اطلاعي على الموسيقى في فلسطين كان سطحيًا جدًا في البدايات، وارتبط بانفعال طفولي للأغاني التي تورد سير المعارك وتثير الحماسة. في البداية إذن، لم يكن هنالك موسيقى. ما كان يهزني بشكل أوّلي هو وقع الانتصار السياسي الرمزي للقضيّة الفلسطينيّة من خلال الأغنية، أكثر من جماليّة الموسيقى والحمولة التاريخيّة خلفها. تخليت تدريجيًا عن طفوليتي الاستماعيّة تلك، لأبدأ جديًا البحث في التراث الفلسطيني ومتابعة الإنتاجات الحديثة.
سرعان ما أسقطتُ التعصب السمعي الذي امتد على فترة مراهقة موسيقيّة مطوّلة، أمام جديّة البحث الجمالي والتاريخي المرتبط بمدى تطوّر الموروث الغنائي الفلسطيني. كان لقائي مع رشا سنة 2012 بوابة مهمّة نحو تلك المرحلة من النضج السمعي، الذي تطور مع ثمينة وبدور في مرحلة لاحقة.
شبكة الأغاني
لقاؤنا الأوّل كان بتونس أثناء ندوة إقليميّة لمنظمة نسيج. حدث أن تواجدنا خلال تلك الفترة القصيرة في غرفة بالفندق لصديق تونسي مشترك. كان حديثنا عن الموسيقى. طلبت مني رشا أن أسمّعها أغانٍ تونسيّة. حاولت يومها سرد الجوانب القصصيّة التي تقف خلف معظم الأغاني وبسط لمحة صغيرة عن تاريخ الموسيقى بتونس. استمر التواصل فيما بعد، كنا نتبادل الأغاني وكانت رشا بداية نافذتي على الموسيقى بفلسطين. عرّفتني على ثمينة التي قادتني بدورها إلى اكتشاف بدور. كان ذلك فتحًا موسيقيًا مبينًا. تشبعت ثقافتي السمعيّة بخلفية تاريخيّة واسعة. صرت أطلع على جوانب مهمة من تقاليد الأعراس الفلسطينيّة والتراث المغنى في المناسبات. أغاني الفلاحين والبحارة، المراثي والأهازيج، الأشعار الشعبيّة وسرديات التاريخ المبطّنة داخلها. تعاملت مع الأغنية التراثيّة كوثيقة تاريخ سمعيّة، أحاول فك شيفراتها الجماليّة والغوص في مشاربها المتعددة، من تأثيرات الجغرافيا وتمزّق الأصوات بين حقب تاريخيّة متقلبة. أتاح لي ذلك التفكير في مقاربات تاريخيّة وجماليّة مع الأغاني التونسيّة.
سؤال الهويّة
في مرحلة لاحقة، عرّفتني على تريز سليمان التي اقترحت علي مشاركتها العمل على ألبوم “مينا”. كان الألبوم تجميعًا لأغانٍ تراثيّة من المنطقة العربيّة مع مزج واسع بأغاني برتغاليّة (ذلك أن الفرقة مكوّنة بالأساس من فلسطينيّين وبرتغاليّين). لم يكن الألبوم متوسطيًا خالصًا، إذ مزقته شرفة البرتغال المطلّة على الأطلسي وهو ما أفقد المزج شيئًا من تماسكه. اندرج الألبوم ضمن موجة استعادة مهمة اجتاحت المنطقة وتعاظم حضورها بعد الثورات العربيّة. اتجه أغلب الفنانين إلى مناجم الأغاني التراثيّة. بعضهم كان مدفوعًا بسؤال الهويّة. آخرون وجدوا في وليمة الأصوات تلك غنيمة سمعيّة تريحهم من عناء التأسيس فأدمنوا الاستعادة.
