نُشرت في مجلة “four by three” في ديسمبر 2016
هل السينما مشبعة بالمقاصد الخااطئة؟ تحدث المخرج والمؤلف والناشط الحقوقي الإيراني محسن مخملباف إلى “four by three” عن غرض السينما، وكيف ترتبط بالفن والسياسة والفلسفة، أثناء سرده لتعاونه مع عباس كيارستمي في “Close-Up” والرقابة المتواصلة التي يخضع لها.
لقد بدأت كتابة القصة حين كنت سجينًا سياسيًا، واتجهت إلى صناعة الأفلام عقب إطلاق سراحك. ما الذي أسرك في السينما؟
في طفولتي، تأثرًا بوالدتي، لم أذهب إلى السينما، لأن جدتي كانت متدينة جدًا وأصرت على أننا إن ذهبنا إلى السينما سيرسلنا الإله إلى الجحيم. كان هذا هو السبب الأساسي لعدم ذهابي إلى السينما قط حين كنت صغيرًا. لكن بعد إطلاق سراحي من السجن السياسي، أتيحت لي الفرصة فجأة لأشاهد الأفلام، وهو ما أثر في كثيرًا، كأعمى رُفعت عنه غشاوته، وبإمكانه أن يرى الألوان والمعجزة فيها لأول مرة. قبل دخولي السجن، كنت قد شاهدت فيلمين، لكن بعد الثورة حين كان عمري 22 عامًا واكتشفت السينما بشكل لائق وأدركت أنها أكثر وسيلة فعالة لأحكي قصتي وأخاطب المجتمع. في الوقت ذاته، أيضًا، كنت أكتب الروايات والقصص القصيرة والمقالات. ولكن شيئًا فشيئًا أصبحت منخرطًا في السينمًا أكثر فأكثر. الأدب هو شكل واحد فقط للفن، لكن السينما هي مزيج من صنوف مختلفة من الفنون، كالموسيقى والمسرح والتمثيل والتصوير السينمائي والتصوير الفوتوغرافي والديكور المسرحي والتصميم الصوتي.
70 فيلمًا بارزًا تم إنتاجها في إيران قبل الثورة، لكن حين وصلت هوليوود بعد الثورة، ماتت السينما الإيرانية على الفور. خلال الثورة، هاجم الإيرانيون حتى دور السينما. باستثناء القليل من الأفلام الفنية، كأفلام أندري تاركوفسكي أو بعض أفلام الموجة الفرنسية الجديدة وأفلام الواقعية الإيطالية الجديدة، لم يكن لدينا سينما. اعتقدت أننا في حاجة إلى السينما الإيرانية أيضًا والتي بغض النظر عن الأسلوب بإمكانها أن تكون وسيلة يمكنك من خلالها أن تعالج القضايا الإجتماعية وأن تخاطب المجتمع لا فردًا فردًا، كما في الأدب، ولكن على نطاق واسع. لهذا قررت أن أكون مخرجًا.
تتسم بعض أفلامك بعناصر سيرة ذاتية، كما في “A Moment of Innocence” و “Boycott” والتي يمكن أن تُرى كمحادثة تقوم بها مع ذاتك الأصغر سنًا. رغم أنه لا يمكن اختزال هذه الأفلام إلى قراءة في السيرة الذاتية، كنت أتساءل كيف ترى حياتك الخاصة في ضوء الأفلام التي صنعتها؟
صنعت حوالي 30 فيلمًا بأساليب مختلفة ومواضيع مختلفة وفي عشر بلدان مختلفة. أنت محق، في القليل من أفلامي، اقطتعت أجزاء من حياتي واستخدمتها كنقطة انطلاق لفني. أحدها كان “A Moment of Innocence” الذي كان شبه روائي والذي استخدمته لإيصال نصيحتي إلى المجتمع. لكنني أيضًا انتقدت ذاتي الأصغر سنًا بطريقة رمزية، حتى أنتقد ثورتنا، حيث كان من المستحيل تقريبًا أن أنتقد الثورة بطريقة مباشرة. حاولت أن أتجاوز قصتي الشخصية، كي أشير إلى مشكلة هيكلية أكبر، كالعنف الملازم للثورة وأن أعرض نسخة غير عنيفة منها.
