عند سؤال المصور جوزيف كوديلكا عن الجماليات أو الجانب الفني لصوره الفوتوغرافية، يجيب بأن هذا النوع من الأسئلة لا يشغله بتاتاً: ”هذا النوع من الأسئلة لا يعنيني على الإطلاق. غالباً ما تكون الظروف المحيطة بي أصعب من التفكير بهذا الأمر. فكلما رغبت التصوير في موقع قرب الجدار، لا تمنحني السلطات المختصة أكثر من 10 دقائق لإنهاء مهمتي. المفارقة أنني كلما قدمت نفسي كفنان كان التعامل معي يتحسن، أما إذا قدمت نفسي كصحفي فإن السلطات تصبح أكثر صرامة وحذراً في التعامل معي“.
إذاً، لهذه الأسباب لا يعتبر جوزيف كوديلكا الجماليات من الأمور التي يفكر بها حين تصميم أو إنجاز عمله، لكن العديد من الكتاب والفنانين التشكيلين تلقوا أعمال كوديلكا الفوتوغرافية كأعمال فنية، وهو ما يظهر في الكتابات التي تناولت معارضه، وفي تذوق المتلقي للجانب البصري في أعماله، بالإضافة إلى الجانب التوثيقي طبعاً.
إذاً، ما هي تلك الميزات التي جعلت بالإمكان تلقي فوتوغرافيات كوديلكا كأعمال فنية في نظر العديد من المتابعين لأعماله؟ هذه ثماني محاولات في البحث عن أسلوبية فنية في أعمال كوديلكا الفوتوغرافية:
محاولة (1): هندسيات الجدار: من مجموعة الصور الفوتوغرافية التي يختارها كوديلكا للعرض من سلسلة صوره عن جدار الفصل العنصري في فلسطين، تلك الصور التي لا تلتقط إلا الجوانب الهندسية من الجدار، تراكب القطع الإسمنتية المكونة للجدار كسلسلة متتالية، تداخل هندسيات وحركة الجدار مع حركة الجبال والتلال المحيطة بالجدار، وصور أخرى تبين الجدار ككتلة تشكيلية مخططة أو مرسومة داخل الصورة توحي بحراك، بتماوج معين يبني رؤية بصرية تشكيلية داخل الصورة الفوتوغرافية.
محاولة (2): تشكيلات الجدار: يتشكل الجدار في صور كوديلكا من قطع اسمنتية كبيرة تغلق كامل مساحة العدسة. وهكذا كأن الجدار يصبح لوحة داخل اللوحة، مساحة فارغة رمادية أو بيضاء، تتحول ذاتها إلى لوحة، حين يشاهد عليها المتلقي في بعض الأحيان رسوم غرافيتي ذات طابع سياسي يتعلق بالقضية الفلسطينية، في صور أخرى يشاهد المتلقي على الجدار زخرفات اسمنتية عشوائية أو مدروسة، وفي صور أخرى تكفي أحجار الباطون التي تكوّن الجدار لتكون تشكيلات زخرفية، هي أيضاً تصنع من الجدار لوحة داخل الصورة.
محاولة (3): عبثية الجدار والأسلاك الشائكة: عبثية الجدار في أعمال كوديلكا تتجلى على مستوى الموضوع، حين الحديث عن الحماقة البشرية أمام الخوف، والهوس بالعزل والفصل العنصري. لكن عبثية الجدار أيضاً حاضرة على المستوى البصري في أعمال كوديلكا، فهاك مقطع من الجدار ينتهي إلى الفراغ، دون أن يفصل حتى مشهد السماء عن الناظر، فتصبح الكتلة الإسمنتية التي تشكل الجدار كأنها حضور مادي عبثي أمام شساعة الطبيعة والمدى غير المحدود للسماء. في صورة أخرى يظهر الجدار كمقطع اسمنتي في أسفل زاوية الصورة، والسماء ممتدة والطبيعة ممتدة من بعده، هذا ما يجعل من حضور الجدار عبثياً حتى على المستوى البصري. يضاف إليها عدداً من الصور في أعمال كوديلكا، تظهر أسلاك معدنية شائكة تفصل بين ما لا يمكن فصله، إنها موضوعة هناك من قبل سلطة ما لتفصل الفراغ الممتد بين منطقتين، لا مميزات لإحدى هاتين المنطقتين عن الأخرى، كأنها أسلاك شائكة تمنع لا أحد من المرور إلى اللامكان، إنها عبثية حضور الأسلاك الشائكة في الصورة أيضاً.
محاولة (4): غياب العنصر البشري: من بين عشرات الصور التي يقدمها جوزيف كوديلكا عن موضوعة الجدار وبيروت الحرب الأهلية، لا يظهر أي عنصر بشري إلا في واحدة منها، تلك التي يقف فيها رجل فلسطيني فوق ركام منزله المهدم، صورة أيقونية لا يمكن تجاوزها حين تناول الموضوعة الفلسطينية بصرياً، تتكرر بشكل أيقوني في الذاكرة وفي التاريخ، صورة المواطن أو المواطنة الفلسطينية في كل مرة يهدم منزلاً في فلسطين، فيقف متفكراً أو متفكرة في قدره أمام عينيه، وفي أغلب الأحيان تحمل معنوياً رمزية الصمود.
