(يتيح لنا التفكير في “اللعب” طريقة جديدة لرؤية مساحات المدينة. اللعب هو شكل من أشكال المعرفة بهذه المساحات المقرونة بالتفاعلات اليومية. ومن خلال هذا المنظار، بإمكاننا فهم كرة القدم -وأي نوع آخر من اللعب في الشارع- كممارسة حيوية وتلقائية تعيد إنتاج المساحات المدينية واستعادة الحق فيها)
هذه الفقرة التي تفتتح بروشور مشروع “اللعب والمدينة“ لاستديو ”أشغال عامة“، تتضمن الأفكار الرئيسية التي تشكل الدعامة الأساسية للمشروع:
– أهمية اللعب الشعبي في الممارسة الاجتماعية.
– أهمية الحفاظ على الفضاء الذي تخلقه مساحات اللعب الشعبي في التخطيط العام للمدينة.
– تأسيس التخطيط العام للمدينة على أساس الاستعمالات الأهلية للأمكنة وعلى أساس الاستخدام الأهلي لفضاءات المدينة.
تم التعريف على المشروع في محاضرة عقدت في ”دار نمر“ في بيروت، وانقسمت إلى قسمين، تناول القسم الأول من المحاضرة التعريف بمشروع ”اللعب والمدينة“، والقسم الثاني تناول التعريف بالمشروع الذي خصص لملعب مخيم مارالياس في بيروت، ويحمل عنوان ”اللعب في المخيم“.
القسم الأول: اللعب والمدينة
تعرّف المحاضرة نادين بكداش بالمشروع قائلة: بدأنا مشروع اللعب والمدينة في العام 2014 بسؤال بسيط: ”أين يلعب الناس في بيروت؟ ونظراً لجاذبية لعبة كرة القدم، ركزنا بحثنا عليها باعتبارها على الأرجح الممارسة العامة الأكثر شعبية واستمرارية“، وتضيف: ”في سؤالنا، أين يلعب الناس في بيروت ؟ آثرنا تحري الملاعب غير الرسمية، المفتوحة والناتجة عن مجهودات جماعية. وجدنا في بيروت وضواحيها عشرة ملاعب كرة قدم غير رسمية.“
عبر الإسقاط الضوئي قدمت المحاضرة نادين بكداش خريطة عامة لمدينة بيروت وضّحت فيها نقاط توزع الملاعب الأهلية في المدينة، ومن ثم استعرضت الخرائط الخاصة ببعض الملاعب الأهلية المذكورة، ومنها: ملعب راس النبع، ملعب الكرنتينا، وملعب مخيم مارالياس الذي سيخصص له القسم الثاني من المحاضرة.
تقول نادين بكداش: ”في كل ملعب من هذه الملاعب، قمنا بتحليل الممارسات الجماعية المختلفة وكيفية استخدام الملعب. ووثقنا هذه الممارسات والتجارب الشبابية وقمنا بالتالي برسم جداول زمنية لكل ملعب وتحولاته، وعلاقته مع الحي حيث يقع، تاريخياً وحالياً. استكشف هذا البحث تنظيم الشباب وقدراتهم الخلاقة وتطلعاتهم والتحديات التي يواجهونها.
الملاعب الشعبية بين الملكية القانونية والاستخدام الأهلي
توضح بكداش أن ملاعب كرة القدم العشرة الأهلية في بيروت هي ملكيات خاصة، ويتفاوت سلوك المالكين حيالها بين عدم التدخل، والتقبل، أو المعارضة العلنية لاستخدام الأرض من قبل اللاعبين: ”لقد تحولت الكثير من هذه الملاعب الشعبية بسبب عودتها إلى ملاك خاصين إلى مواقف سيارات أو ورشات بناء مما يؤدي إلى فقدانها الواحد تلو الآخر. ومن هنا، ومن أهمية الحفاظ على اللعب كممارسة اجتماعية، ومن أهمية الحفاظ على الفضاءات المدينية كما هي في استخداماتها الأهلية، ينطلق مشروع ”اللعب والمدينة“ لتحقيق هذه الغايات.“
فإذا كانت الأراضي التي تقوم عليها الملاعب الشعبية تعود إلى ملكية خاصة، فكيف فعل أهالي الحي لاستخدامها بما يلائم غاية اللعب في ممارساتهم اليومية؟
للإجابة تركز بكداش على الجهود التي يقوم بها أهالي الحي لتحقيق ذلك، فتقول: ”إن إمكانية الدخول إلى بقعة الأرض هي العنصر الرئيس في اكتسابها. فالشبان يضعون السلالم المؤقتة لتيسير القفز فوق الجدران، أو يستخدمون أجسادهم لتجاوز البوابات. أما صيانة الملعب والحفاظ على تماسكه فيتطلبان نوعاً آخر من المجهود الذي يستلزم خلق “وقائع على الأرض”. من خلال ترك الآثار المادية مثل تجهيز الملعب بمرمى لكرة القدم، ووضع الإشارات على الأرض، واستخدام الغرافيتي، وتركيب الإضاءة والمقاعد للجماهير، وغيرها.”
