أجرت المقابلة ميكي تشيو لمجلة ذا باريس ريفيو.
تصدّر اسم سفيتلانا أليكسييفيتش مهرجان لويزيانا للأدب لعام 2017، حيث التقى الكتّاب والقرّاء والناشرون الاسكندنافيون على بعد خمسة أميال شمال كوبنهاغن، في متحف لويزيانا للفن المعاصر. أُجريت الفعالية باللغتين الدانماركية والروسية. وعلى تلة مطلة على بحر البلطيق، تسابقت عيون الجمهور لتسترق النظر إلى الكاتبة الحائزة على جائزة نوبل للأدب عام 2015. تحدثت أليكسييفيتش عن سنوات الاتحاد السوفيتي العاصفة والمُحرّمة، وعن واجبها في تحرير الناس من خلال الكتب، كما تحدثت عن تشريعات الذاكرة. قاومت السؤال عن تطور أسلوبها الأدبي، فقالت: “هل عليّ شرح كلّ شيء؟”. قبل أن تؤكد لجمهورها أن النساء أكثر إثارة للاهتمام من الرجال.
ترددتُ على تحضيرات المهرجان لعدة أيام في انتظار موعد مقابلتنا. في تلك الأثناء، صدف أنني شاهدتها تأكل، وتضحك، وتتبادل أطراف الحديث مع مجموعة من الأصدقاء، كلهم من السويد حيث عاشت في المنفى أعواماً. عادت إلى بلادها، روسيا البيضاء، مؤخراً رغم أنها لا زالت تحت التهديد. تخبر جمهور المهرجان: “عندما أتجوّل مع كلبي في مينسك، أمرّ بكنيسة، فأرى شباباً بسياراتهم الجديدة. يخرج الكاهن ليراهم، فهم يريدون أن تحلّ البركة على سياراتهم.” هكذا تُفضّل إجابة الأسئلة: بسرد التفاصيل.
خلال حديثنا، رافقتنا مترجمتها الدانماركية تينا روسن. وبعد أربعين دقيقة، لاحظتُ أن أليكسييفيتش قد اكتَفت من الحديث. كان المطر قد بدأ في الانهمار خارج الفندق الذي أقامَت فيه، فلفّت شالاً حول رأسها وربطته تحت ذقنها. تقدمَت نحوي وصافحتني بحزم.
في نيويورك بعد ذلك بأسابيع، قرأتُ مذكرة كانت اقترحتْ فيها المترجمة المطّلعة على جدول أعمال أليكسييفيتش، أن ننهي المقابلة أبكر مما فعلنا، لكن أليكسييفيتش رفضتْ ذلك، وبدأتْ بطرح الأسئلة عليّ.
في كتابكِ الأول “ليس للحرب وجه أنثوي” قلتِ أنك تسمعين القصص في كل مكان. كيف بدأتِ بإجراء المقابلات مع الناس؟
ولدتُ في مدينة كبيرة، ايفانو- فرانكيفسك في أوكرانيا، ولكن والدي نقلنا في طفولتي إلى مينسك، في روسيا البيضاء. عشنا في قرية سلافية. في المساء كان الناس يتحدثون بينما يجلسون على المقاعد، في حين كنا نحن الأطفال نستمع إليهم. كان هذا بعد الحرب، فكنّ كلهنّ من النساء. كان لهذا وقعاً كبيراً عليّ، أكبر بكثير مما أثرت فيّ الكتب التي ملأت منزلنا. ففي الكتب، صوّرَتْ الحكومة السوفيتية الحربَ نصراً. صورتها شيئاً جميلاً لا شقاء فيه. لا أعتقد أن أياً من الكتب ذكرتْ مقتل أكثر من شخصين. في حين روَت النساء قصصاً مخيفة ومختلفة. كنّ يتحدثن عن الموت، وعن الحبّ أيضاً. وهذا بالطبع ترك أثراً في ذاكرتي كطفلة.
