وصف موقع Real Films فيلم «غزة» (٢٠١٩) بأنه “بورتريه جمالي عن الحياة اليومية في هذه المدينة، نتعرف فيها على شخصيات تحاول البحث عن معنى لحياتها متجاوزة آثار الصراع المستمر الدائم، شخصيات تحاول التعبير عن نفسها، شخصيات تحاول التكيف مع واقع العيش في المكان، وشخصيات أخرى تحاول حماية أفراد عائلتها للبقاء على قيد الحياة، وعبر هذه الحكايات نتلمس عمق المشاعر الإنسانية لدى شخصيات تعيش استمرارية الحرب لكنها تحاول التعريف عن نفسها بعيداً عن آثارها.”
التقى المخرجان الإيرلنديان غاري كين وأندرو ماكونيل في بيروت عام 2013، واكتشفا رغبتهما المشتركين في تحقيق فيلم عن غزة. ومنذ العام 2014 إلى العام 2018، أمضيا خمس سنوات في تحقيق الفيلم. يبين المخرجان الإيرلنديان بأن غايتهما الأساسية كانت صناعة فيلم عن المدينة، حيث الأشخاص، السكان هم من يخبرون حكاياتهم، بدل أن تروى عنهم من قبل المحللين والمعلقين، يقول غاري كين: “أردنا أن تأتينا الحكايات من الناس أنفسهم، أن تروى بطريقتهم وأسلوبهم ). أما أندرو ماكونيل فيقول: “ارتبطت غزة في أذهاننا بالصراع المستمر هناك، لكن عند الوصول إلى المكان والتعرف عليه، اكتشفنا أن الحرب ليست إلا جزءاً صغيراً مما يمكن لنا كسينمائيين قوله عن المكان.”
حلم الصياد الصغير
يفتتح الفيلم بمجموعة من المعلومات عن غزة، الموقع الجغرافي، المساحة، عدد السكان، وأبرز الأحداث السياسية التي مرت بها المنطقة. تفيد هذه المعلومات مُشاهد الفيلم لإدراك الخلفية السياسية والاقتصادية عن المكان الذي يتناوله الفيلم، ومن بعدها تبدأ رحلة المشاهد مع مجموعة من الشخصيات، ينتقل الفيلم من حكاية شخصية إلى أخرى، اختارها المخرجان بعناية، لتكون حكايات فيلمهم عن غزة. فما الذي اختاره صانعيّ الفيلم ليقدموا تسعين دقيقة سينمائية عن مدينة مثل غزة، على هذه الدرجة من التعقيد عند تناولها فنياً؟
بداية لدينا حكاية الفتى أحمد، يعيش في عائلة تتألف من أب بثلاث زوجات و 12 طفلاً، كلهم يتقاسمون منزلاً صغيراً في مخيم، يقول أحمد: “مرت علينا أيام لم ناكل فيها سوى الملح.” نتابعه وهو يرافق البالغين في رحلة صيد بحرية. فحلم أحمد هو امتلاك قارب، يأخذ فيه أخوته وأقاربه في رحلات صيد بحرية، يقول أحمد بطريقة شعرية: “لقد ولدت قرب البحر، وسأبقى بقربه، وسأموت قرب البحر.”، حضور الموت في خطاب طفل مراهق يبدو من آثار العيش في هذا المكان.
عارضة الأزياء وعازفة التشيللو
يشكل حضور شخصية كرمة (19 عاماً) تنويعاً أساسياً في توازن الشخصيات التي يقدمها الفيلم، فهي تنتمي إلى عائلة من الطبقة الوسطى، عائلة من المحامين، يبدو دور النساء فاعلاً فيها. تقدم كرمة شهادتها في الفيلم بلغة إنكليزية ممتازة، وهي عازفة تتلقى تدريبات مستمرة على آلة التشيللو. تتذمر من الصور النمطية التي يصور فيها الإعلام الحياة في غزة، ولكنها، وفي الوقت عينه، لا تخفي خشيتها من حضور الحرب المستمر على حياتها ومستقبلها. تحلم كرمة بالسفر للخارج لمتابعة دراستها في مجال القانون الدولي، كما باقي أفراد عائلتها، أو بمجال العلوم السياسية، توضح اختيارها لهذين المجالين الدراسين لتكون نافعة لقضية أهلها وأقاربها في غزة.
