ترجمة: عماد الأحمد (مع مراجعة الكاتب)
تستند هذه الورقة إلى مداخلة قُدّمت في مؤتمر انعقد في مدينة كالياري في سردينيا، في 27-28 أبريل 2017، وقد نظّمه معهد غرامشي، بالاشتراك مع جامعتي كالياري وساساري وبلدية كالياري، بمناسبة مرور 80 عاماً على وفاة المناضل والمفكر الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي. الورقة الأصلية باللغة الإنكليزية.
يُظهر بحث سريع على شبكة الإنترنت أن السنوات القليلة الماضية شهدت طفرة في تواتر الإشارات والإحالات إلى قول غرامشي الشهير حول “الأعراض المرضية”:
تكمن الأزمة تحديداً في أن القديم يحتضر، والجديد لم يولد بعد. وفي ظل هذا الفراغ تظهر أعراض مرضية غاية في التنوع. 1
وقد ساهمتُ بنفسي في تلك الطفرة من خلال استعارتي عبارة “أعراض مَرَضية” في عنوان كتابي الصادر عام 2016 والذي يتناول المرحلة المضادة للثورة التي أعقبت الربيع العربي، ومن خلال اقتباسي العبارة بأكملها في مستهل الكتاب. 2
أما سبب الطفرة المذكورة فيكمن بكل وضوح في أن عبارة غرامشي توفّر تفسيراً لنشوء ظواهر شتى لا لُبس في طابعها “المَرَضي” من منظور تقدّمي، وذلك في السنوات الأخيرة وعلى الصعيد العالمي: من المصير المحزن الذي آل إليه الربيع العربي إلى “الدولة الإسلامية” المزعومة، ومن تحفيز أقصى اليمين الأوروبي إلى دونالد ترامب، إلخ.
لكنه من المناسب قبل التأمّل في صلة تلك العبارة الشهيرة بوضعنا الحالي، أن نبدأ بالتأكّد من فهمنا الصحيح لما عناه غرامشي عندما كتبها. من أجل ذلك، لا بدّ من إعادة وضع العبارة في سياق النص الذي تم اقتباسها منه، مع إعادة وضع هذا النص في سياقه التاريخي بغية إدراك ما قصده غرامشي، وقد يكون مختلفاً عما نعزوه إليه فطرياً ونُسقطه عليه بعد مرور الزمن.
حلّ ألغاز نص غرامشي في سياقه التاريخي
في الحقيقة كما سوف نبيّن، عنى غرامشي شيئاً مختلفاً تماماً عن تفسير عبارته الشائع في زمننا الحاضر. وتنتمي هذه العبارة إلى أحد نصوص كراسات السجن، تحديداً الكراس الثالث لعام 1930. 3
فماذا كانت الخلفية التاريخية في حينه؟
كان انهيار وول ستريت في أكتوبر 1929 قد أدّى إلى “الكساد الكبير”، الذي يُعدّ أقسى أزمة مرّت بها الرأسمالية حتى يومنا هذا، وقد أعطت زخماً قوياً لصعود أقصى اليمين الأوروبي بعد أن سبق وحفزه استيلاء الفاشيين على السلطة في إيطاليا عام 1922. أما الحركة الشيوعية العالمية، فكانت في صميم المنعطف اليساري المتطرّف الذي بدأ في عام 1928 مع “المرحلة الثالثة” للأممية الشيوعية (كومنترن)، والذي ترافق بإنهاء السياسة الاقتصادية الجديدة (نيب) وبداية الإنشاء القسري للمزارع الجماعية في الاتحاد السوفييتي في نوفمبر 1929.