كيف سُمح لكِ بنشر كتبكِ التي غيّرت الماضي؟
كان ذلك زمناً مختلفاً. لن أقول أنه كان سهلاً، فلم يفهم أحد السبب الذي جعلني أزورُ مصنعاً مثلاً، أو أن أختار مقابلة النساء دون الرجال. فقد كان الزمن مختلفاً. لم يكن بوسعي نشر شيء لمدة ثلاث سنوات. بعدها تغير الواقع بسبب برامج وسياسات الإصلاح والانفتاح الجديدة “بيريسترويكا” و “غلاسنوست”. فمع أني مُنعتُ من نشر كتابي “ليس للحرب وجه أنثوي” لمدة ثلاث سنوات، فقد تغير هذا لاحقاً. كان يتم تناقل النصّ عبر أرجاء موسكو، حتى قدّم أحدهم نسخة لأحد مساعدي غورباتشوف. في بيان لغورباتشوف بمناسبة عيد النصر، قال: “للحرب وجه غير نسائي”. كانت تلك إشارة واضحة. فقبل ذلك، قال أحد مراقبي المطبوعات: “يا له من كتاب مخيف! أفكار المذاهب الطبيعية والسلميّة المناهضة للعنف. من سيتوجه إلى الحرب بعد هذا الكتاب؟”
ما زلتُ أفكر في إحدى فقرات كتابكِ “ليس للحرب وجه أنثوي” منذ قرأتُها، عندما تنقذ امرأة رجلاً من الغرق، فتسحبه إلى الشاطئ لتكتشف أنها لم تنقذ جندياً كما كانت تظنّ، بل سمكة هائلة فقط، سرعان ما تموت.
سمكة، نعم! الأسماك في تلك المنطقة ضخمة. حدث ذلك في الليل، وكان الجميع عراة. استخدمتْ تلك المرأة الشتائم كما لم تفعل من قبل.
هل كانت هذه إحدى الفقرات التي حذفها مراقبو المطبوعات؟
نعم. على ما يبدو كان عليّ ذكر موقف يتسم بالشّجاعة. “ما هذا؟ أين الأفعال الشّجاعة؟ ليس هذا ما يجب عليكِ طرحه.” بل عليكِ أن تتحدثي عن الملابس التي ارتدينها. المخاوف التي عشنها، كيف أنهنّ كنّ يرغبنَ في التمدد بين الزهور، وأن يتسنّى لهنّ الموت بطريقة جميلة، إن صحّ التعبير. “ما هذه الأشياء الصبيانية؟”. يمكن للمرء أن يرثي الحرب حين يكتبُ عنها، ولكن بفخر وطني. كان هذا القانون. القانون الذكوريّ المسموح به من قِبل الدولة. كنتُ أتجوّل باحثةً عمّا أريدُ معرفته. كنتُ المرأة الشابّة التي تحاور نساءً مسنّات. كنّا نتحدثُ عن الحياة وعن الموت. سألتُ امرأة قاتلتْ في الحرب: “ماذا حملتِ معكِ إلى الحرب؟” أجابتْ: “كنت قد حصلتُ للتوّ على راتبي، فاشتريتُ حقيبة سفر ملأتُها بالحلوى.” هل تذكرين هذا؟ امرأة أخرى حرصتْ على أخذ أفضل ما لديها من أحذية الكعب العالي، قبل أن يأخذها منها الضابط المسؤول. لم يُمنحن ملابس نسائية، ولا حتى الثياب الداخلية. كان كل شيء مصنوعاً للرجال، وبأحجام كبيرة جداً.
قرأتُ في إحدى تفاصيل الحرب العالمية الثانية عن شحنة أحمر شفاه أُرسلتْ بالخطأ إلى نساء كان قد أُطلق للتوّ سراحهنّ من المعسكرات والمستشفيات. بالرغم من حاجتهنّ الماسّة إلى الإمدادات الطبية، كان ذلك حدثاً عبقرياً، فقد أعاد إليهنّ إنسانيتهنّ.
صحيح. كنساء سوفيتيات يروي الكتابُ كيف كنّ يذهبنَ إلى البيوت الألمانية التي هجرَها أصحابُها، يرتدين الفساتين الجميلة، حتى ولو لليلة واحدة فقط. كنّ ينمنَ فيهنّ. وفي الصباح، يعٌدنَ إلى ارتداء البناطيل والمعاطف. طالت الحرب كثيراً.