إلى جانب أن السينما هي جزء كبير من حياتي، لاسيما أن كل عائلتي تصنع الأفلام أيضًا. السينما جزء من حياتنا كل يوم. حين يكون كل فرد في عائلتك يعمل بالسينما، لا يمكنك أن تملك حياةً خارجها. إن نفسي في الحقيقة مقسمة إلى ثلاثة عناصر: السياسة والسينما والأدب. تجتمع كل تلك العناصر معًا في رأسي.
لقد خصصت الثلاثية المكونة من “Once Upon A Time, Cinema, The Actor & Hello Cinema” للسينما والمجتمع. ما الذي حفز الثلاثية وكل فيلم؟
في ثلاثيتي السينمائية، يركز “Hello Cinema” على المشاهد. رغم ذلك فإن الطبقة الأولى سينمائية والطبقة الثانية سياسية. حين صنعت هذا الفيلم، كان التليفزيون الإيراني مليئًا بالأكاذيب، حيث لم يكن تقديم الشعب الإيراني حقيقيًا. لذا فإن “Hello Cinema” كالعملية الجراحية. أستخدم سكين السينما وأوجهه إلى المجتمع، حتى يروا أنفسهم بأنفسهم. أردت أن أريهم من هم، حتى لا يضطروا إلى تصديق النسخة التليفزيونية عنهم. خلال هذا الوقت، كان يتم تصوير الإيرانيين كدائمي الصلاة إلى الإله وكأشخاص عنيفين. رغم أنهم في الحقيقة كانوا يغنون ويرقصون ويشربون في منازلهم ويحلمون بأن يصبحوا أحرارًا.
إذا نظرت إلى الفتاتين الصغيرتين في “Hello Cinema” إنهما فقط قويتين. وهما مثال عظيم للمرأة الإيرانية تحت الضغط. إنهما صارمتين تجاه حقهم في التكلم بحرية. إلا أنه كان من الممنوع في السينما الإيرانية إظهار الحياة الحقيقية للناس في التلفاز أو في السينما أو الصحف. لذا فإن “Hello Cinema” هو عن حب السينما في إيران وأيضًا، الحياة الإجتماعية للشعب الإيراني الحقيقي.
في “The Actor” أتحدث عن الفنان ووضعه. لدينا ممثل يريد التمثيل في فيلم إبداعي، لكن حالته الإجتماعية تجبره على التمثيل في فيلم سيّئ لا يحبه. أتحدث أيضًا في “A Moment of Innocence” عن جدلية الفن والسياسة، وأيضًا عن دور المخرج.
ما وظيفة أو دور السينما بالنسبة لك بشكل عام؟
أعتقد أن للسينما القدرة على تغيير المجتمع، خصوصًا في دولة كإيران. قتل الإنترنت السينما بلا شك، حيث لم يعد يبق ما يكفي من المشاهدين، بينما في إيران لازال لديك الكثير من الأشخاص الذين يذهبون إلى السينما كل يوم. أحد الأسباب أن السينما كانت محظورة في إيران والناس ينجذبون إلى أي شيء محظور. سبب آخر هو حب الإيرانيين للفنون. نحن لسنا ذو توجه علمي وتقني كالدول الغربية، حيث أننا مرتبطون أكثر بالشعراء والفلاسفة.