والأهم، بالنسبة لغرامشي، أن الحزب الشيوعي الإيطالي حذا حذو موسكو باعتماده في مارس 1930، تحت ضغط قيادة الكومنترن، منظوراً يسارياً متطرفاً افترض أن انهيار الفاشية وقيام الثورة البروليتارية باتا وشيكين في إيطاليا، بحيث تم نبذ المنظور الديمقراطي في مكافحة حكم موسوليني بحجة أنه لم يعد مناسباً. ومن المعروف جيّداً وعلى نحو لا جدال فيه أن غرامشي رفض هذا المنعطف اليساري بشدة، وكان مستاءً للغاية من عواقبه السياسية والتنظيمية. 4
فلنفك الآن ألغاز اللغة الخاصة بـكراسات السجن، التي كان غرامشي قد لغّزها لأسباب واضحة تتعلق بالرقابة، ولنقرأ النص الذي كتبه عام 1930 في ضوء الظروف التاريخية.
يبدأ النص على النحو التالي:
يتصل ما يسمونه بـ “موجة من المادية”، ذلك المظهر من مظاهر الأزمة الحديثة، بما يسمى “أزمة السلطة”.
إذا ربطنا بين هذه الإشارة إلى “موجة من المادية”، وهي إشارة تبدو مبهمة، وتوقّع غرامشي لاحقاً في النص ذاته “توسعاً غير مسبوق للمادية التاريخية”، يبدو واضحاً بما فيه الكفاية أنه لم يكن يشير إلى اتجاه فلسفي جديد بعيد الاحتمال في الثقافة الشعبية، بل إلى التوسع المستمر للحركة الشيوعية (الحركة السياسية التي تتبنّى رسمياً “المادية” وخاصة “المادية التاريخية”، أي الماركسية) في سياق الاستقطاب بين اليسار الراديكالي واليمين الراديكالي الذي تطور خلال الأزمة التي شهدتها مرحلة ما بين الحربين العالميتين. كان توسع الشيوعية مرتبطاً بطبيعة الحال بأزمة في شرعية الرأسمالية، أي بتقلّص في حجم القبول بالهيمنة الرأسمالية، و هو “ما يسمى أزمة السلطة”.
وتابع غرامشي كاتباً:
إذا فقدت الطبقة الحاكمة القبول الذي تستند عليه، أي أنها لم تعد “تقود” بل “تسيطر” فقط، مستخدمة القوة الجبرية وحدها، فهذا يعني بالتحديد، أن غالبية الجماهير الساحقة قد تحررت من أيديولوجياتها التقليدية، وأنها لم تعد تؤمن بما كانت تؤمن به من قبل، إلخ.
وفيما يبدو كأنه إشارة، ولو كانت غير مباشرة، إلى تقدير الحزب الشيوعي (“إذا”) أن الرأسمالية بوجه عام والفاشيين بوجه خاص قد خسروا الدعم الشعبي، يستخدم غرامشي مقولاته الشهيرة في “القيادة” (direzione)، التي أطلق عليها أيضاً اسم “الهيمنة” (egemonia)، والتي تقوم بصورة رئيسية على “القبول” (consenso) وتتعارض مع “السيطرة” (dominazione) القائمة على الإكراه وحده. فإذا تم استبدال القيادة بالسيطرة، بالمعنى الغرامشاني للمصطلحين، فإن هذا يعني بوضوح أن “غالبية الجماهير الساحقة قد تحررت من أيديولوجياتها التقليدية“.
بيد أن هذا الأمر لا يعني بالضرورة أن الوضع أصبح ناضجاً لثورة يقودها الشيوعيون. فهذا التطور الأخير يتطلب كي يتحقق شروطاً سياسية – بالأخص، تبنّي الجماهير العريضة لمنظور الشيوعيين السياسي – لم تكن قد تحققت بعد في رأي غرامشي. وتلخّص عبارته التالية تقييمه للأوضاع، وما اعتبره ناجماً عن ذلك المأزق التاريخي.
تكمن الأزمة تحديداً في أن القديم يحتضر، والجديد لم يولد بعد. وفي ظل هذا الفراغ تظهر أعراض مرضية غاية في التنوع.
