الشائع أنّ الكاتب يحتاج إلى بيئة مستقرة يرسم فيها مصائر شخصيات نصه بعين الرائي البعيد الهادئ، ولكن ماذا عن الكتّاب والكتابة في حالة الثورة/ الحرب في سوريا، والتي تقترب من عامها الثامن، ما أوصلنا إلى وصف البلاد بـ”الجحيم الأرضي”، بعد سلسلة من الفجائع.
سؤال وجهته “رمان” لأربعة روائيين سوريين ممن مسّتهم نعمة الحرية بعيداً عن سقف الوطن النازف؛ إسلام أبو شكير صاحب «زجاج مطحون» (مقيم في الإمارات)، ونغم حيدر صاحبة «أعياد الشتاء» (مقيمة في ألمانيا)، ومازن عرفة صاحب «الغرانيق» (مقيم في ألمانيا)، وزهراء عبد الله صاحبة «على مائدة داعش» (مقيمة في فرنسا). فكانت هذه الشهادات عن “الكتابة في زمن الفجائع السورية”..
إسلام أبو شكير: تحدي الخيال
الكتابة في النهاية نشاط متصل بالحياة، لذلك فهي متأثرة بها على نحو مباشر، خصوصاً أمام أحداث ومتغيرات عميقة عاصفة من النوع الذي نعيشه ونكابده في سوريا منذ نحو سبع سنوات.
لقد أخذت الحرب الكاتب السوري نحو مناطق جديدة لم تكن في الحسبان. صحيح أننا نعيش منذ عقود على إيقاع الحرب بحكم مجاورتنا لدول عاشت التجربة قبلنا مثل فلسطين ولبنان والعراق، لكنها المرة الأولى التي يجد الإنسان السوري نفسه فيها طرفاً مباشراً في الحرب، ثمّ إنّ طبيعة الحرب هنا مختلفة من حيث درجة الوحشية التي تجاوزت خيال الكاتب نفسه. شخصياً كتبت عن الحرب قبل أن يكون ثمّة حرب، لكنني تناولت الموضوع من زاويته الفلسفية الوجودية التي تقدم الحرب بوصفها صراعاً أزلياً يبدأ بحرب الإنسان مع نفسه وتناقضاتها وميولها وحاجاتها، ولا ينتهي بحربه مع الطبيعة والموت، وقدمت مشاهد كنت أظنها في حينه مفرطة في الخيال، إلى أن جاءت مشاهد الرعب على شكل شلالات من الدم تهدر في الشوارع حقيقة لا مجازاً، فكان ذلك صدمة مروعة لي كإنسان أولاً، وكاتب ثانياً..
بصفتي إنساناً فقد تصدعت الكثير من القناعات الفكرية والسياسية، وأصبحت موضع شك وتساؤل.. وبصفتي كاتباً فقد وجدت نفسي أمام تحديات لم تكن واردة من قبل، وأهمها تحدي الخيال الذي أعد نفسي مغرماً به، إذ بدا لي هذا الخيال ساذجاً مقارنة مع الواقع، فكان عليّ أن أعيد النظر في تجربتي الكتابية، وأبحث عن طريقة أتمكن عبرها من الإحاطة بما يجري، بأدوات ولغة وزوايا نظر مختلفة لا تجاري الواقع فقط، بل تنفذ إلى ما وراء هذا الواقع، حيث الجوهر والحقيقة التي يبدو أننا لم نصل إليها في كتاباتنا في المراحل السابقة.
نغم حيدر: مواجهة جادّة مع الموت
كانت تجربةُ كتابة الرواية الأولى مختلفةً كُليّاً عن التجربة الثانية. همومُ الأبطال منحصرةً بإتمامِ الحياة والتعايش مع نقائضها. حتى أنّ مشاعري تجاه جوّ الرواية وعلاقتي مع الحدث الذي كتبته كان لها معنىً مختلفاً. كان الضجيجُ فيها ضجيج حياةٍ، والمطرُ فصلاً قد ينتهي قريباً وهبوب الرياحِ في المساء تبدّلاً وتحريكاً لكلّ ما هو بليدٌ وخامد. كان اللونُ موجوداً بقوّةٍ والطعومُ منوّعةٌ واللذّةُ حاضرة. كان بإمكاني وصفُ الألمِ عن طريق ارتباطه بأشكالِ الحياة وكونه جزءاً منها.
حين عملتُ على مخطوط روايتي الثانية كنتُ في مواجهةٍ جادّةٍ مع الموت. لقد تآكلت التفاصيل وتقلّصتِ الأمكنة وعرفتُ تماماً أنّ لونَ الدمّ هو السائدِ الآن. في نفسي كما في الرواية.
