لا يبدو الأمر كصدفة، فثمة توجه واضح وتيار مرئي في الثقافة المصرية فضّل اللجوء إلى الناشر العربي، خارج جمهورية مصر العربية، بعيداً عن إكراهات سوق النشر المصرية واشتراطاتها وتعسّفاتها، وبحثاً عن إطلالات على جمهور بعيد، جمهور غفير في الشرق والغرب والشمال، لذلك تعددت مسارات الارتحال، فبعدما كانت بيروت هي القبلة المثالية لكل الهاربين من النشر في مصر، لأسباب أمنية أو مادية أو لأي سببٍ كان، تواصلت رحلة تفتت المراكز، وباتت عواصم عربية بعيدة تزاحم القاهرة وبيروت على الكاتب المصري، تونس والجزائر، والسعودية والإمارات وحتى دور النشر العربية في أوروبا.
مؤخراً، باتت دور نشر خليجية مثل “مسعى”، “تكوين”، و”أثر”، اختياراً مثالياً لكتّاب ومترجمين مصريين، ومن قبلها كانت دور النشر في المهجر مثل “الجمل” و”المتوسط” وغيرهما، وحديثاً انضمت مجموعة دور نشر مغاربية إلى المشهد. ليتواصل تآكل الدور المركزي لمصر كميدان للنشر.
عملية الهجرة المصرية لا تقتصر على جيل أو نوع أدبي، فالمخضرمون كما الشباب شدوا الرحال بعيداً عن الحدود، وكتّاب الرواية كالقصاصين والشعراء، كلهم سواسية في اختيار الخروج، خصوصاً الشعراء الذين وجدوا ناشراً كالمتوسط في ميلانو، يولي الشعر اهتماماً خاصاً، فاختار الكثير منهم عبور “المتوسط”.
“رمّان”، تفرد المساحة التالية، لاستطلاع رأي بعض الكتّاب المصريين الذين اختاروا النشر في الخارج.
تعددت أسباب الخروج
“السايكلوب” هي الرواية رقم 20 في رصيد المصري المخضرم إبراهيم عبد المجيد (1946)، وقد اختار صاحب “لا أحد ينام في الإسكندرية” أن يكون طليعة الكتاب المصريين الذين يختارون تونس كوجهة للنشر. لأسباب عديدة، اختار عبد المجيد، دار “مسكيلياني” لنشر “السايكلوب”، ويفسر الروائي الحائز على جائزة “نجيب محفوظ” اختياره: “بعض الكتّاب المصريين يختارون النشر في الخارج لأنهم يرغبون في اعتراف من قرّاء ونقّاد بعيدين عن الدوائر المحلية، والحقيقة أن هذا الاعتراف مهم ومفيد للكاتب، وأنا شخصياً في بداياتي نشرت في الخارج لهذا السبب، فمثلاً نشرت “الصيّاد واليمام” كاملة في مجلة الكرمل سنة 1984، وهذا جانب أول يفسر إقبال الكاتب المصري على النشر في الخارج.
الجانب الآخر أن هناك حالة هلع أصابت دور النشر المصرية، بتنا نسمع عن كتب تجري مصادرتها، وصاحب مكتبة قُبِض عليه، وكاتب مثل أحمد ناجي سُجِن لأجل رواية كتبها، كل هذه الأشياء أصابت الناشرين بالرعب، ودفعتهم إلى التراجع عن نشر بعض الأعمال.
الحقيقة أن دوغما “المركزية” انتهت منذ زمن، وكما ترى فإن غالبية المواقع الإلكترونية والصحف المعنية بالثقافة تأتي من جنسيات عربية مختلفة وليست مصرية، ومن هنا يصبح الإطلال على القارئ العربي والناقد العربي البعيد عن سوق النشر المصري أمراً هاماً وحيوياً.
هذا بخلاف أن الناشر العربي “أشطر” في التوزيع مثلاً من نظيره المصري، وتتفوق دور النشر العربية على المصرية في معاملات ما بعد الصدور كالترجمات مثلاً، فهم يسعون للترجمات.
ومؤخراً صدرت روايتي “السايكلوب” عن دار “مسكيلياني” في تونس حيث ثمة حركة نشر نشيطة، وفي المغرب العربي عموماً، شهدت على ذلك عندما دُعيت لزيارة تونس، وهناك اتفقت على نشر الرواية”.