ولا بدّ هنا من تعليق على استخدام غرامشي لاستعارة طبية بحديثه عن أعراض “مَرَضية”، في السياق التاريخي الموضّح أعلاه. فإنه من شبه المؤكد أن غرامشي، بوصفه معارضاً للمنعطف اليساري المتطرف لحزبه، كان في باله وصف لينين للنزعة الشيوعية “اليسارية” بأنها “مرض طفولي” 5. وفي ضوء ذلك، فبدلاً من الإشارة إلى الطفرة في الهمجية اليمينية المتطرفة في سياق الأزمة الرأسمالية والفجوة بين عمقها وضعف قوى الطبقة العاملة المنوط بها استبدال الرأسمالية بالاشتراكية (“الحلّ الطبيعي التاريخي” المذكور أدناه)، من المرجّح جداً أن “الأعراض المرضية” كانت تشير في الواقع إلى الأعراض اليسارية المتطرفة التي ظهرت على تلك الخلفية.
لكن غرامشي لم يبغِ أن يبدو انهزامياً. فأن يكون التفاؤل اليساري المتطرف غير مناسب، لا يعني قط أن النظام الرأسمالي سيسود بالضرورة، كما أوضح مباشرة بعد عبارته الشهيرة.
المشكلة هي: هل يمكن رأب ذلك الصدع الخطير الذي أصاب ارتباط الجماهير الشعبية بالأيديولوجيات السائدة بعد الحرب باستخدام القوة وحدها، منعاً للأيديولوجيات الجديدة من فرض نفسها؟ هل سيُملأ الفراغ وتُحلّ الأزمة – التي سُدّ على هذا النحو السبيل الطبيعي لحلّها – بالضرورة لصالح إعادة القديم؟
معنى ما سبق بعد حلّ ألغازه: نفور الشعب في فترة بعد الحرب من الأيديولوجيا الرأسمالية المهيمنة، هل يمكن التغلب عليه من خلال الوسائل القسرية للفاشية وحدها وبطريقة تفلح في منع الشيوعية من استلام السلطة؟ وفي هذه الحالة، هل تؤدّي الفترة الانتقالية الفاشية الراهنة وبالضرورة إلى عودة الحكم البرجوازي التقليدي السابق للفاشية؟ أجاب غرامشي:
هذا مستبعد (على الأرجح) إذا أخذنا في الاعتبار طبيعة الأيديولوجيات. وفي هذه الأثناء سوف يؤدي الإنهاك المادي على المدى الطويل إلى ذيوع نزعة الشكّ، وسيتم التوصّل إلى “ترتيب” [combinazione]، تتحول بمقتضاه الكاثوليكية، على سبيل المثال، أكثر فأكثر لتصبح مجرّد نزعة يسوعية [gesuitismo]… إلخ.
بعد حلّ الألغاز: تسمح طبيعة الأيديولوجيا الرأسمالية وتنويعتها الفاشية في إيطاليا باستبعاد عودة بسيطة إلى الحكم البرجوازي التقليدي السابق للفاشية. وبدلاً من عودة بسيطة ومباشرة على هذا النحو، فإن الكساد الاقتصادي سيؤدي بالفاشية على المدى الطويل إلى المزيد من تمييع مبادئها ونوعية حكمها نحو تكيّف متزايد مع الحكم البرجوازي التقليدي – مثلما قامت اليسوعية بتمييع الأخلاق الكاثوليكية الأكثر صرامة.
يمكننا أن نستنتج من هذا أيضاً أن ظروفاً مؤاتية للغاية قد نشأت لانتشار المادية التاريخية انتشاراً لم يسبق له مثيل.
في سياق الأزمة الاقتصادية الجارية، فإن إضعاف الفاشية – تنويعة الأيديولوجيا الرأسمالية التي استقطبت الاستياء الجماهيري المتزايد، وحرفته عن معارضة الرأسمالية – ينبغي أن يخلق ظروفاً موضوعية مؤاتية جداً لانتشار غير مسبوق للشيوعية. إن وقع هذه العبارة الأخيرة على آذاننا قد يبدو “متفائلاً” للغاية، لكنها بالمقارنة مع التفاؤل اليساري المتطرف للكومنترن ومعه الحزب الشيوعي الإيطالي في عام 1930، كانت في الواقع مثالاً نموذجياً عن “تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة”، ذلك المبدأ الشهير الذي استشهد به غرامشي لأول مرة في عام 1920.