أعتقد أيضًا أنك حين تنظر إلى المرآة في الصباح، تريد أن ترى إن كان كل شيء على ما يرام قبل أن تغادر المنزل. السينما كالمرآة التي تسمح لنا وتشجعنا على أن نشاهد أنفسنا وقصصنا عبر الأشخاص في الفيلم. ومن ثم فإن السينما هي وسيلة عظيمة لتُريَ الناس أنفسهم، لتصحح شيئًا في وجوههم ومظهرهم. إن صنعت فيلمًا عن العنف، ربما يجد أحدهم خصاله في الفيلم ويصحح سلوكه لاحقًا. لذا أستخدم صورة صادقة للسينما كالمرآة، لا لعرض الحقيقة فقط، وإنما للتغيير لإحداث التغيير في الفرد والمجتمع بوجه عام.
في هذا الصدد، ما هو دور المخرج أو الفنان بالنسبة لك؟ هل ترى بأن عليه/عليها تحمل المسؤولية؟
بالتأكيد! أنا لا أحب أو أفهم الفن لغرض الفن فقط. ما معنى ذلك؟ نحن لازلنا نعيش في أزمنة الحرب. يعيش الملايين من الناس تحت الضغط ويضطرون لالتماس اللجوء كل عام. في كل يوم لا يخسر الناس وظائفهم فقط، بل آمالهم أيضًا. في ظل تلك الحالة كيف يمكننا القول أن هذا ليس شاغلنا وأننا يجب فقط أن نصنع فيلمًا لغرض الفن أو لنجني أموالًا أو شهرة؟ السينما أداة. السينما كالسلاح. في حين أن السلاح بإمكانه فقط إطلاق رصاصة واحدة في المرة الواحدة على شخص واحد، بإمكان السينما أن تطلق 24 كادر في الثانية على الجهل، كي تجلب المعرفة للفرد والمجتمع. بالنسبة إلي فإن السينما هي حب الفن، هي إبداع ومسؤولية تجاه المجتمع والبشر أجمعين.
على سبيل المثال انظر إلى الحرب في سوريا: في الأربع إلى خمس سنوات المنصرمة قُتل نصف مليون سوري وأصبح نصف الشعب لاجئًا. ليس هناك أي أمن داخل وحول المنطقة. كم فيلمًا قد تمت صناعته عن هذا؟ كم فيلمًا حاول إيجاد حل؟ إنها ليست مشكلة ساسة فقط، إنها مشكلتنا أيضًا. السينما أداة هامة لعرض شيء أكثر واقعية وأكثر صدقًا، لأجل تغيير أوضاعنا.
لدينا العديد من قنوات البث التليفزيوني والتي، كما تتضمن الكلمة، تبث شيئًا عن طريق اختيار شيء لفترة ثم ينسون أمره. على سبيل المثال، ركزوا على أفغانستان لشهور قليلة ثم قرروا أنها ليست عصرية كفاية بعد الآن ثم ركزوا على دولة أو قضية أخرى، والتي كانت أكثر عصرية وقتها. لكن أفغانستان لازال لديها العديد من المشاكل. السينما بإمكانها أن تريك شيئًا خفيًا أو شيئًا أصبح طي النسيان. عام 1999، حين صنعت “Kandahar”، لم يكن أحد يتكلم عن أفغانستان. كان العالم قد نسي أمر أفغانستان. لقد رأيت 20000 شخصًا يموتون هناك في أسبوع واحد حين كنا هناك في السر لاستكشاف الوضع. كنت مصدومًا للغاية، لكن لم يُعرض الأمر حتى في الأخبار. كان الناس يموتون بسبب الجوع. لكن التلفاز وقنوات الأخبار الأخرى كانت تركز على شيء مثل مايكل جاكسون أو شيء آخر في غاية البساطة. للسينما القدرة على عرض شيء غائب أو شيء قد نسيناه. ليس للأخبار منظور إنساني حيث أنهم قاموا بتصفيته خلال منظور قومي. لكن حين تذهب هناك وتنظر بعمق يتبين أن المعنى والحقيقة شيء آخر. نحتاج أن نستخدم السينما كوسيلة لشيء أفضل من السينما. لن يموت البشر لأجل السينما، ولكن أعتقد أن السينما بإمكانها الموت لأجل البشرية. أستطيع أن أرى جيل الشباب يبحثون عن الشهرة، لكن هذا ليس الغرض من السينما.