في الفيلم، يتلمس المشاهد الجهود المبذولة من قبل المخرجين الإيرلنديين لتناول موضوعة المرأة في غزة. يبدو الحرص على إشراك ما أمكن من الشهادات النسوية، وتعتبر مشاركة كرمة وعائلتها موفقة من هذه الزاوية، فبينما تصور الكاميرا مظاهر انزواء النساء عن الفضاء العام، وتصوير النساء المحجبات وكذلك حتى فتيات المدارس، تظهر عائلة كرمة مختلفة عن ذلك، وبينما تمرر صور عن وضع النساء في غزة، نتابع الإنصات إلى شهادة كرمة وهي تقول: “الحجاب مسألة شخصية، لا أرتدي الحجاب لأني لست مستعدة بعد بالكامل لارتدائه. المهم هو أن ينظر الآخرون إلى جوهري وليس إلى منظري.”، تقول كرمة ذلك وهي تمارس مع صديقاتها لعبة كرة السلة بالملابس الرياضية.
في إطار الاهتمام بدور المرأة في المجتمع الغزاوي، نتابع تفاصيل حكاية مصممة أزياء، تعتمد على الأزياء التقليدية الفلسطينية في أسلوبها، تستعمل العباءة والملابس التراثية الفلسطينية المزركشة بالنقوش، لتصنع عرض أزياء حداثي ومعاصر. تشارك كرمة وأخواتها الإناث كعارضات أزياء، تقول المصممة: “غداً حين تتغير الأوضاع، ويسمح لنا بالتنقل إلى الخارج، سنقدم عروضاً في فرنسا وإيطاليا.” تخبر مصممة الأزياء أن عروضاً عديدة قدمت لها لتقديم أزياءها في أوروبا، لكن أوضاع الحصار وصعوبة التنقل تحول دون تحقيق هذه العروض.
سائق التاكسي والمزاج العام
طالما كانت مهنة سائق التاكسي مهنة محورية في التعرف على أي مدينة وصناعة صورة بانورامية عن أي مكان. نتابع مع كاميرا الفيلم يوميات سائق تاكسي، صعوبات مهنته، علاقته مع الزبائن من الركاب. من هذه الرحلات داخل سيارة أجرة، يتلمس المشاهد رغبة الجميع بتجاوز الألم وتغيير واقعهم الوجداني، لذلك تكثر مشاهد الغناء، أغلب المشاهد التي تعلق فيها الكاميرا داخل سيارة التاكسي وهي تقل الزبائن من حي إلى آخر، يغني فيها الركاب، ويشاركهم سائق التاكسي الغناء، الفكرة الأساسية من هذا الفعل هو محاولة تجاوز الوضع المتأزم لحياتهم، ورغبتهم بالترفيه عن نفسهم بتشارك الغناء وتغيير المزاج المفروض والسائد.
البحر سلوى وتذكير بالحصار
نتابع أيضاً سائق التاكسي في طقسه اليومي، وهو شراء كوب من القهوة من موتور حمّله صاحبه آلة صناعة مشروبات يقدمها للراغبين التمتع ببرهة زمنية يشربون فيها العصائر والقهوة أمام البحر. مجدداً يحضر البحر في حياة سكان غزة، يجلس سائق التاكسي على كرسي بلاستيكي أمام البحر، يشرب كوب القهوة ويدخن سيجارة. تقول كرمة عن البحر: “تأمل البحر يشعرني بالراحة، لكن البحر أيضاً شاهد على الحصار الذي نعيشه. إنه مكان السلوى وبالوقت عينه يذكرنا بأننا جميعاً في غزة محاصرون.”
لنفهم هذا الشعور المزدوج الذي يراود كرمة أمام البحر، نرافق صياداً في حياته اليومية. يعتمد الكثير من أهالي غزة على الصيد كمورد مادي أساسي، إلا أن السلطات الإسرائيلية حددت لهم مسافة ثلاثة أميال بحرية لا يمكن تجاوزها، يقول الصياد: “نسبة توافر السمك قليلة في هذه المساحة المحددة والمفروضة علينا، وفي حال المغامرة وتجاوز مسافة الثلاثة أميال فإن الصياد يتعرض للهجوم من قبل خفر السواحل الإسرائيلي، هم يطلقون النار علينا في بعض الأحيان، وفي أغلب الأحيان يعاملوننا بذل، ونتعرض للاعتقال.” وللتأكيد على ما يرويه هذا الصياد، نتابع عبر الفيلم حكاية أب لطفلين، يخرج من السجن الإسرائيلي بعد سنتين من الاعتقال، ذلك لكونه تجاوز حدود الخط البحري المرسوم من قبل الإسرائيليين للصيادين في بحر غزة.
عدا عن الصيد، وللتعرف على الوضع الاقتصادي في المدينة، نرافق حكاية خياط، يدير ورشة لكنه يعاني من المصاعب المتعلقة بالكهرباء، تتوافر الكهرباء في غزة لمدة أربع ساعات في اليوم مما يجعل من جميع القطاعات المهنية تعاني من هذا الموضوع. يروي الخياط الثمانيني كيف باع معمل خياطة كان يملكه لكي يوفر لنفسه المأكل والمشرب فقط.
