خالد زيادة: ذاكرة العداء متبادلة بين أوروبا والإسلام

علي جازو

شاعر وصحافي سوري

في تلك الفترة، نهضت اللغة العربية، أي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكما أن النهضة قامت على قاعدة اللغة العربية الفصحى، فإن فكرة الأمة التي أخذت بالتبلور آنذاك تأسست على العربية، فكان المعيار الرئيسي للهوية العربية هو اللغة.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

25/05/2018

تصوير: اسماء الغول

علي جازو

شاعر وصحافي سوري

علي جازو

يتناول الحوار التالي مع الدكتور والباحث خالد زيادة أكثر من شأن، بدءاً بتساؤل قديم/جديد حول حجب القضايا الثقافية العالمَ الواقعي الذي تتحدث عنه، مروراً بمقارنة عهد عثماني حداثي مع عهود عربية شبيهة أو مناقضة، وانتهاء إلى صراع لغوي وتحولات معرفية، خاصة في العهد العثماني.

ذكرت في كتابك «المسلمون والحداثة الأوروبية» مشيرًا إلى تطور نظرة المسلمين إلى أوروبا، أن العالم الثقافي كان يحجب العالم الواقعي، بما يعني أن تلك النظرة كانت بفهم سابق للوقائع المادية وما كان يجري في أوروبا من تبدلات. إذا كانت تلك الملاحظة في محلها، على الأقل في مرحلة معينة، إلى ماذا أفضى حجب الثقافي للواقعي. وما أثر ذلك على فهمنا لتعثّر التحديث وتحوله إلى أزمة في الوقت الحاضر؟

خلال اشتغالي على كتاب «تطور النظرة الإسلامية إلى أوروبا» رجعت إلى العديد من المراجع، ولاحظت أن البلدان والمناطق خارج حدود العالم المشمول بالهيمنة الإسلامية، لم تكن مدار اهتمام أو حشرية معرفية، والمعلومات أو الفقرات أو الشذرات حول أوروبا نجدها لدى الجغرافيين والمؤرخين. أما الفقهاء فكان اهتمامهم إما بشؤون النزاع على الحدود أو الصراع مع قوى غير إسلامية كما في كتاب «السير» للإمام الشيباني، الأمور المتعلقة بالضرائب في كتاب «الخراج» لأبي يوسف، وذلك دون تعيين لفئة أو أمة أو جهة، وهذا يعني أن المعلومات عن الشعوب الأخرى، بما في ذلك الشعوب والأمم الطرفية في نطاق الهيمنة الإسلامية لم تكن تعني الفقهاء. وبهذا المعنى فإن المعلومات عما أصبح يُعرف بأوروبا كانت مقتصرة على هذه الفئة من الكتّاب والذين يعتنون بالجغرافيا والتاريخ. وهذه المعلومات عادة ما كانت تنقل عبر ما يذكره التجار الذين يتركون بعض الرسائل أو المشاهدات. أو عبر بعض الترجمات غير المباشرة.

والعالم الثقافي الذي شكّل خلفية هؤلاء الكتّاب كان يستند إلى النظرية البطليموسية والتي يتبناها المسلمون والقائلة بقسمة العالم إلى سبعة أقاليم، والإقليم الرابع هو أعدل هذه الأقاليم والذي يضم أغلب بقاع العالم الاسلامي. وتقول هذه النظرية، أو هذه الرؤية بأن الأقاليم كلما ابتعدت عن الاعتدال ازدادت فيها الحرارة جنوب العالم وصولاً إلى الثاني والأول أو ازدادت البرودة وهذه الرؤية كانت تقوم على أن أثر البرودة والحرارة على طباع الناس حاسمة، لذا فإن سكان الإقليم السادس والسابع (بلاد أوروبا) هم أميَل إلى الجلافة وخشونة الطباع والهمجية.