أجلت الكتابة مراراً إذ أنّ الشخوص ماعادت هي ذاتها. هناكَ ضحايا يعومون في بِركة الموت. هناك ضحايا يُقاتلون الوقتَ في الغُربة. هناكَ عنفٌ سارحٌ لا يُلجم. وحيث أنني لا أشرع بالكتابةِ بشكلٍ جديّ إلّا بعد أن أُساكنَ الشخصيةَ وأتقرّب منها فقد لزمني وقتٌ طويلٌ كي أُعاين حجم التغيير الذي حصل وذلك التبدل الصادم في ظروف الحياة.
أعترفُ أنني كتبتُ الكثير وحذفتُ الكثير وأحجمتُ أياماً عديدةً عن الكتابةِ، غضبى وفزِعة ومشوّشة. كنتُ أبتعدُ عن العملِ تماماً حين أشعر أنني جُرفتِ معه. وأعودُ حين أكون أكثر ثباتاً أمامه.
هناك آراءٌ عدّة تتعلق بالكتابة في زمن الأزمات. عديدون يرون أنّ الفجيعة تُربك العمل والكتابةَ عن الحدث قبل انتهائه هي كتابةٌ تفتقر للحكمة، انفعاليّةٌ سطحيةٌ فوضويّة يظهر فيها تخبّط الكاتب وضياعه. قد يكون هذا صحيحاً ولكني لا أرى في ذلك مشكلةً إذا أردنا اعتبار الرواية توثيقاً للأثر النفسي والإنساني للحدث على الكاتب وعلى أبطاله معاً. ومع كثرةِ الأحداث والقصص والتجارب قد تبدو مهمة الكتابة سهلةً ومادتُها جاهزةً ولا تحتاجُ سوى إلى كتابتها. إلّا أنني أعتبرها واحدةً من أصعب التحديات. تخيّل معي أنّك عالقٌ في مكانٍ شديدِ الظلمة. سوادٌ حالكٌ من حولك. عليك أن تنجو بنفسك من هذا المكان وفي الوقت ذاتِه تنتابكَ الرغبة، كُلّ الرغبة بأن تكتب شيئاً يضاهي ظلمته.
والآن، فإنّ أيّ إطراءٍ لعملٍ ما، سيجلب لمؤلفه مشاعر ألمٍ مضاعفة. إنّ الكتابة في زمن الحرب نزيفٌ من نوعٍ آخر.
مازن عرفة: منفيٌ وأنت في البلاد
تعيش في البلاد، وسط الخراب والدمار، حيث يترصدك الموت المجاني عند منعطفات اللحظات، تعيش منذ أن ولدت وأنت دون كرامة، مسجلٌ في تقارير الأمن واحدٌ من أغنام قطيع المسيرات الممجدة للإله العجوز الخرف، المشغول بالمزرعة ـ البلاد، وتوريثها إلى سلالته… فلما لا تشعر بأنك منفي وأنت في البلاد، والمنفى في داخلك، يحاصر الذات والحنين والكلمات.
تهرب إلى المنفى… لكن عن أيّ منفى تتحدث؟ فالوطن الممزق يلاحقك في داخلك، في كوابيس تعيشها باستمرار. في النهار تعيش في مدن بلا أناس، بلا أرواح، في مدنٍ لا تتلطى لك فيها حكاية حنين، فحكايتك هناك في البلاد… لكن سنابك الجيوش الإنكشاريّة والغزاة سحقتها في صليل النار.
عشتُ في سجن سوريالي، وقد تحولت بنايتي إلى موقع عسكري لجيش إنكشاريّ، وطابقها الأول إلى مركز أمني للتحقيق الأولي، تتصاعد منه أصوات المعذبين. بقيت الأصوات في الذاكرة، أما أصحابها فسيظهرون بعد أعوام أسماء في قوائم معتقلين، ماتوا جميعاً بأزمات قلبية، فيما اختفت أجسادهم في محارق، أو أحواض أسيد… أو باعتها مافيات الأعضاء البشرية في مزادات دولية عابرة للقارات.
جيوش إنكشاريّة طائفية تعيش “تعفيش” البلاد، وروحها وحكاياتها، بعقلية “غزوات القبيلة”، ثمّ يرقصون في الساحات بانتصارات الوهم، على إيقاع أهازيج تمجيد الغزاة.
وجهاديون إسلاميون يتلهون بقطع الرؤوس وحساب عدد الحوريات في جنانهم، فيما لا تتجاوز معظم دويلاتهم بضعة أشبار، وهم منتصرون الآن على “الأكراد” الذين كانوا يقصفون البلاد بصواريخهم العابرة للقارات، وطائراتهم الاستراتيجيّة المنطلقة من أعالي البحار.