عدا عن هذه الصورة لا يحضر العنصر البشري في أي من تصاوير كوديلكا. هذا يضيف على حضور الجدار عبثية، ويزيد من عبثية أفعال الإنسان لأن ليس هناك إلا الفراغ ومساحات الطبيعة التي لا يمكن حجزها. غياب العنصر البشري في صور كوديلكا يحيل إلى ما كتب عنه في بروشور المعرض: ”صور فوتوغرافية لمساحة صنعها الإنسان خالية من البشر“.
محاولة (5): زوايا الكاميرا تحجز المتلقي: تتكرر في فوتوغرافيات كوديلكا، تلك القدرة التقنية على جعل الزاوية التي ينظر منها المتلقي إلى الصورة، زاوية تحجب الرؤية، تقطعها، تبتر منظورها الممتد، وبما أن موضوعة الصورة أساساً هي الحواجز والجدران، فبالإمكان القول أن زوايا عدسة الكاميرا تمارس حجزاً على المتلقي نفسه، وتعزل مشاعر المتلقي إلا عن نتيجة واحدة: “أنا نفسي المشاهد محجوز داخل الكتل الإسمنتية، ومحصور داخل منظور العدسة في الصورة”، هي تجربة تنقلها بعض الصور الفوتوغرافية في معرض كوديلكا للمتلقي.
محاولة (6): حضور الزمن وآثاره: الزمن في الصور الفوتوغرافية الخاصة بالجدار جامد، غير موجود، ذلك جزء من الإيحاء بعبثية وعدمية الجدار الإسمنتي في قلب الطبيعة. لكن الزمن يتم التعامل معه بطريقة مختلفة أمام تلك الصور الفوتوغرافية الخاصة ببيروت الحرب الأهلية. هنا الزمن وآثاره هي الموضوعة الأصلية للصورة، كيف مرت أحداث التاريخ على تفاصيل من المدينة. شجرة وحيدة واقفة ضمن الخراب، صفائح معدنية مخردقة بالرصاص في منتصف شارع مهجور، لقد مر الزمن من هنا بقسوة وفي كل صورة. كُتب في البروشور الخاص بالمعرض: ”تحالف الزمن والجمال الذي يرقى لمقام الموت“.
محاولة (7): تجليات المكان: المكان في سلسلة اللوحات المتعلقة بجدار الفصل العنصري لا يحضر إلا كي يكون مجرداً، مشابهاً لأي مكان حيث العمران والطبيعة يقطعها جدار عنكوبتي التطاول الإسمنتي. إن المكان وإن كان لا يقدم معطى ملموساً إلا إنه الموضوعة الحقيقة في أي قراءة دقيقة لموضوعة الصورة.
في واحدة من الصور المقدمة في المعرض، تبرز مدينة بأبنية عمرانية بيضاء، كتب في كرت التعريف بالصورة في المعرض: ”منشأة تماثل المدينة مخصصة للتدريبات العسكرية الإسرائيلية على حروب المدن“. لا يفعل كوديلكا إلا التقاط صورة من أعلى لكامل الساحة الرئيسية للمدينة ومن خلفها الأبنية الخالية من السكان والمخصص للتدريبات العسكرية. هذا اختيار واضح للمكان ليشكل مضمون الصورة الأساسي وليصبح قابلاً لابتكار التأويلات.
في سلسلة الصور الخاصة ببيروت الحرب الأهلية، يتم التعامل مع المكان بطريقة مغايرة، أفضل ما يمكن الحديث عنه هي تلك المقتطفات من بروشور المعرض التي تناولت الموضوعة: ”أصبحت بيروت في صوره غير منتمية لأحد: إنها جرح. هي ما تبقى بعد مرور البشر. هي الجسد التائه وقد هشمه برج حجري لساعة متوقفة في قعر سلم القيم“، ”كانت النتيجة عملاً مبهراً: حقيقياً وماورائياً، مجرداً وتاريخياً، أقرب ما يكون للغامض لكن بعيداً كل البعد عن الحنين“، ”كان وقت كوديلكا هنا كما في كل مكان آخر – في عمله وحياته – متصلاً بالصمت والتركيز، بلا لهو أو بهرجة. ملتحماً بالآثار غير آبه بالقصص أو الطرائف بل مستجيباً للرؤية“.
محاولة (8): الأسلوبية: حين سُئل كوديلكا عن سبب اعتماده أسلوب الصورة البانورامية في التصوير الفوتوغرافي، اعتبر أن ”صيغة البانوراما متوافقة مع مجال الرؤية البصرية للإنسان، وقادرة على إبراز أفقية المساحة“، أما الناقد الفني جون برغر في كتابه ”طرق الرؤية“ فهو يثبت أن الرؤية لا تتم دون منظور، أو دون أسلوب، وبالتالي دون جمالية. إن الأسلوبية بحسب جون برغر ليست مميزات داخل الصورة، وإنما هي تنطلق قبل ذلك، تنطلق من الرؤية ذاتها. ”الأسلوب هو الإنسان“ يكتب الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير (1821 – 1880)، وتعلمنا مسيرة كوديلكا المهنية أن نضيف إليها مقولة: ”الأسلوب هو الإنسان، والقضية هي مسعاه“.
صور من المعرض… هنا
المزيد عن المعرض وأنشطة دار النمر… هنا