لقد بدأتِ أسلوبكِ الخاص. لكن إحدى الشخصيات في “ليس للحرب وجه أنثوي” تتمنى لو كان هناك ألف شخص مثلكِ: يستمعون، يسّجلون، ويكتبون. هل تتفقين مع ذلك؟
في موضوع الحرب، المعسكرات، أو سقوط امبراطورية ما، يمكن للمئات من الكتّاب أن يعملوا دون أن تتقاطع طرقهم. ولكن لا أستطيع القول أنني اخترعت هذا الأسلوب. فقد وُجد هذا النوع من الأدب لزمن طويل في روسيا. ففي الحرب العالمية الأولى، جَمعتْ صوفيا فيدورشينكو القصص. كانت ممرضة دوّنت الكثير من حوارات الجنود. كما ألّف أليس أداموفيتش، معلّمي والكاتب من روسيا البيضاء، بمشاركة الكاتبة الروسية دانييل غرانين كتاباً عن حصار لينينغراد. ما زالت لي نظرتي المختلفة. فمِن كل الأصوات المتناثرة أرغبُ في نسج رواية. كتبَ كثيرون التاريخ الشفهي عشوائياً. مثل الأمريكي ستادز تيركيل، فقد كان مدوّناً. هنالك الكثير من مدوني التاريخ الشفهي في أمريكا، ولكن كُتبي تلتزم بقواعد كتابة الرواية: لديّ بداية، وحبكة، وشخصيات.
في أعمالكِ الأولى “ليس للحرب وجه أنثوي”، و”فتيان الزنك”، يبدو صوتكِ حاضراً. ولكن في “زمن مستعمل”، يغيب صوتكِ تماماً.
أعتقد أن تعليق الكاتب هو أكثر ما لا يمكن الوثوق به في كتاب كهذا. سأعطيكِ مثالاً: كتبتْ أداموفيتش وغرانين كتاباً عن الحصار. في هذا الكتاب قصة تأسِر القلوب عن فتى يعيش في شقة مشتركة، تسكن بجانبه بائعة هوى تعيش وتأكل على نحو لا بأس به، في حين يتضوّر باقي سكان الشقة جوعاً، فتموت جدّته وأمه وأخته الصغيرة. يكتب أنه ذات مرّة كان يمشي عبر الشّقة ويشمّ رائحة الطعام العادي، فرأى قطعة من اللحم تركتها تلك المرأة. أيأخذها أم لأ؟ كان كُرهه الشديد لها ولأسلوب حياتها سبباً في صراع طويل مع نفسه، ينتهى بأنه لم يأخذ قطعة اللحم، فيموت هو أيضاً، ولا يتبقى شيءٌ سوى كرّاس ملاحظات. لا أسمح بهذا، فأخبر نفسي: “لا تقتربي من قطعة اللحم، فلن تكتبي أيّ شيء شبيه بها.”
تذكرُ كل شخصيات “زمن مستعمل” تقريباً شرائح اللحم “السلامي”. يبدو أنها شديدة الارتباط بالرأسمالية وكأنها رمز لسياسات الانفتاح.
(تضحك) بالإضافة إلى بناطيل الجينز! نعم، السجق، والجينز، وستالين. التيارات الثلاثة التي أثّرت في كل شيء. لديّ سؤال لك. علمتُ أن كتابي “ليس للحرب وجه أنثوي” يُقرأ على نطاق واسع في الولايات المتحدة الآن. لماذا برأيك؟ لماذا هذا الاهتمام به في أمريكا؟
ربما بسبب ترامب. خرجَتْ الكثير من النساء في مظاهرات ضده في واشنطن عندما تم انتخابه. فربما تمنح القراءة عن النساء شعوراً جيداً.
ليرَوا ما يمكن للمرأة القيام به. ولماذا يهتم جيل الشباب؟
أعتقد أنهم خائفون من أن يتسبب ترامب بحرب.
نعم، والرّوس من خلفه. كيف انتخبتم ترامب؟