عودة إلى القرن الـ 21
هل أن ما سبق من توضيح لما عناه غرامشي على الأرجح بالعبارة التي شاع اقتباسها منه، يعني أن طفرة الاقتباسات الراهنة لا تعدو كونها حالة من حالات سوء الاستخدام المعمّم لإحدى العبارات بناءً على سوء تفسيرها؟ لا، فالأمر أعقد من ذلك.
كان غرامشي يكتب في زمن مضت فيه ثماني سنوات على استيلاء الفاشية على السلطة في بلاده، وفي وقت كانت فيه الحركة الشيوعية تتوسّع انطلاقاً من مستوى من القوة كان أصلاً أعلى بكثير من قوة أي شكل من أشكال اليسار الراديكالي المنظّم في عصرنا. صحيح أنه أساء تقدير خطورة المرحلة، وذلك بسبب تركيزه على بلده فقط وعلى الأزمة المزعومة للفاشية فيه، كما تصوّرها من خلال تشخيص حزبه لها. لم يكن غرامشي يدرك، ولم يكن بوسعه حقاً أن يدرك من سجنه، أن شيوعية “المرحلة الثالثة” اليسارية كانت تمثّل حالة مَرَضية أكثر خطورة بكثير من “المرض الطفولي” الذي انتقده لينين في عام 1920: لم تكن تعبيراً عن نفاد الصبر السياسي لدى حفنة من الثوار الشباب، بل كانت توجهاً عصبوياً متطرفاً ساهم في توطيد السيطرة البيروقراطية الستالينية على الاتحاد السوفييتي والكومنترن، وهو تطور تاريخي ستكون عواقبه حاسمة في تمكين أقصى اليمين من الانتصار في أوروبا – وعلى النحو الأكثر فتكاً في ألمانيا.
بيد أن الفكرة المركزية في عبارة غرامشي الشهيرة تنتمي إلى تقييم أي مرحلة انتقالية أخذ النظام القديم يحتضر خلالها، لكنّ نظاماً جديداً مختلفاً بصورة جذرية ليس قادراً بعد على أن يولد – وهو تقييم كمن في صميم تحليل ماركس للبونابرتية. ولا شكّ في أن غرامشي ورفاقه الماركسيين الإيطاليين في تلك الفكرة وجدوا في ذلك التحليل مفتاحاً لتحليلهم للفاشية، التي هي في الواقع شكل منحطّ من أشكال البونابرتية. وبكلام ماركس:
لقد صرّحت الامبراطورية، التي كان قلب سلطة الدولة شهادة لميلادها، والاقتراع الشامل مصادقة على قيامها، والسيف صولجانا لها، بأنها تستند إلى الفلاحين، وهم كتلة كبيرة من المنتجين ممن لم يتورّطوا بصورة مباشرة في الصراع بين الرأسمال والعمل. ولقد ادّعت الامبراطورية أنها منقذة الطبقة العاملة بحجة أنها هدمت البرلمانية وهدمت معها انقياد الحكومة السافر للطبقات المالكة، وادّعت أنها منقذة الطبقات المالكة بحجة أنها دعمت سيطرتها الاقتصادية على الطبقة العاملة. وقد ادّعت أخيرا أنها وحّدت جميع الطبقات حول شبح للمجد القومي عاد إلى الحياة ثانية. أما في الحقيقة، فقد كانت الامبراطورية الشكل الوحيد الممكن للحكم في وقت فقدت فيه البرجوازية المقدرة على حكم الأمة، ولم تكتسب الطبقة العاملة فيه بعد هذه المقدرة. 6