يُضاف إلى ذلك تقسيم العالم إلى بلاد الإسلام، والبلاد الواقعة خارج العالم الإسلامي، وإذا كان الاهتمام يتضاءل بالأمم التي لم تدخل في الإسلام فمن الطبيعي أن تكون النظرة إليهم حتى مشارف العصر الحديث تتسم بالسلبية. إلاّ أن ما ينبغي أن نعرفه هو أن مناطق أوروبا لم تكن في فترة ازدهار أو تقدم حتى القرن الثاني عشر الميلادي، في الوقت الذي كانت الآداب الإسلامية في أوج ازدهارها، ولم يكن لأوروبا ما تقدمه للعالم الاسلامي. وباختصار فإن المعلومات حول أوروبا المتداولة في الأوساط الثقافية الضيقة كانت صادرة عن قبليات ثقافية، أكثر مما هي صادرة عن تراكم معلومات، لذا فإن بعض المؤلفات الجغرافية في القرن الثاني عشر الميلادي كانت تكرر ما ذكر في بعض المؤلفات الصادرة قبل ثلاثة قرون، ولم يتبدل الوضع ولو جزئيًا إلى فترة نهوض المدن الإيطالية واضطراد التجارة مع مصر والسواحل المتوسطية.

هل نحن على ثقة تامة إذا ما ذهبنا في القول الشائع أن موقف أوروبا والغرب من المسلمين ما هو سوى استمرار لموقف قديم عنوانه “العِداء”؟

أوّد في بداية الإجابة عن هذا السؤال أن أشير إلى أن العلاقة بين العالم العربي وأوروبا هي علاقة فريدة في التاريخ والجغرافيا، فنحن العرب نتقاسم مع أوروبا بحرًا صغيرًا هو البحر الأبيض المتوسط. وخلال ما يزيد على ألف سنة تبادلنا مع أوروبا الحروب والبضائع والأفكار في حركة مد وجذر. على سبيل المثال، فإن الإسلام تقدّم صوب بيزنطية في القرن السابع الميلادي واحتل إسبانيا في القرن الثامن الميلادي وبعد ثلاثة قرون احتل أوروبيون من جنسيات مختلفة فرنجة وجرمان وانكليز سواحل المتوسط الشرقي وعُرفوا باسم الصليبيين. وبعد مئتي سنة خرج الصليبيون لكن الدولة العثمانية تقدمت في شرق أوروبا حتى وصلت إلى حدود ڤيينا عاصمة الإمبراطوية النمساوية الهنغارية، وينبغي أن نذكر هنا بأن بعض الأحداث والتواريخ مثل معركة “بلاط الشهداء” عام 732م، أو معركة “بواتييه”، ثم معركة “ليبانت” عام 1571م، ثم حصار ڤـيينا عام 1683م، كلها محطات راسخة في الوعي الأوروبي.

فمعركة “بواتييه” أنتجت أسطورة أوروبية اسمها “شارل مارتيل” الذي أوقف الزحف الإسلامي باتجاه أوروبا، ولولا ذلك لاجتاح الإسلام أوروبا الغربية كلها حسب الرواية الأوروبية، ومعركة “ليبانت” كانت أول هزيمة عثمانية خسر العثمانيون فيها أسطولهم. وهي تحتل في الوعي الأوروبي دورًا حاسمًا في تأسيس أوروبا الحديثة. وأخيرًا فإن الذعر الذي ولّده حصار ڤـيينا الثاني في نهاية القرن السابع عشر الميلادي قد ولّد بدوره الخوف من الإسلام.

هذه النقاط التاريخية كانت في خلفية تأسيس الوعي الأوروبي، حيث شعر الأوروبيون بالخطر الإسلامي الذي يحاصرهم في رقعة ضيقة، أي أن جذور الخوف من الإسلام عميقة في الوجدان الأوروبي.

بالمقابل فإن الحملات الصليبية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين، أسست للتشدد الإسلامي مثال على ذلك، ابن تيمية، وكل الأدب الذي انبعث حول فضائل القدس وفضائل الشام. إلا أن الملاحظة التي ينبغي أن نوردها هنا أن التاريخ العربي الإسلامي اللاحق للحروب الصليبية قد طوى ذكرها ووقائعها. ولم تنبعث مجددًا إلاّ في نهاية القرن التاسع عشر مع الاستعمار الحديث، ولعل عمل الإمام جمال الدين الأفغاني في “العروة الوثقى” مثالٌ على ذلك. والجدير بالذكر هنا، أن التعرّف إلى الفترة الصليبية وحملاتها قد حدث عن طريق مؤلفات المستشرقين.

