. مثال آخر على الممارسات، وهي كثيرة بطبيعة الحال، كانت فكرة “بوالين الحرية” التي قوبلت بأخرى من قبل النظام وهكذا.
لقد كان من الصعوبة في بداية الحراك أن تفصل بين الأدائين لمؤيدي النظام والثورة رغم اختلاف المضمون. بنفس الوقت فإننا رأينا خطاباً جديداً بدأ يُخلق بعد الأيام الأولى، وهو عبارة عن ممارسات ثقافية لغوية خلقت انعطافاً في استخدام اللغة. هذا الانعطاف ليس انقطاعاً وليس امتداداً بل هو تغيير أو استعداد لتشكيل تيار جديد، وبجميع الأحوال فإن هذا التغيير لزمه الوقت ليكوّن نفسه.
هذا التغيير اللغوي برأيي بدأ بتغيير الممارسات الثقافية داخل “الهابيتوس” السوري للفرد. فكل فرد -اعتماداً لطبقته الاجتماعية- أصبح يستخدم طرقاً وأساليب جديدة تجعله يتأقلم في ظروف البيئة الجديدة التي يعيش بها.
هنا يجب التنويه أن ممارسات الفرد المؤيد على سبيل المثال في منطقة مثل بلدة “دوما” في الغوطة الشرقية، مختلفة تماماً عن تلك التي في مدينة دمشق في منطقة مؤيدة للنظام في أوّل أسابيع الثورة والعكس صحيح. فكلا الفردان يطوّران أساليب تُعينهما على استخراج ممارسات ثقافية ولغوية جديدة، تجعل كل واحد منهما يتأقلم مع واقعه الاجتماعي الجديد ويتعايش معه، وهذا التعايش هو ما يكوّن لغة ثورية جديدة أو لغة موالاة للنظام.
كيف عملت على اختيار وتحديد المصطلحات العلمية للدراسة سواء منها العربية أو تلك المأخوذة من اللغات الأجنبية، وهل كانت هناك معايير محددة؟
اعتمدت منهج متعدد المداخل أو المجالات في مقاربتي لـ“المواد الرمزية“ التي استخدمتها، مجموعة من العلوم الاجتماعية والأدوات النظرية والمقاربات كانت مفتاحي لمساعدتي على فهم هذه المواد وتحديد طريقة انتشارها وتوزيعها.
أما بالنسبة للمراجع، فقد استندت على الكتب الأجنبية سواء الصادرة باللغة الانكليزية أو الفرنسية كمصدر أوّل للمعلومات النظرية، من دون الرجوع إلى تلك الكتب التي كانت مترجمة إلى العربية. وأعتقد بأن هذه العملية سهلت عليّ عملية تطبيقها غير أنها صعبت تعريبها، وبسبب ضيق الوقت (أربعة أشهر تقريباً) للكتابة لم أستطع أن أتأكد من صحة الترجمة لهذه المصطلحات، لذلك قمت بالإشارة للمصطلح في نصه الأصلي مكتوباً بالحروف اللاتينية، وقمت بكتابة المصطلح بما رأيته مناسباً باللغة العربية.
أما عن معايير استخدام النظريات، فقد حاولت قدر الإمكان أن أختصر في شرح النظريات والمقاربات والنهج الأدبية الفلسفية، حتى يكون العمل واضحاً لأيّ قارئ للدراسة، وحتى أستغل في نفس الوقت المساحة المحددة للبحث، فبعكس الأبحاث التقليدية التي تستخدم 20 أو 30 صفحة لشرح النظريات، والتي هي بجميع الأحوال لا يقرأها إلّا المختصون، وأحياناً نجد أن هذا الشرح لا يُطبق في العمل نفسه، طبقاً لما قرأته من أبحاث منجزة باللغة العربية، فضلت أن أشرح بشكل مقتضب الأدوات التي أستخدمها فقط. وربما كان لا بدّ من وضع قائمة بالمصطلحات النظرية في آخر البحث لكن الوقت لم يسعفني.
