في 2012، أي بعد عام على انطلاق الثورة السورية؛ بدأت تفاصيل معاناة السوريين في تسيير حياتهم اليومية، لا تقلّ كثافة عن كثافة وسرعة الأحداث العسكرية، والمجازر، والاعتقالات؛ التي كانت تتسارع مع كل لحظة، فإذا كنت من سكان دمشق على سبيل المثال، فأنت أمام امتحان طويل في التكيّف مع موجة الغلاء المفاجئة في أسعار المواد الغذائية، والبنزين، والغاز، وعليك أن تشكر الرب على توفرها، لأن بعضها من الممكن أن ينقطع شهور ولا يتوفر في بعض الأحياء والضواحي.
هكذا بات الحد الأدنى، والمؤقت ربما، من الأمان، مع ضيق العيش، وانقطاع الكهرباء، والماء، لساعات طويلة؛ رفاهية. هذا إذا قارناه مع ما يحدث في الجهة الأخرى، أي في ريف دمشق، إذ كان قد بدأ النظام السوري بفرض حصار على الغوطة الشرقية، وداريا، والمعضمية، وكثير من المناطق التي تسوّر مدينة دمشق، أضف إلى ذلك القصف الجوي المتواصل على تلك المناطق.
يلتقط الفيلم الروائي “يوم أضعت ظلي” للمخرجة السورية سؤدد كعدان، ذلك الشرخ الاجتماعي، الذي كان من قبل الثورة؛ ما بين دمشق وريفها، وتعمّق بعدها، وآثاره النفسية على المجتمع. المدينة تعاني شبه احتلال من النظام؛ حواجز أمنية وعسكرية في كل شارع، شريحة كبيرة من المجتمع انهارت اقتصاديًا، وما عاد همها سوى تأمين لقمة العيش. لكن هذه الكوارث ليست سوى جزء من الصراع الذي يدور في المدينة، وريفها المحاصر؛ وهو العيش في خوف دائم من الموت في أي لحظة، والأكثر رعبًا من الموت نفسه، هو الخوف من الاعتقال والموت تحت التعذيب، ليتمثل بشعور هو مزيج من الخوف والهلع والتوجس الدائم؛ في فقدان أبطال الفيلم الثلاثة ظلالهم تباعًا، كلما اقتربوا من الموت، والدخول للمعتقل، أو تجاوزوا الشعور بالخوف؛ بالعيش داخل قضبانه، وتذوق عذاباته.
سناء، بطلة الفيلم، تعيش في مدينة دمشق، وحيدة مع طفلها الذي يبلغ من العمر ثمانية أعوام، لا همّ لها سوى الاعتناء به، وحمايته حتى من الاختلاط بابن الجيران؛ الذي يبدو أن عائلته مراقبة من المخابرات السورية. أما الصيدلية التي تعمل فيها، فقد تعرضت للتفتيش، و”التعفيش”، وتكسير زجاج واجهتها، لأن هناك شاب يعمل فيها مشتبه بمعارضته للنظام السوري.
منذ بداية الفيلم، ندخل في أجواء الحياة اليومية بمدينة دمشق في تلك الفترة، فنرى سناء بصحبة ابنها، يصعدان سلالم العمارة التي تسكن فيها بأقصى سرعة، وعندما يصلا للدور الذي يسكن فيه جيرانها الذين فُرض عليهم رقابة أمنية، يواجهها عسكري موجهًا سلاحه بوجهها، فتؤكد له أنهم من سكان العمارة. وما إن تدخل البيت، حتى تبدأ بسرعة بجمع الملابس المتسخة وإدخالها الغسالة الأتوماتيك، لكن ما إن تبدأ الغسالة بالدوران حتى تنقطع الكهرباء، فتعلق الثياب داخل الغسالة، ولا تستطيع إخراجها.
ستلقى سناء مصيرًا مشابهًا لمصير الثياب العالقة في غسالتها، في الأيام التالية. لكن ليس داخل الغسالة، بل في مدينة دوما المحاصرة بريف دمشق. إذ أنها وأثناء وقوفها في طابور لتبديل أسطوانة الغاز، سيكون أمام مركز تبديل أسطوانات الغاز؛ مجموعة من العساكر التابعة للجيش، التي ستسمح لعدد قليل من أهالي الحي بتبديل أسطوانات الغاز، وستأخذ باقي الاسطوانات الممتلئة لها. عندها ستقابل بالصدفة أمام طابور الانتظار الشابة ريم، التي تزورها دائمًا في الصيدلية لتشتري صبغة للشعر، بصحبة أخيها جلال؛ ليقرر الثلاثة إيقاف تاكسي والذهاب إلى منطقة العدوي لتبديل أسطوانات الغاز.