اشتغلت مع تريز سليمان كباحث موسيقي ومدرّب لهجات (تونسيّة ومغربيّة). عائق اللهجة وخصوصياتها مثلًا كانا فاتحة مهمة لنقاش مطوّل حول دور اللهجات المحليّة في تبصيم موسيقى المنطقة بخصوصيات جد متفردة. حتى تلم بالتقنيات المناسبة للهجة لأداء أغنيتي “بتي سهرانة” و“راكب ع الحمراء” التونسيتين، كان أمام تريز ماراثون سمعي من الكاف إلى أعماق الجنوب التونسي. أذكر أنني استعنت بمسرحية لفرقة الكاف لكي تتمكن من إشباع حروف العلّة ومخارج الحروف المفخمة للإلمام بتقنيات الغناء الكافي، إذ لا يكفي الاستماع إلى الأغنية بعينها مرارًا وتكرارًا لتكتسب مرونة اللهجة. يجب أن تحيط بمداراتها الثقافيّة والصوتيّة التي تحوم حولها. كانت تلك الحيلة، أن تختزن الحمولة التاريخيّة والثقافيّة التي نحتت التركيبة الجينيّة للصوت حتى تتملك مفاتيح اللهجة والأداء. توّج الألبوم بكتيب تاريخي مبسط يقدم الأغاني وينبش في القصص التاريخيّة التي تقف خلفها. كان ذلك ثمرة بحث مطول شاركتني فيه تريز. موسيقيًا، لم يكن الألبوم بالجديّة الكافية للحفر جماليًا. تستشعر بأن الموسيقى كانت مصنوعة لخدمة خامات الصوت لكل من تريز وصوفيا المغنيتين الرئيستين في الفرقة.
جديّة غير كافية
بعد مرحلة تريز سليمان، بدأت باكتشاف أصوات من داخل أراضي 48 والجولان المحتل. لم تكن هنالك غنيمة تذكر علقت ببالي. أغلب التجارب التي اطلعت عليها، كفرقة دام وهوا دافي ونص تفاحة وتوت أرض وولاء سبيت وميساء ضو وهيا زعاترة ورشا نحاس، لم تتحل بعد بالجديّة اللازمة للتأسيس لمشهد جديد. غلب استيراد الفولك الغربي على أعمال كل من رشا نحاس وهيا زعاترة، إلى جانب السقوط في سذاجة نصيّة من حيث الكتابة. مع تجربة “نص تفاحة”، تستشعر أن الموسيقى حاولت أن تبتلع تجارب زياد الرحباني وسميح شقير، لكنها اختنقت بنصف تفاحة في حلقها وعجزت عن هضم الأصوات. صحيح أن التسمية تحمل دلالات عدة وتشير إلى الجولان المحتل وحالة التمزق الهوياتي، مع نفس سخرية مهم داخل النصوص مثل شبو (التي تشير إلى بشار الأسد) أو مازوت، ولكن ذلك ليس كافيًا. الانتصار لقضية ما لا يصنع لوحده جماليّة موسيقيّة.
حاول آخرون التعامل مع أصوات من خارج فلسطين، مثل ولاء سبيت، الذي أسّس صحبة الفرعي والجهاز ورمزي سليمان مجموعة “سول 47″، فكانت التقاء لمشارب مختلفة جمعت بين أراضي 48 والشتات والأردن. حاولت الفرقة تأصيل هويّتها الصوتيّة من خلال ألبومها الأول “الشامشتاب”، والذي كان أشبه بمستودع مفتوح لجميع التجارب، عبر مراكمة مزجيّة لصدى الأعراس الفلسطينيّة والأردنيّة وموسيقات الشام من خلال أصوات الساينث والمجوز وإيقاعات الدبكة. لعب أداء الفرقة على إيقاظ نوستالجيا لتلك الأصوات، من دون تأسيس فعلي لشيء جديد.
