120 كم في الساعة السرعة التي لعق بها مطّاط عجلات الفورد اسفلت الشارع حين جذب شبّاكه المفتوح زهرة المجنونة أربعاء الأسبوع الأخير من آب لتحطّ في كفّي. قبل دقائق من اقتحام هذه الضيفة الفوشيّة، لم يكن من السهل التنفّس قرب نافذة السيارة المُشرعة وهي تندفع بهذه السرعة، لم يفصلني حينها عن لحظة إزاحة لوح الزجاج الذي يطقطق من اهتزاز السيارة إلى طرفه الثاني سوى رغبة وجهي بالتمرّغ في أمواج هواء قلقيلية الحارّ في يوم عشوائيّ.
بعد أسبوع، فقدتُ الإحساس بنصف القسم السفلي من ذراع تلك اليد، شملت منطقةُ الشلل الخنصر والبنصر والشريحة الداخلية الطولية الواصلة بين الكفّ والمرفق. لم أزر الطبيب سوى بعد ثلاثة أيام، حين تحوّل اللاشعور ليلًا إلى ألم شديد ينبض مثل غياب الضوء الأبيض وحضوره من خلف زجاج أسطوانة نيون معلّقة على انخفاض 5 سم من حافة سقف ستنفجر عمّا قريب.
من بين كلّ الأسماء التي تحملها هذه الشّجرة، شاع المجنونة. هنا في فلسطين، تتسلّق المجنونة أسوار البيوت ومداخلها وأقواسها وترمي أذرعها في كلّ الجهات ولا تكلّ من فرش ألوانها البنفسجية والأرجوانية والبيضاء والفوشية على تراب الأرصفة طوال العام، وليس هذا سوى فعل مجانين.
زهرة التين ثمرته وورقة المجنونة زهرتها وذراعي الزاحفة قدمي إلى الغابة.
كنت في طريقي إلى معبر ايال لإخراج بطاقة ممغنطة أذهب بها بعد ذلك إلى ارتباط سلفيت لإصدار تصريح ألصقه الساعة العاشرة والنصف صباحًا بتاريخ السادس من سبتمبر لمدّة أربع ثوانٍ على زجاج الكاونتر الذي يفصل بيني وبين الجندي على حاجز قلنديا لينظر إليه ثمّ يشير بسبّابته اليمنى أن ادخلي قفص الحديد إلى الناحية الأخرى من الكون، إلى القدس، وأن سيري في شوارعها العتيقة مُتلفةَ الأكعابِ مُسقِطةَ الذراع واقرأي ابن طفيلٍ في ظلال أقواس الحرم وقَرّي عينًا وأن لبّي لذريح واسجدي واركعي لذي الشارة وذي الشرى.
لم أحصل على تلك الممغنطة، وهو حظ كان ذورفان كريمًا إذ قسمه لي منذ ما يزيد عن ألفٍ وأربعمئة عام، دفعت 150 شيكلًا مقابل الحصول على ورقة كُتب عليها “مبلغ الدفع 130 شيكل جديد فقط” هي معاملة الممغنطة التي عليك أن ترفعها أمام الجنود في معبر ايال ليسمحوا لك بدخول غرفة إصدار بطاقات الممغنطة والتصاريح في آخر النفق المرسومة حدوده بأسيجة المعدن والمقطّع بالمَعّاطات التي خِلتُ عددها قريب العشرة، تمسكُ بأحد قضبان الحديد حين يصبح مستوى اللوح مواجهًا لصدرك (تذكّر وضعية الهجوم، صدر مفتوح وحوض مواجه للخصم) ثمّ تحشر جسدك سريعًا بين اللوح الذي أمسكت به واللوح الذي يليه وتدفع للأمام باتجاه عقارب الساعة، موازنًا بين سرعة دفع اللوح وسرعة تقدّم حذائك بخطى مخنوقة حسب ما تتيحه المساحة بين اللوحين، لا يمكنك إزاحة قدمك أكثر من 10 سم في الخطوة الواحدة حتى تصل الجانب الآخر من المَعّاطة. أي أن أخمص قدمك التي تتقدّم لا يتجاوز مشط قدمك الأخرى، مع الوقت والمران، يزيد عدد السنتيمترات المقطوعة، نتيجة ازدياد تحكّمك باندفاع جسدك في حالة توازن على شفير تلك المسافة الحرجة، مسافة يتقنها الخمستالاف عامل الذين “يعبرون” يوميًا.
كنّا نسميّها خطى النملة! لم أجد أثرًا لهذه اللعبة في التراث الشعبي الفلسطيني، لا بدّ أن نكون اخترعناها نحن بنات الحارة. كنّا نصطف جميعًا على “راس الدّحلة” وتقوم الحكم من الأسفل (خطّ النهاية) بإطلاق أحكام الخُطى على المتسابقات، فتسمّي لكلّ منّا عدد ونوع الخطى التي عليها أن تتقدّم بها، 3 عسكر، على سبيل المثال، تعني التقدّم بثلاث فشخات واسعة، 5 أرنب يتبعها خمس قفزات نحو الأمام بقدمين متلاصقتين. كانت النملة تعني أن هذه اللفّة راحت عليك، فمهما جاد الحكم بعدد الخطى لن تقطع سوى مسافة صغيرة تجعل خطّ النهاية حلمًا بعيدًا، كنّا جميعًا في انتظار خطى العسكر حتّى نهزم المسافة، ولكنّها مع لآمة الحكم كانت مثل حظّك من الجوكر في لعبة الهاند، من يصل أولًا يصبح حكم الشوط القادم، ومن يبقى وحده في النهاية يُذلّ ويهان ويُقهر بأوصاف الخسارة وألقابها.
مدّدتُ ذراعيّ اليمنى بمحاذاة اليسرى، حرّكتُ الرسغين، شبكتُ يدي خلف ظهري، أجبت “لا” حين سألني عمّا إذا كنت قد أدّيت حركات مختلفة في تدريبات الكاراتيه الأخيرة، إذًا لا بدّ أن أكون قضيت الأعوام الماضية أسند رأسي على ذراعي في المكتب، ليس هناك تفسير آخر لاختناق الوتر الزندي أو التهاب عصب اليد الذي شخّصني به طبيب العظام بعد سلسلة من الأسئلة ولَيّ مفاصل اليدين باتجاهات عدّة قرّر بعدها بإعجاب أن جسمي سينهار إذا أوقفتُ التدريبات، لأن مفاصلي اللينة خُلقت لتتمرّن، قاومت رغبتي بأن أصححه مقتبسةُ ما قاله السّنسي: هذه مرونة لا ليونة يا أحمق! لم يقل السّنسي “يا أحمق” ولكنّني تلبّسني حماس التفوّق اللغويّ على طبيب عظام في مصطلح يخصّ المفاصل. الحقيقة أنّني لم أعثر على مرجع لغويّ يفرّق بجدّيّة بين المصطلحين من ناحية دقّة انطباقهما على وصف حركة المفصل، ولكنّني لن أرضى بترادفهما، وسأخوض في الانحياز إلى فكرة أن المرونة مرحلة ثقّة الليونة بنفسها، وأنّ الليونةَ قبل تحصيل المرونة صفةُ ضعف، وأنّ المسافة بينهما كالمسافة بين النّجباء والأبدال، وكخطى العسكر. لم يسأل عن أوصاف المجنونة التي لسعت يدي، لم يسأل عن تربتها وهوائها وشمسها ومائها.
اقترَح أصدقائي مراجعة طبيب عظام أو أعصاب حين اشتدّ عليّ الألم، ولم يعلم أحد منهم بعروق المجنونة التي تتفرّع في لحم ذراعي، وأشواكها التي تنبت تحت الأدمة. ابتلعتُ الآن الحبّة الخامسة عيار 120 ملغ من ورقة الأركوكسيا، ولا تزال ذراعي تنتفخ وتتخشّب ويتقشّر لحاؤها.
وافقت أ.أ أن تخرج لي تصريحًا طبّيًا مقابل 200 شيكل، كان عليّ تسليم ظرف بالنقود وصورة الهوية في مكان ما، واستلام ظرف آخر بالتصريح من مكان آخر قبل يومٍ من موعد مقابلتي مع السفارة. أ.أ هذه كنز وطنيّ، كنت مستعدةً لدفع ضعف المبلغ تكلفةً لتجنّب الذهاب إلى معبر ايال مرّة أخرى لإخراج ممغنطة قررّوا أنّها لا تصدر سوى يوم أحد. لا أريد أن أرى ذلك الرجل الذي كان ينادي الجنود بأسمائهم ويواصل عرضه بإيصالي إلى رام الله في سيارته الخاصّة، لا أريد أن أسمع ذلك الشاب الفلسطيني يعطي الجندي خلف باب الخشب الأحمر أخبار محمد وسميرة، لا أريد أن يقترب مني ذلك الجندي مرّة أخرى ويغمزني ويهمس في أذني ملاحظات جنسيّة مقرفة، لا أريد أن أوازن خطواتي بين ألواح المعّاطات المعدنية الباردة، لا أريد أن أتوه في مسافة 100 متر بين الجنود وهذرهم بالعبريّة،I only speak hebrew أجاب الجندي بالإنجليزية ردًا على سؤالي Do you speak English? كانت عنقائي تُبعث من جديد لدى كلّ جنديّ لا يتحدّث العربية، لا أريد أن أسمعها من أفواههم ولا أريد أن أتفوّه بلغتهم، فلننتهك الإنجليزية معًا إذًا، ونشبحها بين اهتزازات هذه الأوتار المشحونة بالوسخ، الإنجليزية، وأدركتُ فجأة حسنةً وحيدة لهذه اللغة الملطّخة بالدم، إنها تصلح قالبًا شفويًا لاحتواء فاجعة تواصل الفلسطيني مع الجنديّ الإسرائيليّ على الحاجز، أقولُ لا أريد أن يتمرّغ وجهي بأمواج هواء قلقيلية الحارّ قرب الشباك المفتوح، ولا أريد أن تلسع كفّي مجنونة أخرى، وسأغلق نوافذ كل السيارات المسرعة، ونوافذ كل العالم، العالم الذي لا نوافذ له، سوى ما يطلّ على قشور الأسماك الزرقاء الجافّة بين رمال الشاطئ المحتلّ، من عمارات البلاستيك التي تسيح على واجهاتها الشمس.
سلّمت الأوراق المطلوبة، وضعتُ أصابعي العشر على شاشة البصمات، ضغطت حتى أضاءت كلّ المفاتيح الخضراء، أزحت الكرسي نحو اليسار، واليسار الآن جهةٌ تنتحرُ فيها ذراعي أمام مدّ النسيج البرانشيمي، رددت خصلة شعري خلف أذني، جلست في مركز اللوح الأبيض، فتحت عينيّ جيدًا أمام الكاميرا، كان عليّ لمدة 20 دقيقة أن أردّ بابتسامة واعتذار على كلّ إهانة وصرخة توجّهها إليّ موظفة ممثلية الفيزا وراء المكتب خشية أن تمزّق بعض أوراق الطلب أو تخفيها إذا ما رددتُ على وقاحتها، انطلقَ خيالُ ضربة ميغي تسوكي بخطّ مستقيم من قاعدة الأضلاع نحو عظام أنفها وطرح جثّتها أرضًا. إنّها فوق كرسيّها في تلك الغرفة المقتَطعة من كعب الأمريكان كولوني إلهةُ الجحيم التي تحمل في يمناها مفاتيح الجنّة، ويسراي مدلّاةٌ على حافّة جسدي تُربّي جذع المجنونة ببطء. فرحت حين ضغطتُ بخنصر اليسرى وبنصرها على شاشة البصمات، تاركةً لدى السفارة البريطانية بصمات ثمانية من أصابعي فقط، وبصمتين تواطأت فموّهتهما عنّي ذراع المجنونة.
أمام باب العمود عصرًا، كأس القهوة والسيجارة في يد واحدة، وتزحف الأخرى نحو الشمس والماء، يُقال إنّ المجنونة لا تورق في الظلّ. أسحبُ نفسًا وأدير يدي 30 درجة ثمّ أعُبّ رشفة، يدخل الدخان في أنفي وتحترقُ ثلاث شعرات وتتبخّر حتّى منتصفها. حصلت صباحًا على كاسة اسبرسو دبل مجانية من رئيس موظّفي مطعم الأمريكان كولوني، قدّرت أنّه ظنّني شحّادة حين دخلت بذراعي المتضخّمة والمتدليّة أطلب قهوة تيك أواي لأحتسيها على مقعد أمام باب المطعم، لم أستطع أن أجلس هناك وأستمع إلى طعرصة زوج من الإسرائيليين يشربان البيرة ويميلان كلّ على كتف الآخر تحت معرّش دالية فلسطينيّة على بعد عشرين مترًا من شاشة تعرض شهادة إحدى ناجيات مذبحة دير ياسين في متحف دار الطفل.
عرفت لاحقًا أنّ دريادات هذه الأشجار القادمة من غابات البرازيل تتلبّس الأجساد التي ينزّ من مسامها عرقُ السفر، وهكذا تُواصل انتشارها في كلّ أنحاء العالم، هل عليّ الآن وذراعي تطرحُ زهرًا فوشيًا أن أرتّب حقائبي وأستقيل من وظيفتي أم أواصل الانتظار، تبدو الغرفة أحيانًا مليئةً بالأغراض التي يستحيل حزمها، وأحيانًا تبدو فارغة، فارغة مثل قعر محيط جافّ، كما لو أنّني لم أتنفّس بها يومًا.