رغم أن تركيز مخرجيّ الفيلم غاري كين وآندرو ماكونيل انصب على تصوير الحياة اليومية لأهالي وسكان غزة بعيداً عن الحرب والصراع، إلا أن الفيلم المحقق بين عامي 2014 – 2018 لا يمكنه التغاضي عن الأحداث السياسية في المدينة. يتطرق الفيلم بالضرورة إلى تظاهرات العودة على الحدود بين قطاع غزة ودولة الاحتلال، وهي التظاهرات التي تنادي بحق اللاجئين بالعودة إلى ديارهم في أنحاء فلسطين، ومن خلال حكاية مسعف في الهلال الأحمر الفلسطيني نتابع أحداث هذه المسيرات، التي يكثر فيها أعداد القتلى، وتكثر فيها الإصابات وخصوصاً بين فئة الشباب، يقول المسعف: “يجب النظر إلى هذه التظاهرات في إطار الوضع العام في غزة. هؤلاء الشبان بلا أمل، ولا أفق لتغيير أوضاعهم، يستيقظون في كل يوم على هذا الحصار، ويزدادون شعوراً بالاختناق. مسيرات العودة هي وسيلتهم للتعبير عما آل إليه وضعهم.” يقدم هذا المسعف شهادته في المشفى الميداني قرب منطقة التظاهرات، حيث يقوم بإسعاف شبان مصابين بالعيارات النارية القادمة من طرف الحدود الإسرائيلي.
تركز عدسة المخرجين أيضاً على شبان من حركة حماس وآخرين من سرايا القدس. وجوههم مخفية خلف قماطات سوداء كتب عليها سرايا القدس، يحملون الأسلحة والصواريخ. هذه المشاهد تؤكد على الحضور المستمر للصراع المسلح في حياة المدينة، وهو ما سنتابعه في الفيلم مع تغطية أحداث العام 2018، الذي يعتبر من أكثر السنوات دموية في غزة، فقد تعرضت المدينة للقصف الإسرائيلي لأكثر من مرة خلال هذا العام. يركز الفيلم على تصوير الرعب الذي يسود في المدينة أثناء هجوم الطائرات الإسرائيلية، على الخوف الذي يبتلع مشاعر الأطفال من الفتية والفتيات، وتظهر آثار الدمار المتكرر الذي يشهده المكان، في الأبنية والشوارع.
حضور الفن في حياة أهالي غزة
من الظواهر الاجتماعية التي يتكرر حضورها أمام كاميرا الفيلم، هو الفن. تدخل الكاميرا إلى مركز تدريب على رقصة الدبكة التي ترتبط بالثقافة التراثية الفلسطينية، نجد الغناء والرقص أيضاً حاضرين في حفلات الأعراس، تدخل الكاميرا إلى الغرفة الخاصة لتدريبات كرمة على آلة التشيللو مع مدرسة مختصة، تصور الكاميرا أيضاً عرض أزياء في منزل مصممة الأزياء المحترفة
لكن من أهم الشخصيات التي يستعرضها الفيلم والتي توازن الحياة والأمل بالفن، هو مغني الراب مبتور الساقين. لقد تعرض لإطلاق النار في مواضع عديدة من جسده، يتنقل الآن بالكرسي المتحرك، لكنه يسعى دوماً لكتابة كلمات لأغاني الراب. نراقبه في الفيلم وهو يعمل على تنقيحها مرة تلو الأخرى في غرفته جالساً على السرير، ثم نتابعه وهو يعمل على تسجيلها في استديو خاص بتسجيل الأعمال الموسيقية. هو شخصية فنان، كاتب كلمات وموسيقي مفعم بالأمل، تتناول أغنياته موضوعات كالموت والكرامة والحب. أوضح كلمات أغانيه تقول: “على فكرة، كل ما نحتاج إليه هو فرصة.”
في القسم الأخير من الفيلم نتعرف على فنان مسرحي، يسعى منذ سنوات إلى تقديم دورات تدريبية على فن المسرح للهواة من الشبان والشابات. هو أيضاً شخصية تحمل الأمل كونها تستعمل الفن، أي المسرح، كمساهمة في تطوير وتغيير المجتمع.
فيلم «غزة» مصور بعدسة تدرك جماليات المشهد السينمائي، وأسلوب مونتاج عالي الاحترافية قادر على الانتقال بانسيابية بين موضوعات متعددة، وبين ظواهر اجتماعية متناقضة في بعض الأحيان. استعمال ماهر للموسيقى التصويرية في رسم الأجواء العامة للمدينة، في رسم إطار لحكايات الشخصيات، وفي تمرير الرسائل والمشاعر الوجدانية بين صانعَي الفيلم والمتلقي.