إن النوع عينه من المأزق التاريخي الناجم عن التزامن بين حكم برجوازي لم يعد قادراً على الاستمرار وحكم عمّالي لم يصبح بعد قادراً على الحلول محلّ الأول، ذلك المأزق الذي أنتج البونابرتية بإمكانه أن يفرز أيضاً بصورة طبيعية جداً نفاد صبر ثوري لدى نشطاء راديكاليين يتصرّفون بالنيابة عن العمّال ويبحثون عن طرق مختصرة إلى الثورة. وقد حدث ذلك بالفعل على نطاق واسع خلال الوضع الثوري الذي أخذ يتطوّر بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى بقليل في العديد من الدول الأوروبية، التي أصبحت بالتالي تواجه وضعاً “فقدت فيه البرجوازية المقدرة على حكم الأمة ولم تكتسب الطبقة العاملة فيه بعد هذه المقدرة”. 7
إن الفجوة بين حكم برجوازي فقد المقدرة وقيادة عمالية لم تكتسبها بعد، تشكّل أيضاً أرضاً خصبة لظهور مرض خطير آخر: ليس مرضاً في السياسة الاشتراكية، بل مرضٌ في السياسة البرجوازية يتّخذ شكل أقصى اليمين. ويحدث صعود هذا الأخير عادة عندما يبدأ الحكم البرجوازي التقليدي بفقدان الشرعية (القبول أو الهيمنة) على خلفية أزمة اجتماعية-اقتصادية، في حين أن اليسار المناهض للرأسمالية ليس قوياً بعد بما فيه الكفاية لتولّي زمام قيادة الشعب (الأمة). وكما هي الحال مع “المرض الطفولي” في السياسة اليسارية الراديكالية، فإن مرض السياسة البرجوازية اليميني المتطرّف يمكنه أن يتّخذ شكل حركات جماهيرية، ولكن أيضاً أن يولّد أنشطة إرهابية عندما تخفق تلك الحركات في النشوء.
إن ظروفنا العالمية الحالية تختلف بالتأكيد اختلافاً كبيراً عمّا كانت عليه الظروف في عام 1930. فباستثناء الصدمة الأولى، لم يكن الركود الكبير الذي أدّت إليه الأزمة المالية لعامي 2007-2008 حاداً ودراماتيكياً مثل الكساد الكبير الذي شهدته الثلاثينيات. لكنّه ركود جاء بعد عقود من التفكيك النيوليبرالي لما شكّل “العقد الاجتماعي” لفترة ما بعد عام 1945، والذي تم على أساسه تشييد الهيمنة الرأسمالية الليبرالية. وقد بدأ التفكيك النيوليبرالي منذ الثمانينيات في وقت شهد أزمة عميقة عانى منها اليسار على الصعيد العالمي فيما اتضح أنه العقد الأخير للاتحاد السوفييتي، الذي كان يُنظر إليه في حقبة ماضية على أنه “وطن الاشتراكية”، فأدّى التفكيك، بزعزعته لاستقرار الظروف الاجتماعية والاقتصادية العالمية، إلى تخندق عالمي وراء علامات الهوية (الدين، العرق، الأمة) جنباً إلى جنب مع انجراف حاد باتجاه اليمين. وقد أدّت هذه التطورات مجتمعة إلى ما أطلقتُ عليه، في أعقاب 11 سبتمبر 2001، تسمية “صدام الهمجيات” 8 – وهذا الصدام هو الحقيقة الكامنة وراء ما أساء صامويل هنتنجتون تشخيصه على نحو سطحي، مسمّياً إياه “صدام الحضارات” لأنه بدا وكأنه تخاصم ثقافي على جانبي خط صدع حضاري عالمي، بينما هو في الواقع صدام بين أسوأ الاتجاهات الناشئة داخل كل مجال ثقافي.