الجماليّة مقابل الهويّة
يمكنني القول أن ريم كيلاني أنقذتني من إحباط بدأ يعتريني بعد مكابرة في الاستماع والاكتشاف في تلك الفترة، بعدما ظننت بأني سأكتفي بتامر أبو غزالة وكاميليا جبران. إن ألبومها “الغزلان النافرة” وألبومها الحيّ الثاني “حفل مهرجان نور”، مثّلا واجهة مهمّة لأغاني الشتات مع تصوّر موسيقي فيه الكثير من البحث الجمالي الذي أنقذ التراث من استعادات ميتة وشبه باهتة. اشتغلت ريم على تجميع الأغاني التراثيّة من المخيمات واللاجئين الفلسطينيّين في العالم، وتتبعت مدى تطبّع التراث الفلسطيني الذي حمله اللاجئون بموسيقات المناطق التي ترحلوا إليها. في ألبوم “حفل مهرجان نور”، تعاونت مع تامر أبو غزالة الذي كان العازف الرئيسي على العود، ومنح نفسًا قويًا للألبوم.
اصنع موسيقى جادّة يا زلمة
اهتمت ريم كيلاني بالبحث التاريخي بنفس حرصها على العناية بتقديم موسيقى جادة. لم تكتفِ بجمال الموروث ولا بكونها فلسطينيّة، فأولويّة الموسيقى هو ما انتصر في مشروعها جماليًا، عكس بعض التجارب التي كانت “فلسطينيّتها” بوصلة انتشارها خارجيًا. أذكر أني في صيف 2012 في تونس، كنت قد ذهبت مع أصدقائي إلى مهرجان “بوقرنين” بالضاحية الجنوبيّة للعاصمة من أجل حضور عرض موسيقي “للثلاثي جبران“. حمل الكل معه أعلام فلسطين عندها، ما عدانا تقريبًا، كان الأمر أشبه بمظاهرة أو فلكلور.
بدأ الحفل مرفق بديباجة الحديث عن المقاومة والنضال وتلاحم الشعبين، لينتهي بعد ساعة ونصف تقريبًا من عرض متخم بالارتجالات الموسيقيّة والزخارف اللحنيّة، بنفس المفردات مع هتافات متعاليّة تردد شعارات الصمود. هنالك عقيدة عمياء وجّهت الذوق السمعي، مفادها أولويّة الفلسطيني على الموسيقي، حتى ولوّ كان الصوت باهتًا. لا يكفي أن تكون فلسطينيًا لتثير التعاطف. اصنع موسيقى جادّة يا زلمة.
مشهد مشتبك
لا يحتاج المشهد الموسيقي الفلسطيني أن يستعيد رمزيًا مشهديّة صراعه الشرعي ضد الاحتلال حتى ينجح ويستحق حضوره. ربما ما نحتاجه من فلسطين هو مشروع “موسيقيّ مشتبك”، يتخلى عن رومانسيّة الانتماء ويخوض غمار التجريب المستمر ويمارس الاشتباك الفعلي مع الجماليات الجديدة، حتى لا ينتهي شهيدًا رمزيًا للصوت المفقود الذي نريد.
هنالك أفجار أخرى لم تظهر بعد، علّها ستحمل لنا أصوات جديدة وتأسيسًا فعليًا، فإن بعض التجارب تتأخر في إنتاجاتها مثل هدى عصفور. أصوات أخرى لا تزال منفعلة بخجل البدايات ولكنها تبحث جديًا وتحاول مثل حنّة الحاج حسن. الراب لوحده، مع مقاطعة وهيكل والناظر وآخرين، يتقدّم أكثر من الجميع معتمدًا على تعامله الموسّع مع تجارب المنطقة ويخوض فعليًا جدلية الاشتباك الجمالي ويعد بمشهد جديد ومختلف.
هذا المقال هو جزء من ملف “الأغنية الفلسطينيّة، سردية الناس والمكان” إهداء لذكرى الفنانة الفلسطينيّة ريم بنّا. وهو من إعداد رشا حلوة.