“My Name Is Rachel Corrie”، هو عنوان واحد من الإنتاجات المسرحية البارزة خلال الأعوام السابقة، والذي مايزال يدور على عدد من المسارح الأوربية والأمريكية. وقد تعرف الجمهور العربي على هذا العمل المسرحي في افتتاح مهرجان المسرح الأوربي في بيروت، 2018. العرض هو مونودراما مسرحية مستمدة من يوميات وإيميلات الناشطة الأمريكية من حركة التضامن العالمية راشيل كوري، التي فارقت الحياة في رفح بينما كانت تقاوم جرافة اسرائيلية أثناء عملية هدم بيوت للفلسطينيين. عمل على تحرير مذكرات راشيل كوري لتلائم عرضاً مسرحياً كل من آلان ريكمان وهو الممثل المسرحي البريطاني القدير الذي فارق الجياة مؤخراً، وكاترين فينر وهي رئيسة تحرير صحيفة الغارديان البريطانية، أما الإخراج فهو للمخرجة راشيل فالنتين سميث.
تم عرض المسرحية للمرة الأولى على مسرح رويال كورت – لندن 2005، ومسرح ويست آند – لندن 2006 وحازت المسرحية على عدد من الجوائز منها جائزة تياترغروس لأفضل مخرج، وأفضل عرض جديد، وأفضل أداء تمثيلي مسرحي. ثم انتقل العرض إلى مسرح ورشة عمل نيويورك – برودواي 2006، ثم تنقلت المسرحية في عدد من المهرجانات المسرحية في مدن الولايات المتحدة.
يمكن تقسيم هذا العمل المسرحي إلى قسمين، القسم الأول منه يحاول تعريف المشاهد على نشأة الفتاة – التلميذة – المراهقة – والطالبة الجامعية (راشيل كوري 1979 – 2003 )، حيث تجسد سينوغرافيا المسرحية غرفتها الخاصة بما تحويه من صور معلقة على الحائط، بعض اللوحات، مجموعة من الكتب، والسيديات الموسيقية. كما نطلع على علاقتها مع عائلتها، نوعية الأصدقاء التي تحيط بها، وسعيها للبحث عن قضايا تنتمي إليها تتعلق بالعدالة العالمية والمساواة.
يتابع المتلقي في هذا القسم كيف تتشكل شخصية أمريكية من بين ملايين الأمريكيين تمتلك وعياً سياسياً واجتماعياً مغايراً للتيار السائد. تتلقى راشيل الدعم من والدتها في التعامل مع أسئلتها الوجودية والسياسية. ويربط هذا القسم من المسرحية بين بحث الطالبة الجامعية عن معنى لحياتها ووجودها وبين التزامها بالقضايا السياسية العالمية.
طبعًا
كنتِ ترسمين وردةً
في أوراق حصة الحساب
وتومئين للمعلِّمة بين لحظةٍ وأخرى
كأنكِ تتابعين الدرس.
وربما
شُغِلتِ بابنِ الجيران
عن إتمام واجب التاريخ
لتضحكَ البناتُ في الفصل
من دفترك المملوء قلوبًا وأسهمًا
محلّ أسبابَ الحملة الفرنسية على مصر،
أقصد:
أسبابَ محوِ فيتنام
وحتميةَ القرنِ الأمريكي.
من قصيدة ”اسمك راشيل كوري“ للشاعرة المصرية فاطمة ناعوت.
الهدف من قسم المسرحية الأول والذي ربما كان لب موضوعة عرض ”اسمي راشيل كوري“ هو رسم المسار الشخصي الخاص، أي أنسنة مواطنة أمريكية أصبحت رمزاً أيقونياً للملتزمين بالقضايا السياسية للعدالة العالمية، يحاول العرض أن يرسم صورتها كمتسائلة عن سياسة بلادها ودول العالم في مجموعة من القضايا الدولية. تظهر راشيل على الخشبة أمام المتلقي كأية مواطنة أمريكية في مراحل المدرسة والجامعة، تمتلك نقاط ضعفها ونقاط تمردها، تهدس بمخاوفها وترسم آمالها، تبحث عن الحب والصداقة وتروي عن علاقاتها الأسرية.
مثلَ البنات تحلُمين
بغدِك الذي لن يكون:
في الصباح تحملين كيس الفلوس
وتعودين بعد ساعة من المتجر
بكيس كرفس وبازلاء
ولن تنسي كيزانَ الذرةِ الصفراءِ التي يحبها الصغار.
طناجرُ وملاعقُ
وأكروباتُ
بين المطبخ والمغسلة
وغرفة الأطفال التي يجبُ أن تُرتّبَ
قبل الرابعة،
-أطفالك الذين لن يأتوا-
من قصيدة ”اسمك راشيل كوري“ للشاعرة المصرية فاطمة ناعوت.