أنت أيضًا ناشط حقوقي وقد مُنحت العديد من الجوائز. حتى أن فيلمك الوثائقي “Afghan Alphapet” على سبيل المثال، غيّر القانون وكان له أثر إجتماعي حقيقي على حياة آلاف الأطفال الأفعان اللاجئيين في إيران. كيف ترى العلاقة بين السياسة والسينما؟ هل هناك فرق لديك بين المجال الفني والمجال السياسي؟
أصنع أفلامًا متنوعة. على سبيل المثال “Gabbeh” أو “Silence” هما بأسلوب فني بدرجة أكبر وصحيح أن تلك الأفلام بها طبقة سياسية أيضًا. لكني أيضًا قد صنعت أفلامًا فلسفية أكثر منها سياسية، مثل “Sex & Philosophy” والذي يتناول بدرجة أكبر العلاقات الإنسانية بشكل عام والجنسية بشكل خاص. كنت مهتمًا باستكشاف كيف يستخدم البشر بعضهم البعض كأغراض لأجل الإحتياجات والرغبات الجنسية، بينما ينتهي بهم الأمر بالوحدة.
إذا نظرت إلى كل الأفلام التي صنعتها، سترى صلة بين السينما والفلسفة، السينما والفن، السينما والمجتمع، السينما والسياسة. حين يكون الوضع السياسي ملحًا وسيئًا، تصبح أفلامي بشكل تلقائي سياسية أكثر. لكن حين يكون الوضع السياسي مرتخيًا بدرجة أكبر بقليل، أفكر في البشر ووجودهم.
هل ترى أن هناك صلة طبيعية بين الفلسفة والسينما؟
ما هي السينما؟ السينما هي شيء قد ابتكره البشر ويإمكان البشر أن يروا أنفسهم خلال هذا الشيء المُبتكر. كل ما يتعلق بالبشر والسينما يمثل الحياة. هذا هو السبب في أن لدينا أشكال مختلفة من السينما. لكن في كل فيلم سوف ترى جزءاً من الروح البشرية.
الفلسفة ليست قاصرة على الأكادميين وطلابهم في الجامعات. إنها جزء من حيواتنا – لكل شخص منا. إنها ترتبط بالطريقة التي ننظر بها إلى حياتنا، الطريقة التي نتساءل بها عن حياتنا، الطريقة التي نتفاعل بها مع العالم والطريقة التي نسأل بها ‘لماذا’، إذ أن كل ‘لماذا’ ترجع إلى الفلسفة.
تركز الأفلام بشكل كبير على الجمال، كما من خلال التأطير والتصميم الصوتي وتحضير موقع التصوير إلخ. يرجع معنى الفن بشكل عام أيضًا إلى الفلسفة. لا أعتقد أن هناك فارقًا بين المجال السياسي والفني. حتى الأفلام التي لا تحاول قول أي شيء سياسي على الإطلاق لاتزال سياسية على نحو ما، أحيانًا بسبب غياب السياسة أو رغبتهم في إخفاء السياسة.
في وقت سابق من هذا العام خسرت السينما والمجتمع المخرج الإيراني العظيم عباس كيارستمي. لست فقط تشاركه أوجه تشابه سينمائية محددة، لكنك كنت أيضًا جزءاً من فيلم كيارستمي “Close-Up”، قصة محاكمة واقعية لرجل انتحل شخصيتك. كيف نشأ هذا التعاون؟
في الحقيقة قد جاء موت كيارستمي كصدمة للعديد من الناس في إيران وحول العالم، لأن الأمر حدث بشكل مفاجيء جدًا. على الرغم من أنه كان كبيرًا في السن، كان لايزال شابًا وكان يتحدث دائمًا عن الحياة. كان لايزال هذا الشخص الشاب ثم فجأة اختفى من هذا العالم.