عجز الداخل عن احتوائنا
46 سنة تفصل في العمر بين إبراهيم عبد المجيد، والقاص المصري محمد علام (1992)، ولكن على الرغم من هذه الفجوة الزمنية، يشترك علام وعبد المجيد في اختيارهما النشر الخارجي، فقد فضّل القاص الشاب هو الآخر وجهة بعيدة وجديدة، عندما نشر مجموعته القصصية “البنت التي تغتال الأحلام” في الجزائر، حيث ثمة زيارات نادرة للكاتب المصري إلى سوق النشر في بلد الشهداء. كتب علام لـ “رمان” عن تجربة النشر في الجزائر:
“في ساعة من نهار 6 أكتوبر 2016، وصلتني رسالة تفيد بقبول مجموعتي القصصية للنشر بدار “ميم” بالجزائر، كان التلفزيون يحتفل بذكرى العبور، ولهذا الأمر تحديداً ارتبط عندي فعل النشر بالنصر، وأتساءل لماذا ونحن نعبر العقد الثاني من الألفية الثالثة مازال نشر كتاب أشبه بالحرب؟
لا أعتقد أن الجزائر أتت كاختيار بعينه، لكنها اليد التي امتدت لتبدد عجز الداخل عن احتوائنا، وإيفاء الكاتب حقوقه المعنوية والمادية كما ينبغي. ولذلك كانت الجزائر نقطة أمل في مواجهة قوائم النشر الحكومي التي تقطع الأمل، والتي قد تصل لثلاث سنوات، ثم بعد ذلك تكتشف أن صدور الكتاب ما هو إلا بداية رحلة المتاعب، فكيف سيصل الكتاب للقراء خارج القاهرة؟ وكيف سيعرفون عنه؟ وكيف سيشارك في المهرجانات والمعارض والمسابقات الدولية؟ ذلك ببساطة لأن فعل النشر في الدور الحكومية يهتم بالكم أكثر من أي شيء آخر.
تكمن مشكلة النشر في مصر، في غياب العمل المؤسسي في سوق الطباعة والنشر، وكذلك الخبرات التسويقية والدعائية، ما جعل الناشرين المصريين عبارة عن “مطبعجية”، وجعل عملية طباعة الكتاب برمتها “إتاوة” بمنطق “ادفع تنشر” ولا تستثنى من ذلك إلا دور قليلة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة.
في ظل غياب العمل المؤسسي، تغيب معايير النشر، ويسعى الجميع لاستنساخ تجارب أحمد مراد وعلاء الأسواني، وهذه سمة كل الدور الكبرى في مصر، ولعل ذلك ما دفع تياراً من الأدب لا هو رسمي ولا تجاري، يكتب كتابات تجريبية ويتمرد على الشكل والموضوع والحكاية الكلاسيكية أن ينمو في الظل ويتكاثر دون جلبة، ولعل النشر في الخارج يفتح له كوة نهار صاخب عبر العالم، ويتحول هذا الأدب من الهامش إلى المتن، وهذا ما حدث مع كثير من الأدباء مؤخراً.
بعد نشر مجموعتي في الجزائر فوجئت بالصدفة التي جعلت دولة الجزائر ضيف شرف معرض القاهرة في العام التالي، ووجدت اسمي على لوحة زجاجية كبيرة وسط أسماء كبار في الأدب العربي بجناح وزارة الثقافة الجزائرية، حتى أنني أذكر أن واسيني الأعرج قال أنه سعيد ليرى كتاباً مصريين يباركون كتبهم من الجزائر.
قالت لي الشاعرة آسيا علي موسى، مديرة دار «ميم» للنشر، إنه إذا كان الكاتب يغامر بالكتابة دون أن يعرف مصير كتابه للنشر أم لا، فإنها تغامر معه مغامرة النشر بكل عواقبها، وإن الدور الحقيقي للناشر هو أن يسمح لبعض الجمال بالنفاذ لعله يبدد القبح الذي استشرى حولنا”
الشعر مطرود من هذه المدينة
تتفاقم الأمور وتزداد قتامة حال حديثنا عن الشعر. سوق النشر في مصر لا تتحمل الشعر، هذه ثقافة أصّل لها الناقد والوزير الأسبق جابر عصفور (1944) بإطلاق جملته الشهيرة “زمن الرواية”، ليضطر الشعراء المصريون، للهجرة مبكراً، مقارنة بالجيل الحالي من الروائيين مثلاً، وهكذا رأينا عماد فؤاد ينشر في “الآداب”، وصفاء فتحي في “دار النهضة العربية”، في السنوات الأخيرة من التسعينات والأولى من القرن الجديد. بعد ذلك بسنوات، رحلت دار “شرقيات” الأشهر في إنتاج الشعر، وخفت بريق دار “ميريت” الطليعية والرافد الشعري الكبير.