هذا يعني أن ذاكرة العداء متبادلة، فبمقدار ما يكن الأوروبيون العداء للإسلام في الطبقات الخلفية للوعي الأوروبي التاريخي، فإن المسلمين يكنّون عداء يتأسس في الفترة المعاصرة على ما تشكله أوروبا في وعي الإسلاميين خصوصًا، من خطر على الإسلام، إن كان هذا الخطر ثقافياً أو اقتصادياً/استعمارياً أو خطراً وجودياً على الهوية الاسلامية.

أي أن العداء يتجدد بعناصر راهنة، فالخوف الأوروبي هو من التواجد الكثيف للمسلمين في بلدان أوروبا وازدياد نسب الولادة لديهم. أما العداء من الجهة الإسلامية فهو يقوم على الخوف على الهوية..

كيف وصل العثمانيون فكريًا وسياسيًا إلى عصر “التوليب”، وهل كان هذا الوصول متأخرًا أم كان بمثابة رهان وسباق مع الزمن على طريق تبني نمط أوروبي عقلاني وحداثي؟ وهل مرّت المجتمعات الإسلامية العربية بعصر شبيه؟

إنّ ما نسميه عصر “التوليب” هو فترة ثلاثة عقود في مطلع القرن الثامن عشر زمن السلطان أحمد الثالث (1730-1703)، وبعد الهزيمة العثمانية المدوية عام 1699، وخسارة الدولة العثمانية لمساحات شاسعة من البلدان التي كانت تسيطر عليها في وسط وشرق أوروبا وقد اكتشف العثمانيون أن روسيا “القيصرية” (في عصر بطرس الأكبر 1672-1725) والذي يتزامن مع عصر أحمد الثالث، قد اكتسبت قوة عسكرية بفعل انفتاحها على العلوم والأنظمة العسكرية الأوروبية.

في عهد أحمد الثالث جرى الانفتاح على أوروبا، وكانت إحدى العلامات على ذلك افتتاح مدرسة للهندسة وإيفاد سفير إلى فرنسا للاطلاع على ما أحرزه هذا البلد في المجالات العسكرية والعلوم والعمران. (انظر ترجمتنا «جنة النساء والكافرين»، دار رياض الريس، 2017). إلا أن فترة التوليب لم تحقق انجازات في ميدان بناء جيش عثماني حديث أو تطور مناهج التعليم العسكري. بمقدار ما تميزت ببناء القصور على النمط الأوروبي وبداية ملامح الغربنة في العاصمة استامبول، فانتهى عهد أحمد الثالث بثورة أطاحت به وبوزيره المصلح إبراهيم داماد.

والفكرة الأساسية هنا، أن هذا الانفتاح الذي بدأ في عهد أحمد الثالث لم يحدث إلا بسبب الهزيمة العسكرية التي أشرنا إليها، وكذلك الأمر بالنسبة لمصر بعد حوالي مئة سنة، فاحتلال مصر من جانب بونابرت عام 1798 هو الذي أيقظ الوعي بضرورة الأخذ بعلوم أوروبا وتقنياتها وأنظمتها وهذا ما أنجزه حاكم مصر محمد علي باشا (1848-1805).

أرغب إن أمكن، أن نعطي حيّزًا أوسع لموضوع اللغة (اللغات) رسمية سلطانية كانت أم يومية متداولة في إسطنبول خاصة، أو في مراكز ولاياتها النائية، لتبين مراحل الصراع السياسي-الفكري على اللغة ومن خلالها، وأثر ذلك في نزعات سياسية، قومية أو دينية لاحقة. ظهرت في الوسط الإسلامي بعيد سقوط الخلافة العثمانية.

إذا أردنا أن نتناول موضوع اللغة في العصر السابق لبروز الفكر القومي في أوروبا والذي أخذنا به في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ينبغي أن ننتزع من أذهاننا فكرة اللغة الموحدة التي تعبّر عن شعب وأمة وقومية.