كنت أنا وكيارستمي وأمير نادري الثلاثة أشخاص الذين بدأووا الموجة الجديدة في السينما الإيرانية. كيارستمي عبر أفلام مثل ” Where Is The Friend’s House?” وأنا عبر أفلامي مثل “The Peddler” و “The Cyclist”. نحن بدأنا الموجة الإيرانية الجديدة عبر تلك الأفلام الثلاث. أردنا أن نكون شاعريين وصادقيين وأن نحاول عرض الواقع كما هو. بالطبع كان لدينا تشابهات حيث حاولنا أن نخلق موجة محددة في إيران. لكن أيضًا كان لكل واحد منا خصائصه المميزة، والتي تختلف عن الآخرين.
كان كيارستمي فنانًا بطريقة شاعرية، والذي ركز بشكل أقل على الجوانب السياسية والاجتماعية. في هذا الصدد، كان متحفظًا قليلًا، حيث امتنع عن التدخل في السياسة. لكن، أنا، على الجانب الآخر، كنت منحدرًا من خلفية سياسية وكانت لدي مشاكل مع الوضع السياسي الراهن وأردت تغيير شيء في المجال السياسي والإجتماعي. رغم أننا اختلفنا، وحدّنا تركيزنا على الواقعية والتناول الشاعري للسينما.
بالنسبة ل “Close-Up”، كنت في الحقيقة مشهورًا في إيران، لكن لم يعرف أحد كيف أبدو، ولم تُنشر صورتي، وهو ما سمح لي بمراقبة المجتمع بحرية أكبر. لكن بعدها علمت بأمر هذا الرجل الذي يدّعي أنه أنا. حسين سابزيان كان يشبهني قليلًا، ليس بدرجة كبيرة، لكن بدرجة بسيطة أو بما يكفي لا ليخدع الناس بالضرورة، ولكن ليحقق أحلامه. لم يكن سابزيان مثقفًا في الحقيقة، لكنه كان عاملًا بسيطًا ومحبًا حقيقيًا للسينما. في أحد الأيام هاتفني شخص ليوضح أن سابزيان ادّعى أنه أنا. حاولت أن أحول دون نشر الصحف لهذه القصة، كي أحفظ ماء وجهه. في نفس اليوم، اجتمعت بكيارستمي وأخبرته بشأن هذه القصة. قرر على الفور أن يصنع فيلمًا عن هذا. سألني إن كنت أريد أن أصنع فيلمًا عن هذا وحيث أنني لم أكن مهتمًا بهذا، وحيث أنني فقط شعرت بالأسى تجاه هذا الرجل، سألني كيارستمي إن كنت قد أساعده ليصنع هذا الفيلم. بدأنا العمل على الفور، ذهبنا إلى السجن لنجد هذا الرجل وكل ما تلى ذلك هو في الفيلم. وهكذا فإن كل شيء تراه حدث بنفس الطريقة في الواقع. ماعدا الأجزاء التي أعاد كيارستمي إنتاجها، لأن سابزيان كان لايزال في السجن. وهكذا فإن كيارستمي صوّر مشاهد السجن والمحكمة في البداية وبمجرد أن تم الإفراج عن سابزيان، أعاد إنتاج الجزء الذي وقع قبل أن يقضي فترة السجن.
أحب “Close-Up” كثيرًا، حيث أنه كنوع من إعادة “Bicycle Thief” مرة أخرى. هذا الفيلم يعرض شخصًا يقوم بفعل شيء خاطئ، لكنك بعد ذلك تكتشف السبب وراء هذا الفعل ‘الخاطئ’، كي تفهم الوضع. بالتأكيد قد سرق دراجة، لكننا بعد ذلك نتعمق ونفهم أن هذا الرجل ليس سيئًا، ولكن وضع بلده سيّئ.