تنتقل راشيل كوري في القسم الثاني من المسرحية إلى فلسطين، وتحديداً إلى مدينة رفح جنوب غزة، يعتمد هذا القسم في سردياته على اليوميات التي دأبت كوري على تسجيلها بدقة، ذاكرةً التواريخ الدقيقة والساعات التي أمضتها مع مجموعة قليلة من “المتطوعين الأجانب” كما كانت تطلق عليهم في مذكراتها، لمساعدة الناشطين المدنيين الفلسطينيين في تنظيم التظاهرات الداعية إلى وقف سياسة هدم المنازل، وفي إسعاف الجرحى المصابين.
عدة محاور تكتسب أهمية خاصة في مذكرات راشيل كوري عن تلك المرحلة التي تقارب الشهرين قبل مفارقتها الحياة. أولها ذلك المحور المتعلق بما دعته كوري في مذكراتها بـ “النشطاء الأجانب”، وهو اللقب الذي يستعمله الفلسطينيون في التدليل عليهم.
هنا يجب العودة للتذكير بأن راشيل كوري توجهت إلى فلسطين في برنامج مواءمة بين مدينتها أولمبيا في الولايات المتحدة وبين مدينة رفح في فلسطين. وهناك التقت بنشطاء من ”حركة التضامن العالمية International Solidarity Movement“ وانضمت إليها، لكنها في مذكراتها وكما تظهر المسرحية لا تستعمل أسماء المنظمات في الحديث عن زملائها بل تسميهم كما أشرنا سابقاً بـ “النشطاء الأجانب”.
من مذكرات راشيل نتعرف كيف يعمل هؤلاء النشطاء الأجانب داخل فلسطين، كيف ينظمون لقاءاتهم، وكيف يتواصلون للتحضير لفعاليات سلمية، نتعرف على قلقهم حيال قلة عددهم، وتجاهلهم من الإعلام العالمي، ومحاولاتهم التأثير في مواطني بلدانهم بالقضية الفلسطينية. والأهم أن مذكرات راشيل توضح ما هي أفكارهم التي دعتهم للقدوم إلى فلسطين. تذكر في أكثر من مرة في مذكراتها أنها ترى القضية الفلسطينية على أنها: ”قضية شعب أعزل أمام رابع أقوى جيش في العالم أي الجيش الإسرائيلي“.
قومي يا حبيبة وكفى نومًا
البناتُ بالخارج
ذاهباتٌ إلى الديسكو
But Ma, I was dreaming!
ما أثقلَ نومَك يا راشيل!
قومي!
لكنني لن أذهبَ للمرقص
أمي أين باسبوري الأزرق؟
أود الكلامَ مع الله!
من قصيدة ”اسمك راشيل كوري“ للشاعرة المصرية فاطمة ناعوت.
النقطة الثانية التي تكتسب أهمية خاصة في مذكرات راشيل كوري عن رفح، هي كيفية رؤيتها للشخصية الفلسطينية؟ مدى الاضطهاد الذي يتعرض له الفلسطينيون، قدرتهم على الأمل والمقاومة، طبيعة شخصياتهم المتفائلة والتي ترى راشيل أنها تعلمت منهم رؤى ومفاهيم جديدة عن الحياة، الكرم والعلاقات العائلية التي دفعتها هي أيضاً للتعلق بعائلتها.
وهنا نصل إلى المحور الذاتي في يوميات راشيل كوري عن رفح، ذلك المتعلق بأفكارها الذهنية والنفسية المرتبطة بهذه التجربة التي تعيشها، أسئلة مثل: العدالة، التمييز، معنى حياتها ما بعد عودتها من رفح، وسؤال الموت الذي لابد يصبح ملحاً في مثل تلك الظروف التي عاشتها مع الفلسطينيين في تلك الفترة من الاعتداءات الإسرائيلية. لم تكن راشيل كوري ترغب بالموت حسبما تصرح في يومياتها، لكنها تجد الموت سؤالاً ملحاً عليها منذ انتقلت إلى رفح.
بعد شهرين من وصول راشيل كوري إلى رفح، وفي آذار من العام 2003، فارقت الحياة أثناء عملية هدم قادها الجيش الإسرائيلي لمنازل فلسطينية تخللتها عملية مقاومة استمرت ثلاث ساعات من قبل ثمانية نشطاء من حركة التضامن العالمية. وجهت نشطاء الحركة أصابع الاتهام للجيش الإسرائيلي، وشهدوا بأن سائق الجرافة استمر بالقيادة داهساً جسد الناشطة راشيل كوري. فتح الجيش الإسرائيلي التحقيقات التي توصلت إلى أن حادثة الوفاة تمت إثر حادثة، وأن سائق الجرافة الإسرائيلية لم ير جسد راشيل كوري أمام جنازير الجرافة.