ماذا عن معايير اختيار من التقيت بهم أو حاورتهم بشأن محاور البحث، وكيف تم ذلك؟
البحث الذي أنجزته ليس ثمرة عمل أشهر قليلة، بل أني منذ العام 2015 عندما حصلت على جائزة “Trajectories of Change” الخاصة بمشاريع دراسات الدكتوراه، أتيح لي تأمين تكاليف البحث الميداني، وهو ما مكنني من إجراء مقابلات منذ ذلك العام مع العديد من الأشخاص من ناشطي الثورة، في كل من تركيا وألمانيا وفرنسا. وقد استطعت من مجموع 200 مقابلة مسجلة أن أحصر عملي على حوالي 50 مقابلة شخصية أفادتني في تقييم المواد التي عملت عليها وفلترتها والتدقيق بها. أما على صعيد نوع المقابلة فإنني أخترت إجراء مقابلات “Semi-Structured”. وبهذا النوع من المقابلات في الأنثروبولوجيا، يستطيع الباحث التركيز على نقاط أساسية تتيح له حرية التنقل في مساحات أخرى. مع الإشارة إلى أن هناك مقابلات أجريتها مع ناشطين عبر وسائل رقمية لعدم تمكني من الوصول إليهم إما بسبب البعد الجغرافي أو لأسباب أخرى.
اختيار ”الشريحة“ كان هو الأمر الأصعب بالنسبة لي، حيث تعذر عليّ -للأسف- محاورة مؤيدين للنظام بالرغم من تقبلي للموضوع غير أني لم أجد استجابة منهم.
وأغلب من أجريت معهم المقابلات كانوا من الفاعلين في الحراك المدني الثوري السوري في السنة الأولى، لم انتقيهم من القياديين فقط، بل أجريت في بعض الأحيان مقابلات مع ناشطين ومشاركين بشكل فردي في المظاهرات، وهؤلاء كانوا أكثر دقة وموضوعية في إعطاء المعلومات، وتأكيد بعض الجوانب الخاصة في البحث.
ما هي أبرز العراقيل والصعوبات التي واجهتها خلال فترة الإنجاز، وكيف تغلبت عليها؟
بالنسبة لي لم أكن جاهزاً بعد لنشر أيّ دراسة في اللغة العربية قبل الانتهاء من كتابة رسالة الدكتوراه لعدة أسباب، أهمها الشروط التي تفرضها الجامعات على طلبة هذه المرحلة الجامعية، خاصة فيما يتعلق بنشر أبحاثهم قبل نيلهم درجة الدكتوراه.
لذلك لم أستطع نشر رسالة الدكتوراه باللغة العربية، إلّا أني اخترت أوّل فصلين فقط منها ليصدرا قريباً في كتاب، وذلك بعد الاتفاق مع ”مؤسسة اتجاهات“ من جهة وجامعتي الفرنسية والألمانية من جهة ثانية.
أما عن الصعوبات الأخرى فقد تمثلت في استخدامي للغة العربية لأوّل مرّة تقريباً لنشر مادة علمية، وكذلك لقلة الأبحاث المشابهة لهذا الموضوع، عدا عن بعض المقالات الصحفية التي انطوت على الكثير من الآراء الشخصية، دون استخدام النظريات العلمية والمقاربات للتعامل مع الموضوع.
الصعوبة الأخيرة كانت عدم مقدرتي على إيجاد قارئ محرر لما كتبته على مستوى النظريات والمضمون أيضاً إلّا ما قدّمه لي مشرفا الدكتوراه، وهي قراءة سريعة ومناقشات معهما أو عرض الموضوع في الإنجليزية أو الفرنسية على بعض المحافل الأكاديمية الأوروبية. كما كان الوقت قصيراً للانتهاء من تحرير الدراسة وهذا أعتبره الصعوبة الأبرز، إذ تم إنجاز العمل في فترة 4 أشهر تقريباً.
من منظورك كباحث، ما هو تقيمك لعملية توثيق الثورة السورية بعد مرور سبع سنوات، من حيث الأداء اللغوي (الأغاني، الشعارات، اللافتات، الجرافيتي، وغير ذلك)؟
أعتقد أن التوثيق “صفر” تقريباً. مع أني سمعت عن بعض المشاريع التي تعمل على ذلك، لكن حتى الآن لم أرَ أيّ أثر يذكر. كما لم أرَ أيّ منصة رقمية أو غير رقمية تتيح للباحثين في العلوم الاجتماعية الاعتماد عليها. وللانصاف فإن بعض المواقع الإلكترونية حاولت ذلك مثل موقعي “الذاكرة الإبداعية للثورة السورية”، و”حكاية ما انحكت”، لكن المشكلة في هذين الموقعين من الناحية التقنية أنهما لا يرفعان موادهما على “السيرفر” الخاص بهما بل يقومان بنشرها ضمن روابط من موقع “يوتيوب”، أو غيره من مواقع التواصل الاجتماعي والتي بدورها مهددة بالاندثار في أيّ لحظة.
ما أود التأكيد عليه أنه لو وجدت جهة معينة تتصدى بإمكانات مادية وتقنية لعملية التوثيق، لكنا وجدنا مجموعة أبحاث هامة من التي كُتبت عن ”لغة الثورة السورية“.
هذا الفقر الذي نراه عن تحليل ”لغة الثورة السورية“، سببه قلة المصادر التي توثق هذه اللغة، على العكس تماماً مما شهدته الثورات العربية الأخرى التي استطاع الباحثون المحليون والأجانب أن يتواجدوا في الميادين ويوثقوا كل ما تراه أعينهم.
إن عملية توثيق مواد البحث والتأكد منها ومن ثم تحليلها وعرضها أخذت مني الكثير من الوقت والجهد. ومما لفت انتباهي أثناء إجراء المقابلات مع الناشطين في تركيا، هو أن أغلب هؤلاء بحوزتهم أرشيف هام للأحداث التي شاركوا بها، بعضهم تبرع لي بها والآخر آثرها لنفسه. ولكن حبذا لو استطاعت جهة ما جمع كل هذه الأرشيفات وحفظها للمستقبل، وهذا هام جداً برأيي.
ما هي أبرز الاستخلاصات التي توصلت إليها ببحثك هذا؟
بالنسبة لي كباحث، التوصل إلى ما اسميه ”هيكلية خطابية لغوية“ هو أحد الاستخلاصات من هذا البحث، وإثبات ديناميكية ”المواد الرمزية“ والتأثر والتأثير من الطرفين في إنتاج هذه المواد و”العنف اللغوي الرمزي“ الملموس في سورية أيضاً. والأهم الذي تم إثباته هو عدم وجود انقطاع في ”اللغة الثورية“، لكن تطوراً أخذ زمناً ليشكل انقطاعاً بطيئاً.
هنا أود ذكر أن أحد الأهداف التي وضعتها للبحث هو إتاحة مواد جديدة موثقة للباحثين الذين يودون العمل في نفس المجال. برأيي هذا البحث هو نواة أوّلية لشيء كان يجب أن يُنجز قبل الآن، وأتمنى أن أتمكن في المستقبل من العمل على تطوير أفكاره، ويُسعدني أن يأتي أحد ما ويطوره بشكل أفضل مما هو عليه الآن.
سؤالي الأخير، ما الذي تعمل عليه الآن؟
لدي الكثير من المشاريع المعلقة. لكن دائماً رسالة الدكتوراه تعيق تقدّمي في إتمام أيّ مشروع آخر بحيث تراني لا أنتهي منه. حالياً كل وقتي مخصص للانتهاء من رسالة الدكتوراه التي يجب أن أناقشها بعد عام من الآن.
كذلك لدي أيضاً، مجموعة من الدراسات التي أبحث في المستقبل القريب عن ناشر لها، مثل ”جرافيتي حلب 2016“، وغيرها من الدراسات التي ربما أنشرها قريباً. كما أفكر حالياً بمشروع بحث جديد حول ”الأدب العربي الروائي في سورية بعد 2011“، وربما نشر رسالة الدكتوراه في كتاب آخر حول ”الترجمة ولغة الثورة وأدائيّتها“.
يُشار إلى أن إيلاف بدر الدين، حاصل على إجازة في اللغة الانجليزية وآدابها من جامعة دمشق 2009.
حصل عام 2014 على شهادة الماجستير في الأدب المقارن بدرجة الامتياز من جامعة باريس الثامنة في فرنسا. وهو يحضر منذ عام 2015 رسالة الدكتوراه في الأدب العربي والمقارن، في جامعتي “ايكس مارسيليا” في فرنسا و”ماربورج” في المانيا.
عمل مترجماً فورياً في مجلة “التايم” في مكتب بيروت عام 2011، وشهد الاحتجاجات السورية بين بيروت ودمشق في أوّل عامين تقريباً. ويعمل حالياً في مركز الدراسات الشرق أوسطية ضمن فريق بحث باسم “نقاط التحوّل” عن الأدب العربي في سورية. وكان أن حصل عام 2017 على ”جائزة صادق جلال العظم الاستثنائية للبحث الثقافي“.