فلو عدنا إلى القرن الثامن عشر، أي بعد ثلاثة قرون من السيطرة العثمانية على بلادنا، نجد أن اللغة التركية كانت مقتصرة على العاملين في الجهاز الإداري، وأغلبهم من غير العرب. وفي إحدى الأجهزة الرئيسية للسلطة وهي المحكمة الشرعية، كان ثمة كاتب للعربي وكاتب للتركي. ومن خلال اشتغالي على سجلات المحكمة الشرعية وجدت أن الحيّز الذي تشغله القضايا المحررة بالتركية (العثمانية) كان يتضاءل تدريجيًا على امتداد القرن الثامن عشر. ويقتصر على المراسلات الرسمية (فرمانات- بيورلديات: مراسيم).

ولنعد إلى موضوع اللغة في الإطار العثماني-التركي، فهذه اللغة كانت شديدة التأثر بالفارسية خصوصًا في مجالات الأدب والشعر، ولهذا كان الشعراء الأتراك يجيدون الفارسية عادة، وتأثير اللغة العربية كان بارزًا في جوانب الفقه والشريعة، لهذا كان العلماء يجيدون العربية. ولنقل بأن اللغة العثمانية (التي تُكتب بالحرف العربي) كانت تحتوي على مئات المفردات ذات الأصول الفارسية والعربية. علمًا بأن التركية الحديثة التي تُكتب بالحرف اللاتيني هي لغة في حالة تطور بسبب تشذيبها الدائم من المفردات العربية بما يعادلها في اللغات الأوروبية.

وفي الحواضر الكبرى مثل استامبول، ومدن كأزمير وحلب، كانت اللغات متعددة بسبب تعدد وكثافة السكان ذوي الأصول الأرمنية واليونانية والجاليات الإيطالية والفرنسية وغيرها. كانت مدينة استامبول متعددة الجهات، خذ على سبيل المثال حي الفنار اليوناني الشهير. كانت استامبول في عصرها الذهبي المديد مدينة العالم وملتقى الشرق والغرب وتعدد اللغات.

ولم يُحدث التتريك أو الانتشار الجزئي للتركية-العثمانية، إلا في نهاية القرن التاسع عشر، وخصوصًا في عهد السلطان عبد الحميد حين انتشر التعليم الرسمي (المعارف) وكانت اللغة التركية إلزامية، كذلك فإن الطلاب الراغبين بدراسة الطب أو الحقوق توجهوا إلى المدارس العليا في استامبول للحصول على شهادات في هذه الاختصاصات، أو الدخول في السلك العسكري وتعلموا التركية بطبيعة الحال.

في تلك الفترة، نهضت اللغة العربية، أي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكما أن النهضة قامت على قاعدة اللغة العربية الفصحى، فإن فكرة الأمة التي أخذت بالتبلور آنذاك تأسست على العربية، فكان المعيار الرئيسي للهوية العربية هو اللغة.

يُشار إلى أن الدكتور خالد زيادة أستاذ جامعي، حاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون الثالثة في باريس عام 1980، وباحث في التاريخ الثقافي والاجتماعي. شغل منصب سفير لبنان لدى جمهورية مصر العربية، والمندوب الدائم في جامعة الدول العربية بين عامي 2007 و2016، وهو حاليًا مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، فرع بيروت. له العديد من المؤلفات، منها: “المسلمون والحداثة الأوروبية”- “سجلات المحكمة الشرعية (المنهج والمصطلح)”- “الكاتب والسلطان من الفقيه إلى المثقف”- “الخسيس والنفيس، الرقابة والفساد في المدينة الإسلامية”، و”العلماء والفرنسيس- قراءة في تاريخ الجبرتي”. كما صدرت له ثلاثية بعنوان: “مدينة على المتوسط”، إضافة إلى رواية تاريخية بعنوان “حكاية فيصل”.
نشر العديد من الكتب ترجمةً وتحقيقًا، مثل “سفارة نامة فرانسة (جنة النساء والكافرين)”، و”عبرة وذكرى أو الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده” لسليمان البستاني، ورسالة “الكلم الثمان” للشيخ حسين المرصفي. له عشرات الدراسات والمقالات في مجلات محكمة، منها مقالة وافية عن التاريخ والتصوّف، كما شارك في العديد من الندوات والمؤتمرات وورش العمل العلمية.

الكاتب: علي جازو

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع