يستمرّ الفنان السوري سميح شقير، بإمكانات متواضعة، بإعلاء صوته متمسكاً بوطنه وثورة شعبه، متحدياً الظلم والاستبداد والطغيان بأغنياته الثورية كـ «يا حيف»، «إن راح البلد»، «رجع الخي»، «رمانة»، «بيدي القيثارة»، «حناجركم»، ليكون صوته الحر الهادر صرخة في وجه الطغيان في بلده النازف، وشوكة في حلق المحتل الصهيوني الفاشي… فكان واحداً من الأصوات التي أسست تيار الغناء الملتزم في الوطن العربي منذ مطلع ثمانينات القرن العشرين.
“رمان” التقت بصاحب «نجمة واحدة»، المؤمن بأن “الأغنية هي أحد أركان الثقافة الإنسانية وتعبير مهم عن أعماق الإنسان”، فكان هذا الحوار…
“ما هو الخطر الذي يمكن أن تشكله أغنياتي؟” هذا السؤال طرحتَه في حوار سابق. وأنا أضيف إليه: ما الذي يخيف الطغاة من الأغاني؛ أغاني سميح شقير؟
يحق لهم أن يخافوا الأغاني لأن أجنحة الأغاني لا تسقطها مضادات الطائرات ولا يمكن أسرها في السجون، ولأن الأغاني إن وصلت إلى الوجدان فستتحول إلى إلتماعةِ أملٍ في العيون، وعزم في القلوب، ونشيد تردده الحناجر.
الأغاني التي تحمل المعاني يخاف منها الطغاة فكلما حاولوا إطفاءها تشتعل أكثر وحتى لو راح المغني… لو راح المغني بتضل الأغاني… لذا يحق لهم أن يخافوا.
أين سميح شقير الآن مما يحصل في سورية؟ وهل ما زال الشارع السوري يوحي إليك بأعمال جديدة، أم أنك تشعر بالإحباط ككثير من المثقفين السوريين بعد أن خذل العالمُ شعبك وثورته؟
أنا حيث كنت دوماً، على مقربة من آلام شعبي وآماله أتابع تفاصيل التفاصيل، أكتب وألحن دائماً وأغني حين أستطيع ذلك، ولم أدخل الاستوديو لتسجيل أغنيات جديدة منذ فترة طويلة، الظروف لا تسمح! لكن لا بأس سيأتي وقت وأستطيع، أثق بذلك، ولست بمتشائم رغم كل شيء.
تعيش مع عائلتك في باريس منذ سنوات، هل هو منفى اضطراري؟
عملياً هو كذلك فالطريق إلى دمشق مازال غير سالك بسبب تراكم الطغاة!
“إن هناك دخولاً غير اعتيادي على الموقع في منطقة الشرق الأوسط”. هذه الكلمات كانت أول ردة فعل على صرخة الروح الأولى «يا حيف»، التي كتبت كلماتها ولحنتها وغنيتها. احكِ لنا تفاصيل ولادة أول أغنية في الثورة السورية؟
هي باختصار صرخة ألم وتحذير في لحظة لا تشبهها اللحظات وقد وُلِدَت هذه الأغنية كطلقة روح بالفعل، وكعادتي أكتب وألحن بنفس الوقت جملة بعد جملة حتى أني لم أعدّل كثيراً لا في اللحن ولا في الكلام، ولحسن الحظ لم يكن أفراد أسرتي متواجدين في بيتي الصغير مما أعطاني فرصة التركيز، كما حدثت أشياء سهلت تسجيل الأغنية فقد اتفقت مع اثنين من الموسيقيين في فرقتي أن نلتقي في اليوم التالي لأناقش معهم إمكانية التسجيل بطريقة ما، وقد تحمس صديقاي عيسى مراد (عود) ويوسف زايد (إيقاع)، فباشرنا بالتسجيل فوراً في تلك الأمسية بواسطة برنامج تسجيل على جهاز اللابتوب وبالمعدات المتوفرة، وتم التسجيل بإحساس عالٍ بمشاركتهما، وبما أن يوسف مهندس صوت بارع أيضاً كنت مطمئناً أنه سيسلمني الأغنية جاهزة ولو بعد عدة أيام، فقد تأخر الوقت وبالكاد يمكن أن نلحق بالقطار لنصل إلى بيوتنا، ودّعنا عيسى وغادرنا أنا ويوسف لكننا لم نلحق بالقطار الأخير فماذا نفعل؟ قررنا أن نعود إلى بيت عيسى الذي تفاجئ بعودتنا ولأننا قررنا السهر حتى الصباح الباكر لنأخذ أول قطار فقد اتسع الوقت ليبدع يوسف في هندسة الصوت متشاركين معه بالذائقة، وهكذا أنجزنا الأغنية. قال يوسف إن وضعها على موقع “اليوتيوب” لن يأخذ وقتاً كثيراً فانتظرنا بلهفة أن ينجز ذلك، ثمّ هنأنا بعضنا بحرارة وخرجت ويوسف لنلحق بقطار الصباح الباكر، وصلت ونمت متعباً واستيقظت على اتصالات تتحدث عن وقع الأغنية والدهشة من تأثيرها، فتحت على “اليوتيوب” ولَم اصدق الرقم الذي اتضح أنه شاهد الأغنية، وبعدها أصبح كل سوري له قصة مع الأغنية، سمعت من هذه القصص المئات، نعم الأغنية التي خرجت من القلب وصلت إلى القلوب.
ونذكر هنا بكلمات أغنية «يا حيف»:
“يا حيف… أخ ويا حيف… زخ رصاص على الناس العزّل يا حيف. وأطفال بعمر الورد تعتقلن كيف. وانت ابن بلادي تقتل بولادي. وظهرك للعادي وعلي هاجم بالسيف. يا حيف يا حيف. وهذا اللي صاير يا حيف. بدرعا ويا يما ويا حيف. سمعت هالشباب يما الحرية عالباب يما. طلعو يهتفولا. شافو البواريد يما. قالو اخوتنا هن ومش رح يضربونا. ضربونا يما بالرصاص الحي. متنا. بايد اخوتنا باسم أمن الوطن واحنا مين احنا… واسألوا التاريخ”..
كيف يحضر رقيبك الذاتي وأنت تعمل على مشروع أغنية جديدة؟
بلا شك هناك رقيب داخلي حتى وإن لم نُعِرهُ انتباهنا، لكن بالتحليل أجد أن هناك رقيبان داخليان وليس رقيب واحد أولهما هو نفسه الرقيب الخارجي، أو لنقل ظل ذلك الرقيب وقد تسلل إلى داخلنا. وثانيهما هو منظومة القيم الخاصة بنا والتي تقوم أيضاً بعمل فلترة لبعض التعابير وتستبدلها بغيرها، منذ فترة لا بأس بها أحلْت (الرقيب الظل) على التقاعد لكن بقي الرقيب (القيَمي)، ونحن متفاهمان! لأني أحس به كجزء من حريتي وليس جزءاً من قيودي، لأن الحرية بلا قيَم هي مجرد فوضى.
وعند التأليف أطلق العِنان لإحساسي وخيالي وأحس بأني أقرب ما أكون إلى حريتي، لكن تالياً قد أدقق ببعض التعابير، لأني أرى العمل بعيون الآخرين وبما قد تحمل اللغة من التباسات مع تعدد ثقافات المتلقّين لأن وصول الفكرة هو الهدف .
أي من هذه التعريفات تفضل أن نقول: “الأغنية السياسية” أم “الأغنية الوطنية” أم الأغنية الثورية” ولماذا؟
لا أميل إلى هذه التعريفات أساساً، هناك أغنية جيدة وأخرى رديئة مع تعدد الأشكال والمضامين، فقد تجد أغنية ثورية هابطة أحياناً، وقد تجد أغنية بلا مضمون لكنها ممتعة كموسيقى، لكن الأغنية الجيدة هي التي تحتوي المضمون والمتعة معاً.
في السنة الأولى من الثورة كان للأغاني الثورية وقع كبير على الحراك السلمي السوري، لكن الأمر تغير مع مرور الزمن رغم أن السوريين مازالوا يحلمون بالحرية وبسورية الجديدة. فكيف تفسر الأمر؟
إن الخروج من الثورة السلمية إلى التسلّح كان كارثة حقيقية على الثورة بالرغم من معرفتنا بكل التفاصيل التي دفعت إلى هذا الطريق دفعاً، ومعرفتنا بكل الجهات التي حرصت على هذا التحول في واقع الثورة، وكان أولهم النظام طبعاً ولكنه لم يكن الوحيد.
تميزت المرحلة السلمية بالنشاط الثقافي الثوري ومن بينها عشرات الأغنيات الجديدة والتي لاقى بعضها الاستحسان، لكن انتهاء المرحلة السلمية قوض إمكانية تطور هذه التجارب من ناحية، كما أنه لم يعد يصل صوت الأغاني فقد علا صوت الرصاص والطائرات والبراميل.
عند حديثك عن الأغنيات التي أنتجتْها الثورات، قلت ذات حوار: “يمكننا اليوم تَلمّس حالة الغياب التي شكّلتها غالبية التجارب التي كانت مرجعاً وإرثاً للفن الثوري، تاركة سؤالاً معلقاً في قلوب محبيهم من الثائرين”. هل كنت تقصد مارسيل خليفة الذي خذل ثورة السوريين؟
مارسيل أحدهم بالطبع، ولكن هناك العديد غيره وهم معروفون من الجميع.
أتوقف معك عند مجموعتك الشعرية الأولى «نجمة واحدة» (يتضمن 47 قصيدة، دار كنعان، دمشق 2007)، سؤالي: هل من مجموعة تصدر قريباً أو صدرت؟
منذ شهر تقريباً صدر ديواني الثاني عن دار ميسلون بعنوان «ولا يشبه النهر شيئاً سواك»، لكني لَم أقم حتى الآن بالاحتفاء به من خلال حفل توقيع للديوان، لكن ذلك سيكون قريباً وبالمناسبة فقد صدر هو ذاته بنسخة مترجمة للفرنسية (ترجمة الصديقة الشاعرة والروائية الجزائرية ربيعة الجلطي)، وأعتقد أنه أصبح متوفراً في معارض الكتاب خاصة.
أنجزت موسيقات تصويرية للعديد من الأعمال الدرامية التلفزيونية والمسرحيات السورية، أبرزها ألحان مسرحية «خارج السرب» للشاعر والكاتب الراحل محمد الماغوط. ما الذي أضافته هذه الإنتاجات لمشروعك الموسيقي؟
الموسيقى التصويرية عالم جميل من التجريب والتفاعل مع الصورة والدراما والمخرج والممثل، ولطالما أحببت هذا العمل وأعود إليه الآن بعد انقطاع، إذ أني أعمل حالياً على وضع موسيقى لفيلم، فيما جرى الاتفاق أيضاً على فيلم ثان.
أنجزت ثلاثة أعمال غنائية للأطفال هي: «تنورة»، و«تفاحة»، و«يا باح ويا باح»، كما أنجزت تأليفاً موسيقياً لفيلم للأطفال «من العين إلى القلب». هل من جديد موجه لأطفال سوريا؟
لم اشتغل شيئاً جديداً للأطفال، ربما لدي إحساس أن كل الأطفال قد كبروا فجأة وأصبحت أحاديثهم واهتماماتهم تشابه ما نحن عليه!
بعد نيف وثلاثة عقود هل أنجز سميح شقير الأغنية التي يريد، ووصل إلى تحقيق حلمه الفني؟
ليس هناك نموذج لأغنية إن حققتها وصلت إلى مشتهاي. هناك تجربة متواصلة وتجاوز واكتشاف، وما أنجزته بالأمس يصبح سريعاً من الماضي.
أعمل كثيراً من أجل تلك اللحظة التي أقفز فيها في الهواء بعد إنجاز عمل غنائي جميل، وهي لحظة تحليق لا يشابهها إلا الوقوف على المسرح أمام جمهور متعطش.
هل حقاً يمكن لأغنية ما أن “ترفع سقف الحرية”، أم هو مجرد حلم يراودك كفنان قرر أن لا يغير نهجه الملتزم؟
عن رفع سقف الحرية ومساهمة الأغنية بذلك فهذا لا شك فيه، وحتى قبل الثورة أخبرني كثيرون ممن عاشوا تجربة السجن السياسي، وحسب تعبيرهم، أن تلك الأغنيات “فتحت نافذة لهم في المكان المعتم”، كما ساهمت ببقائهم على قيد الأمل.
جدير بالذكر أن سميح شقير مغني، ومؤلف موسيقي، وشاعر. وهو من مواليد الجولان السوري المحتل. كتب أغنياته ولحّنها ووضع الموسيقى التصويرية للعديد من المسلسلات والمسرحيات، وكان لفلسطين حضورها القوي في إنتاجه الفني الملتزم. بدأ بتقديم أغانيه على المسارح عام 1982، وأصدر مجموعته الغنائية الأولى «لمن أغني» عام 1983. وكان أن شارك في الكثير من المهرجانات الفنية العربية والعالمية، كان أولها المهرجان العالمي للأغنية الملتزمة في الجزائر عام 1982. كما أقام العديد من الحفلات الغنائية والأمسيات الموسيقية في سوريا والوطن العربي والبلدان الغربية وأمريكا. درس بين عامي 1990 و 1994 في معهد عال للموسيقى في كييف عاصمة أوكرانيا. وقد نبعت خصوصية تجربته الفنية من التركيز على هموم وقضايا الإنسان العربي بكلماته التي تولد ملحنة ومنغّمة.