شكّل الركود الكبير ذروةً وتسارعاً دراماتيكيا لتلك الردّة الزاحفة. لكنّ الفرق في الوتيرة بين الأزمة الاجتماعية-الاقتصادية للرأسمالية ما بين الحربين العالميتين والأزمة الراهنة هو بحيث أن الأزمة السياسية الآن لا زالت بعيدة عن حدّة ما كانت عليه في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وقد بلغت هذه الأزمة مستوى وضع ثوري في البلدان العربية وحدها في عام 2011، لكنّ ذلك لم يكن نتاجاً للأزمة العامة للرأسمالية بل كان نتاجاً لأزمة خصوصية للنظام الدولاني الريعي-الميراثي الذي يميّز هذا الجزء من العالم 9. هكذا، وباستثناء التشنّجات المأساوية لاحتضاره المروّع في البلدان العربية، فإن النظام القديم يحتضر بالموت البطيء في معظم البلدان، بينما الجديد لا يستطيع أن يولد ولا يبدو قادراً بعد على أن يسود قريباً.
بيد أن “الجديد”، أي أفق التغيير المجتمعي التقدّمي، أخذ يظهر مرة أخرى بعد غياب طويل: لقد بدأنا نشهد بالفعل إحياءً لليسار. طبعاً، فإن حالة القوى المناهضة للرأسمالية في زمننا مغايرة تماماً لما كانت عليه في سنوات ما بين الحربين من القرن الماضي: آنذاك كانت الثورة الروسية قد انتصرت حديثاً بما حفز تجذّر الطبقة العاملة على نحو كبير في شتى أنحاء العالم. أما اليوم فإن التشوّه الخطير الذي لحق بفكرة الاشتراكية عينها من جرّاء انهيار “الاشتراكية القائمة فعلاً” كما تجسّدت في الاتحاد السوفييتي والدول التابعة له، ذلك التشوّه لا زال تخطّيه في بداياته في صفوف الجيل الجديد، وفي بضعة بلدان فقط حتى الآن. ولن يكون سهلاً تخطّي الفشل الهائل لشيوعية القرن العشرين ومشتقاتها.
ومع ذلك، فإن ظهور يسار جديد واضحٌ بما فيه الكفاية لنستطيع الإشارة إلى استقطاب عالمي للسياسة بين اليسار واليمين يحفزه الركود الكبير على خلفية الأزمة المتفاقمة للنظام القديم بجميع أشكاله السياسية، من الديمقراطية إلى الاستبداد. لقد دخلنا مرة أخرى في وضع يحتضر فيه القديم بينما الجديد غير قادر بعد على أن يولد. وقد نتج عن ضعف وهشاشة قوى التغيير التقدّمي إلى الآن أن الأزمة المتسارعة للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للرأسمالية العالمية أفادت بصورة رئيسية حتى اليوم صعود أقصى اليمين في شتى أنحاء العالم. لذا نشهد حالياً أكثر “الأعراض المرضية” إثارة في أقصى يمين الطيف السياسي، يولّدها انحطاط السياسة الرأسمالية.
وتؤدّي هذه الأعراض إلى ذروة بالانجراف العالمي نحو اليمين الذي نجم عن الردّة النيوليبرالية منذ الثمانينيات. فقد ساهم الركود الكبير مساهمة حاسمة في تسريع هذا الانجراف، الذي غدت رموزه في الوقت الحاضر وجوه دونالد ترامب ومستشاره “الاستراتيجي” السابق، الداعية اليميني المتطرف ستيفن بانون، ومجموعة واسعة من الأشخاص في جميع أنحاء العالم من الغرب إلى الشرق، أمثال نايجل فاراج، ومارين لوبان، وفيكتور أوربان، وفلاديمير بوتين، ورجب طيب أردوغان، وبنيامين نتنياهو، ونارندرا مودي، و رودريغو دوتيرتي.