وأخيراً نقتبس ما يمكن أن يكون تلخيصاً للقسم الأول من المحاضرة، وتأكيداً على الهدف الأساسي المنشود من المشروع في الفقرة التالية: ”من خلال التجاوز الجماعي، والتدخل والاستئثار بأراضٍ ذات مليكات خاصة في المدينة، ينجح هؤلاء الفتيان المراهقون والشبان والأطفال بتسليط الضوء على أداء المدينة كممارسة يومية، مما يوفر لنا احتمالات بديلة لكيفية “تخطيط المدينة” منبثقة من الحق في اللعب، والحق في المشاركة، والحق في الاستخدام الكامل للفضاءات والأماكن.“
القسم الثاني: اللعب في المخيم
في القسم الثاني من المحاضرة، التي كانت من تقديم مجد الشهابي، اطّلع الحضور على نموذج تطبيقي لمشروع ”اللعب والمدينة“، قد صمم ونفذ على المساحة الأهلية الخاصة للعب في مخيم مارالياس، هذا المشروع بعنوان: اللعب في المخيم.
قصة الملعب الأهلي لمخيم مارالياس، لا تختلف عن حكايات الملاعب الأهلية الأخرى التي أطلعنا عليها في القسم الأول من المحاضرة، فالأرض التي يقوم عليها حالياً، كانت أرض وقف مهجورة، فقامت مباردة أهلية من سكان المخيم، وبالتعاون مع مؤسسات فلسطينية بتجهيز الأرض الخالية لتصبح مكاناً خاصاً باللعب عن طريق أعمال التجهيز والصيانة.
إن حكاية ملعب مارالياس نموذجية في إدراك أهمية هذه المساحة اللعبية على مستوى الثقافة الأهلية والمدينية:
لكن اليوم، وكما يوضح المحاضر مجد الشهابي، فإن الملعب يواجه تحديات كبيرة: ”يقول اللاعبون أن أولويتهم هي تأهيل وإصلاح الملعب، بعد أن أصبح اللعب فيه خطراً بسبب الحفر وكثرة النفايات، مما يعيق استخدامه من قبل الأطفال والعائلات. وانطلاقاً من أهمية الشراكة مع سكان المخيم، وخصوصاً الشباب والشابات، في أي تخطيط مديني، أو مشروع تنموي أو تدخل بالمكان، تم صياغة ورشة عمل ”كلنا ع الهوا سوا“ لتكون مساراً للتفكير الإبداعي والعمل التفاعلي مع السكان في تقرير مستقبل محيطهم، وخاصة المساحة المشتركة.“
”كلنا ع الهوا سوا“
ابتكر القائمون على ورشة العمل الأنشطة، الحلقات التدريبية، وجلسات التفكير الجماعي الخاصة بتمكين الشبان والشابان التي تتراوح أعمارهم بين 14 و21 سنة، لإبراز قدراتهم وتعزيز عملهم الجماعي فيما يتعلق ببيئتهم العمرانية.
فما هي الأنشطة، الأساليب التدريبية، ونوعية الجلسات التي عمل المدربون والمدربات القائمون على الورشة من خلالها لغاية تحقيق الموضوعة الخاصة بمشروعهم؟
إذاً، هذه هي التمارين والتقنيات المبتكرة من قبل فريق عمل ورشة ”كلنا ع الهوا سوا“، والتي تمثل نموذجاً في تصميم ورشات العمل العاملة على موضوعة الربط بين البيئة العمرانية وممارسات الأهالي والسكان المستخدمين لهذه البيئة العمرانية.
في نهاية المحاضرة، تركزت أسئلة الحضور على الطريقة القانونية التي يمكن بها لمشروع ”اللعب في المدينة“ أن يحقق مراميه على مستوى التخطيط العمراني والتواصل مع الجهات الرسمية اللبنانية المعنية بمجال التخطيط المديني.
يشكل مشروع ”اللعب والمدينة“ نموذجاً من المشاريع التي تجعل من المؤسسات الثقافية ومؤسسات المجتمع المدني كفاعلة في عملية التخطيط العام للمدينة، وذلك عبر الربط بين رغبات الأهالي وهم المستخدم الفعلي للمساحات العامة وبين المسؤولين والقائمين على تنفيذ المخطط العام للمدينة.
أما مشروع ”اللعب في المخيم“ فيقدم ابتكارات واقتراحات متميزة في مجال ورشات العمل والجلسات التفاعلية التي تهدف إلى مساعدة الأهالي في التعبير عن رغباتهم، مخاوفهم، وتطلعاتهم حيال التخطيط العام لأماكن سكنهم، لعبهم، وتواصلهم.
في كتابه «اللعب والواقع، المساحة الإفتراضية»، يكتب المحلل النفسي دونالد ويني كوت: ”عبر اللعب، وربما عبر اللعب وحده، يحرر الإنسان إبداعيته. سواءً للطفل أو للبالغ، فإن اللعب هو الإمكانية الأمثل والأوسع لاستعمال الذات.“