لقد غادرت إيران في 2005 ولازال العديد من أفلامك محظور هناك. فقط في وقت سابق من هذا العام تم إنقاذ “The Nights of Zayandeh-rood”، والذي قد تم حظره عن طريق الحكومة الإيرانية، من إيران وتم عرضه على الشاشة كعرض افتتاح لكلاسيكيات فينيسيا 2016. ما علاقتك بوطنك؟ وماذا يعني لك ولممارساتك الفنية أن تعيش في منفى؟
“The Nights of Zayandeh-rood” هو فيلم صنعته منذ أكثر من 26 عاماً. في إيران تذهب الأفلام إلى المهرجانات السينمائية أولًا قبل أن يتم عرضها في أي مكان آخر. خلال تلك العملية قامت السلطات بقطع 25 دقيقة من ال 100 دقيقة الوقت الأصلي للعرض، حتى يتم عرضه في المهرجان. لم أرد لتلك النسخة، التي كانت ثُلث النسخة الأصلية وقُطعت لأجزاء، أن يتم عرضها في المهرجان، ولكنهم قاموا بعرضها على أية حال. حين كان يتم عرض الفيلم كان لدينا أناس يصطفون لأيام وليال لعدة كيلومترات، كي يشاهدوا هذا الفيلم. هاجمت الحكومة والصحف الفيلم مرة أخرى وقامت لجنة الرقابة بقطع أجزاء أكثر. عند تلك النقطة كان قد اختفى ثُلث الفيلم، بما فيه النسخة السالبة، وبعد ذلك قاموا بحظر الفيلم كاملًا، لذا لم يتم إطلاقه في إيران أو على صعيد دولي.
بمساعدة أحد الأصدقاء تمكنا من سرقة الفيلم من هيئة محفوظات الرقابة هذا العام. أرسلنا الفيلم بعد 26 عامًا إلى مهرجانات سينمائية عديدة، بما فيها فينيسيا. كان من المفترض أن يُعرض الفيلم في مهرجان بيروت السينمائي أيضًا. لكن، هاتفنا المخرج من مهرجان بيروت السينمائي ليبلغنا أن السفارة الإيرانية اتصلت بهم لتخبرهم ألا يعرضوا الفيلم. بعد ذلك ضغطت الحكومة الإيرانية على الحكومة اللبنانية وفي النهاية كان الفيلم خاضعًا للرقابة مرة أخرى في لبنان. بعد 26 عامًا لازالت إيران منشغلة بإخضاع هذا الفيلم للرقابة! كانت الصحافة اللبنانية ممتلئة بهذه القصة. لاتزال الحكومة الإيرانية خائفة من هذا الفيلم. ولكن مم يخافون؟ من 500 شخصًا يشاهدون فيلمًا قديمًا في مهرجان؟ حسنًا، هذا هو الأسلوب الإيراني. بعد أن كنا نتشاجر معهم لأسبوع وقام مهرجان سينمائي آخر بدعمنا، مثل مسؤول فينيسيا، قرر مهرجان بيروت السينمائي أن يعرض الفيلم.