هذا ويقدّم مصير “الربيع العربي” مثالاً فاقعاً لظهور أعراض مرضية. فالنظام الدولاني الإقليمي العربي يحتضر، لكنّ القوى التقدّمية التي أطلقت الانتفاضة الإقليمية تبيّن أنها لم تكن على مستوى مهمة قيادة التغيير المطلوب. ونتيجة لذلك، ظهرت أعراض مرضية حادة داخل القوى الإسلامية التي كانت هي أيضاً تتحدّى النظام القديم. وقد أنتجت هذه الأعراض جماعات غارقة في الرجعية اشتبكت مع النظام الإقليمي القديم بوحشية فائقة: فتصاعد العنف إلى أقصى حدوده على الجانبين، مما أدّى إلى حالة من “صدام الهمجيات” في بلدان شتى – كما حصل في سوريا على نحو مأساوي للغاية مع نظام الأسد من جهة وتنظيمي “داعش” و”القاعدة” من الجهة الأخرى. ومع ذلك، يبقى أن المنطقة شهدت عام 2011 الموجة الثورية الإقليمية الأكثر إثارة منذ الموجتين اللتين نشأتا في نهاية الحرب العالمية الأولى ونهاية الحرب الباردة، وهذه الحقيقة هي دافع حقيقي للأمل في المستقبل.
لم يكن هناك في بداية الركود الكبير أي سبب يدعو إلى الأمل. أما في الوقت الحاضر فلدينا بالتأكيد أسباب أكبر بكثير لذلك الأمل، شريطة أن يؤخذ الأمل على أنه تشجيع لتفاؤل الإرادة، وليس بديلاً عن تشاؤم العقل. ذلك أن الحافز الأقوى على النضال في الوقت الراهن ليس الأمل، بل هي “الأعراض المرضية” الرجعية نفسها التي تنذر بمستقبل مروّع. وكم كانت روزا لوكسمبورغ على حق عندما أشارت في عام 1915 إلى أن وعينا للكارثة التي قد تحدث إذا لم نتحرك، هو السبب الرئيسي الذي ينبغي أن يحفزنا على العمل. إن الخيار التاريخي النهائي هو حقاً: إما الاشتراكية أو الهمجية.
الهوامش
1 في الأصل الإيطالي:
Antonio Gramsci, Quaderni del Carcere, Vol. 1, Quaderni 1-5 (Turin: Giulio Einaudi editore, 1977), p. 311.
وفي الترجمة العربية: أنطونيو جرامشي، كراسات السجن (ترجمة عادل غنيم، القاهرة: دار المستقبل العربي، 1994). جميع الاقتباسات بالحروف المائلة في هذا المقال مأخوذة من هذا المصدر مع تنقيحها أحياناً في ضوء الأصل الإيطالي.
2 جلبير الأشقر، انتكاسة الانتفاضة العربية: أعراضٌ مرضية (ترجمة عمر الشافعي، بيروت: دار الساقي، 2016).
3 كراسات السجن، المرجع المذكور.
4 حول ردّة فعل غرامشي إزاء ذلك، أنظر
Giuseppe Fiori, Vita di Antonio Gramsci (Bari: Laterza, 1966; Nuoro: Ilisso, 2004); Alfonso Leonetti, Note su Gramsci (Urbino: Argalia, 1970); Paolo Spriano, Gramsci in carcere e il partito (Roma: L’Unità, 1988).
5 فلاديمير لينين، مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية (1920).
6 كارل ماركس، الحرب الأهلية في فرنسا (1871).
7 تعليق لينين الشهير حول الشروط الموضوعية والذاتية في وضع ثوري – فلاديمير لينين، إفلاس الأممية الثانية (1915) – تضمّن وجهة النظر التي منها انتقد “الشيوعية اليسارية” بعد خمس سنوات.
8 جلبير الأشقر، صدام الهمجيات: الإرهاب والإرهاب المقابل والفوضى العالمية (بيروت: دار الطليعة، 2002).
9 جلبير الأشقر، الشعب يريد: بحث جذري في الانتفاضة العربية (ترجمة عمر الشافعي، بيروت: دار الساقي، 2013).