لكن لا أحد منتصر إلا جيوش الغرباء الغزاة، الذين توافقوا على اقتسام البلاد، وروحها، والمهزوم فقط هو الدم السوري.
كنت أقف على شرفتي التي تطل على البلاد، وأشاهد التظاهرات، التي غيرت شعاراتها من “حرية” إلى “يا لله مالنا غيرك يا الله”، بعد أن لجأ “النظام” إلى استعمال الرصاص ضدّها. كانت الأرض ترتعد بأصواتهم، كي يستيقظ من في “السماء”، لكنه لم يستيقظ… وجاء أصحاب اللحى يفتون “إنه يختبركم، أنتم ابتعدتم عن دينه”… أكثر من مليون قتيل، وضعفيهما من الجرحى والمعاقين والمختفين، وسبعة ملايين مهجر قسري، وتدمير البلاد والحكايات… من أجل “اختبار السماء”، فيما “الغرانيق” تدمر دون “حسابات واختبارات”.
الشهادة الروائية في حمأة الموت تأتي معمدة بالدم… من قال أنه ينبغي تأجيل الكتابة حتى تختمر الأحداث، بانتظار نهاية الأفق التاريخي لها، قد نخطئ، ويغدو بطلنا الممجد روائياً “زعيماً جنرالاً” جديداً، أو “أميراً إسلامياً” متجدداً، فمجتمعاتنا لا تستطيع الحياة دون “غرانيق”… ومن قال أن أبطالي، من الأموات في المعتقلات أو تحت البراميل المتفجرة، ومن الغرقى في البحار، والمشردين في مجاهل الحياة، لن يعيشوا سوى ألام موتهم المستمر… فهم لم يحلموا في حياتهم، ولن يحلموا في مماتهم، بأن يكونوا “غرانيق”.
زهراء عبد الله: الدمُ حبرنا..
أنقلُ أقدامي على مهل بين الجُثث المَرمية في يومياتي، وأركضُ مُتلهفة لأمسك بقلمي.. هنا تبدأ الخطيئة! أن تكتب وسط الموت، سيكون الدمُ حبرك. لكني متمسكة بما قاله فرويد: “بدأت الحضارة عندما قام أول رجل غاضب بإلقاء كلمة بدلاً عن حجر”.
الكلمة وحدها من تحمي الحضارة من مهدّة الحرب المدمرة.. حين بدأت بكتابة روايتي الأولى “على مائدة داعش”، كان العجز يُلازمني. أن أُغير، أن أساعد النساء المختطفات لدى “داعش” بأيّة طريقة. كنت أبكي أكثر مما أكتب. ثمّ لم يكن بخاطري بعدها إلّا هدف وحيد، أنني أكتب لأجل اللذين سيأتون من بعدي وبعدهنّ، لأعرّفهنّ بما حدث. وحين أنهيت روايتي الثانية التي تتناول عن قرب أوضاع اللجوء السوري من عدة نواحي، أبرزها زواج القاصرات في المخيمات والهجرة غير الشرعية عبر البحر، غَرِقتُ.
كتبتُ لأنقل صوراً عالقة بمخيلتي وضميري، تنخزني كشوكة بإصبعي. لكنني لم أجد حلاً لنجاتهم. لم تكن الكتابة في المرتين سهلة. موضوعان يمتدان إلى عمق الحرب ومخلفاتها، لكل نصّ وطأته القاسية الخاصّة به. قد يتحوّل الكاتب، الذي يكتُب من أرض المعركة، إلى رسول. ينقل رسالته إلى من لم يهتدِ بعد، يُلقن العقول الحقيقة التي يؤمن بها مهما كانت. بعد تجربتين روائيتين بتّ أستطيع القول إن الكتابة فعلٌ، من أصعب الأفعال التي تعرّف إليها الإنسان ثمّ جرّبها وأحبها رغم تعبها وخطورتها. فأن تكتبَ كلامًا يُضاهي الرصاص فتكًا، وأنت في العراء تحتمي بكل أفكارك وتساؤلاتك وأطروحاتك، التي تركتها حرةً طليقةً بلا جياد بين صفحات كتابك. وتكون غير مقبولة بشكل عام، تصبح من المحرمات في زمن الحرب، لأنها قد تعيد إشعال فتيل خَمَد.
إنها بطولة! بطولةٌ تُحوّل الخطيئة التي اُرتُكبت خلال الحرب، إلى تميمة مقدسة ما بعد الحرب.. إرثٌ عظيمٌ لكل الأجيال القادمة التي أتمنى لها أن تحيا بسلام، وأن لا تتعرف على الحرب إلا من خلال ما كتبنا.