لكن سائق التاكسي سيفاجأ بحاجز عسكري لم يكن في الحسبان، ليتجاوزه مسرعًا، وتبدأ العساكر الواقفة على الحاجز بإطلاق الرصاص على سيارة التاكسي، ليكتشفوا أن سائق التاكسي معه كاميرا تحتوي على فيديوهات لمظاهرات خرجت ضد النظام. وبسبب عملية الهروب المفاجئة، سيجد الثلاثة أنفسهم داخل بساتين الغوطة الشرقية تائهين.
عندما تدرك سناء أنها باتت في الجهة الأخرى من المدينة، سيشعر المشاهد أن حركة الكاميرا، وأسلوب تصوير المشاهد واللقطات قد تغيّرت؛ إذ نشعر أننا الآن نشاهد باقي الحكاية من الزاوية التي ترى فيها سناء وضعها الجديد، عالقة في المنطقة المحاصرة، بل أيضًا نشعر بمشاعر الخوف التي تنتابها.
تدور الكاميرا، وهي ترتج قليلًا، وكأنها عين تتأمل المكان بذهن مشوش لا يستطيع التركيز، إنها سناء ابنة المدينة التي لم تزر ريف دمشق من قبل. وأول ما تلاحظه، هو غياب ظل جلال، لتكتشف أن جلال كان معتقل مع أخيه مازن في نفس السجن، وشهد موت أخيه تحت التعذيب داخله، وإلى الآن لم يدرك هو كيف نجا، لكن ما اكتشفه بعد حين هو فقدانه لظله.
تقارب كاتبة ومخرجة الفيلم سؤدد كعدان بين ما حدث في مدينتي هيروشيما وناغازاكي في اليابان، عندما قامت الولايات المتحدة بإلقاء قنبلتين نوويتين عليهما في 6 و9 أغسطس/ آب من عام 1945، وبين ما يحدث في سوريا، وباستخدامها فقدان الناس لظلهم كـثيمة لعملية فقدان الناس لظلالهم بعد تعرضهم لعذابات أشد من الموت نفسه. هذا ما نسمعه على لسان جلال عندما يحكي لسناء أنه بعد إلقاء القنبلة على هيروشيما، في اليوم التالي، لم يبقى من الناس في المدينة سوى خيالاتهم، لكن العكس يحدث في سوريا؛ هنا الناس تفقد خيالاتها، أو ظلالها.
وكأن فقدان الشخص لظله، هو إشارة لانتهاك كرامة الجسد والروح، أو انتهاء لصلاحية الحياة قبل أن يأتي الموت.
يضعنا الفيلم أمام ثلاث شخصيات، كل شخصية مختلفة عن الأخرى، وكل شخصية تتعاطى مع ما يحدث في البلد، بعد مضي عام على بداية الثورة، من مأزقها الإنساني، انطلاقًا من خسارتها، أو من خوفها؛ سناء غير مشغولة بالثورة السورية، أو باتخاذها موقف سياسي مما يجري، لكنها متعاطفة بداخلها مع جيرانها التي تعلم موقفهم من النظام، ومتعاطفة مع زميلها في الصيدلية، لكنها في الوقت ذاته، ليست مستعدة بالانخراط بكل ما يجري خوفًا على طفلها. أما جلال الذي اعتقله النظام ثلاث مرات، وعذبه، وقتل أخيه، فهو الأكثر تعاطفًا مع الناس المحاصرة في ريف دمشق، والأكثر ثورية. أما أخته ريم، التي كانت أيضًا لديها تجربة اعتقال سابقة، ستظل طوال الوقت خائفة على أخيها، لكي تخسره كما خسرت أخيها مازن، رغم موقفها الواضح ضد النظام، إلا أنها لا تريد أن تخسر المزيد.
في مدينة دوما في ريف دمشق، لم يتناول أو يصور الفيلم الفصائل العسكرية الإسلامية التي كانت تقاتل النظام، بل وجّه تركيزه على الحياة اليومية للعائلات المحاصرة في المنطقة، فالشاب الذي تستنجد به سناء ليوصلها بشاحنته إلى دمشق، يستضيفها هي وريم -بعد اختفاء جلال- في بيتهم، واليوم الذي تستضيفهم العائلة فيه يكون يوم الجمعة، وهو يوم خروج المظاهرات، فنرى كيف أنه بالتزامن مع ذهاب الرجال للمشاركة بالمظاهرات، تقضي النساء وقتها بحفر قبور جديدة، للشهداء المحتملين، القادمين من المظاهرات.
سيعيد الشاب الدوماني سناء، أخيرًا، من دوما إلى بيتها في دمشق، ورغم أنها فعليًا لم تكن تقصد الذهاب، وزيارة منطقة محاصرة ومغضوب عليها من قبل النظام، إلا أنها لن تنجو، ستكون على موعد مع فقدانها لظلها!