حتى بعد 26 عامًا، تحاول الحكومة الإيرانية منع أعمالي من الظهور. ليسوا فقط يحاولون إيقاف أعمالي، ولكنهم حتى تمادوّا إلى درجة محاولة قتلي. مرة حين كنا في أفغانستان الشمالية قاموا بتفجير قنبلة يدوية في موقع تصويرنا. أصيب أكثر من 20 شخصًا. مات أحدهم بعد شهرين في المشفى. حاولوا مرة تسميمي حين أقمت في نُزل في أفغانستان. أيضًا، منذ خمس سنوات حين كنت في فرنسا وجاء شرطيّان إلى منزلنا وقدموا إليّ حارسًا شخصيًا لحمايتي، حيث كانوا قد تلقوا رسائل بأن الحكومة الإيرانية كانت تخطط لقتلي. هذه ليست مجرد رقابة. أبلغتني الشرطة أني لم أكن قادرًا على السفر للعديد من الدول، ليست إيران فقط، لكن كل الدول المجاورة أيضًا. ليس مسموحًا لي الطيران فوق إيران أيضًا، حيث يمكنهم إسقاط الطائرة كي يعتقلوني. هذه هي طريقة الرقابة الإيرانية. يختار بعض المخرجين أو يحاولوا ألا يتعارضوا مع الحكومة الإيرانية عن طريق الإمتناع عن التدخل في السياسة الوطنية. لكن، بعض المخرجين في إيران لا يقبلون هذا، ففي كل يوم يتم إعدام ثلاثة أشخاص على الأقل في السجون. كيف بإمكاننا الصمت إزاء هذا الوضع المروّع؟ في الست سنوات المنصرمة قاموا باعتقال 15000 شخص، وقاموا باغتصابهم وتعذيبهم داخل السجن. كيف يمكنني الصمت؟
لكن، أنا لا أصنع الأفلام لدولتي فقط. فقد صنعت أفلامًا في عشر دول مختلفة وقد تم عرض أفلامي في العديد من الدول، أنا لا أفكر بالمشاهد الإيراني، ولكن بالبشر بغض النظر عن أية جنسية. هذه الأرض هي كقارب صغير في محيط الكون. إن حدث شيء سيّئ في جزء واحد، فإن بقية القارب ستعاني وتغرق. انظر إلى سوريا: من دافع عن الأسد سوى العديد من القادة الإيرانيين؟ إن لم تكن إيران تدعم الأسد، كانت لتكون هذه الثورة ناجحة منذ خمسة سنوات مضت. تشارك إيران في الحقيقة في قتل السوريين. وطني ووطنك هما هذه الأرض وعلينا جميعًا أن نتشارك مسؤوليتنا تجاهها. الإحتباس الحراري كمثال: سوف يدمر الأرض بالكامل وليس جزءًا واحدًا فقط. وحكومة واحدة تؤثر بالتالية، كأنها جميعًا شبكة واحدة معقدة. لا وجود لمثل البلدة الواحدة المنعزلة والسينما الواحدة المنعزلة. ولا يعيش البشر أيضًا في عزلة، ولكن دائمًا على علاقة بالآخرين.
لقد ولدنا على هذه الأرض وليس في بلدة واحدة. الهدف الأساسي هو أن نكون سعداء وأصحاء وأصدقاء. إن لم نكن سعداء سننتحر. إن لم نكن أصحاء سنموت. إن لم نكن أصدقاء سنقتل بعضنا البعض. بدون تلك العناصر الثلاثة سنخسر إنسانيتنا. إن مُنحنا تلك الثلاث، لم سنفكر بالأمم والأديان والعرق والجنس؟
السينما هي لغة إنسانية جديدة. السينما مكنتنا من التكلم من خلال الصور بطريقة فعّالة، وهو ما لم يكن ممكنًا قبل بضع مئات من السنين. السينما كالبلد الواحد. بدون السينما ستكون أفكارنا مختلفة. السينما بإمكانها أن تعلمنا الكثير عن ماذا يعني أن تكون إنسانًا على هذه الأرض وعن كل زاوية في العالم.
محسن مخملباف هو مخرج ومؤلف ومنتج وناشط حقوقي إيراني. كتب مخملباف 27 كتابًا أدبيًا وقصصيًا وأخرج 20 فيلمًا طويلًا و4 أفلام وثائقية و5 أفلام قصيرة في عشر بلدان، فاز بنجو 50 جائزة وكان عضو هيئة المحلفين في أكثر من 15 مهرجان سينمائي كبير. غادر إيران عام 2005 عقب انتخاب محمود أحمدي نجاد بوقت قصير.