هذه رواية النشطاء السلميين للحادثة في مواجهة الرواية الرسمية الإسرائيلية، لكن للفن، أي المسرحية التي نتحدث عنها رواية أوضح وأكثر إقناعاً، فلم تفارق كوري الحياة بسبب زلة قدم أو مواجهة فوضوية مع جرافة، بل تثبت لنا المسرحية شخصية فضولية، ووعياً سياسياً التزم بقضايا إنسانية ودفع براشيل كوري كي تقطع كامل المسافات بين مدينتها أولمبيا – واشنطن في الولايات المتحدة، ورفح في فلسطين، ولتتقارب مع نشطاء ومقاومين، ولتذهب ليس ضحية خطأ ارتكبه سائق جرافة، بل نمط وآراء وتيارات سياسية تحكم العالم وتدير قضاياه من فشل إلى فشل آخر يؤدي إلى أن تفارق الحياة شخصيات استثنائية بحساسيتها لأنها تأثرت بإحدى أطول الأزمات السياسية، أي ستون عاماً من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
ينتهي العرض بإسقاط فيديو وحيد في المسرحية، وهو وثيقة أصلية مصورة لراشيل كوري حين كانت طفلة تلقي كلمةً أمام أطفال المدرسة في أولمبيا، اختارت الطفلة أن تتحدث فيها عن الأطفال المرضى والجوعى في العالم، وعن تأثرها بمشاهدهم ومرآهم، وتعلن أمنياتها والتزامها بالعطف والعمل من أجلهم.
مثلنا جميعًا
رسمتِ كيوبيد وسهمًا وحرفيْن
وانتظرتِ الفارسَ والحصان،
مثلَ كلّ صبيّةٍ سمراء
تمنيتِ حذاءً عاليَ الكعبِ
وجوربًا شفافًا
وأضجرتِك شرائطُ الشّعرِ والضفيرة،
ومثلنا – لو كنت تمهلّت–
ستنتجين صغارًا
وتلعنين سخافاتِ الرجال
مثلنا أنتِ يا بنت
لكننا لم نقف أمام جرّافة لتسحقَنا
كي نتكلمَ مع الله
أو لنوقفَ مدفعًا
يريد أن يخطفَ طفلا
من ضحكته.
من قصيدة ”اسمك راشيل كوري“ للشاعرة المصرية فاطمة ناعوت.
على مدار ثمانين دقيقة، بإكسسوارات بسيطة على المسرح تمثل كما شرحنا سابقاً غرفة راشيل كوري الشخصية، وبسينوغرافيا ثابتة طيلة عرض المسرحية، درج مقسم على شكل مصطبات كثيرة، تمثل كتله مناطق متفرقة من حياة راشيل كوري من الغرفة الخاصة إلى المدرسة إلى منازل الأهالي الفلسطينيين الذين استقبلوها في رفح، والغرف التي سكنتها هناك، مرت السيرة الذاتية لراشيل كوري أمام المتلقي على خشبة مسرح. هكذا تصبح مذكرات الخاصة لابنة الأربعة وعشرين عاماً إدانة إلى كامل لعبة السياسية العالمية، وتنفذها فرقة مسرحية كعمل فني يحمل هذه الإدانة وتنقلها من مسرح إلى آخر، ومن جماعة بشرية إلى أخرى، وربما من جيل إلى آخر أيضاً.
أما عنصر الأزياء الذي تؤخره هذه المقالة حتى النهاية، وذلك كي ترسم صورة راشيل كوري بوضوح للقارئ. بأزياء ثابتة لا تتبدل تظهر شخصية راشيل كوري طيلة المسرحية ببنطال جينز وكنزة قطنية مع سُلك فلسطيني أبيض وأسود، لتبين أنها من تلك الناشطات والناشطين “الأجانب” الذين يظهرون أحياناً في الأراضي الفلسطينية إلى جانب الأهالي، تهمشهم الكاميرات لتسكت قضاياهم، ولا يميزهم الإعلام العربي عن صناع القرار في أوربا وأمريكا كونهم مواطنون من تلك البلدان. ربما نتذكرهم جيداً في المظاهرات التي أقامها 2 مليون مواطن بريطاني في لندن ضد الحرب البريطانية الأمريكية على العراق في العام 2003، أو من بين الصحفيين الأجانب الذين فارقوا الحياة في سبيل تغطية الحدث السياسي والاجتماعي في سورية منذ العام 2011.