عن اختيارها النشر في الخارج، تقول الشاعرة المصرية الشابة زيزي شوشة: “في أواخر التسعينيات، أطلق الناقد والمترجم “جابر عصفور”، جملته الشهيرة، التي صارت مضغة في فم الكتاب والمثقفين “نحن في زمن الرواية”، وبتبسيط مخل، يتناسب مع جملة “عصفور” تُرجم هذا القول المؤسف، إلى “انتهى زمن الشعر”، وبمرور الوقت أصبحنا في زمن مسخ”. لا يستطيع أحد أن يُجزم الآن، أننا في زمن الرواية، أو الشعر، هذا إذا اتخذنا “معدلات القراءة” قياساً، وأعتقد أنها القياس الأساسي في هذا الشأن. الناشرون كاذبون حين يبررون عدم نشرهم للشعر بقلة المبيعات، في مقابل المبيعات الهائلة للرواية! فليفصحوا عن هذه الأرقام إن كانوا صادقين!
“الشعر مطرود من هذه المدينة” رغم مجازية هذه الجملة، إلا أنني أراها الأكثر تعبيرًا عن وضع الشعر في هذا الوقت، وإذا وسّعنا الرؤية، سنرى أن الشعر مطرود من العالم كله؛ وهذا الأمر مرتبط بالتطورات الهائلة التي حدثت في عملية الاتصال، والتي لم يستطع هذا الفن الخالد “الشعر” الصمود أمامها، ولعل عالم الاجتماع البولندي “زيجمونت باومان” كان حاذقًا حين تطرق لهذه القضايا في نظريته الشهيرة المسماة بـ “السوائل”
بناءً على نصيحة أحد الكتاب، دفعت بديواني الأول “غرباء علقوا بحذائي” للنشر بالهيئة العامة لقصور الثقافة، وأرى أنني من المحظوظين في هذه التجربة، حيث أنني لم أقف في الطابور طويلًا، وفي المجمل كانت تجربة ناجحة، حيث وزع الديوان في كافة أنحاء مصر؛ كانت تأتيني رسائل عبر الفيس بوك، من قراء يعيشون في محافظات نائية، متضمنة رأيهم في الديوان، اعتبرت أن هذا مكسب كبير لي، وللقاريء أيضًا. أعتقد أن عملية التوزيع والسعر، من محددات نجاح عملية النشر، وهذا ما يتميز به النشر الحكومي، هناك أمور أخرى متعلقة بمستوى الطباعة والجودة، لكنني في الحقيقة لم ألتفت لمثل هذه الأمور في مقابل أمور أخرى أكثر أهمية كالتي ذكرتها.
فيما بعد، اتجهت للنشر خارج مصر في “منشورات المتوسط” بميلانو، حيث دفعت بديواني الثاني “اسمح لليل بالدخول” وحتى الآن أشعر بالرضى عن هذه التجربة. كان السبب الحقيقي، الذي دفعني للنشر خارج مصر، هو رغبتي في التغيير، وربما اختبار تجربتي الشعرية عربيًا، وفي نطاق أوسع، وهناك أسباب أخرى متعلقة بفكرة المقبول والمرفوض، “التابوهات”، لست من المهووسين بكسر التابوه، ولا أعتبره مقياساً لنجاح العمل الفني، لكن ربما رأيت أن هذا العمل به جرأة ربما لا تتفق مع ضوابط ومعايير النشر الحكومي، حددت “الحكومي”، لأنه بات من المعروف أن دور النشر الخاصة، لا تنشر الشعر. جاء الديوان بشكل ممتاز، لكنني لا أعرف شيئًا عن توزيعه، ولستُ مشغولة بهذا الأمر، فمهمّتي انتهت فور أن انتهيت من الكتابة، لكني لا أستطيع أن أتجاهل الحديث عن سعر الكتاب في دور النشر العربية، الأمر الذي يدفعنا إلى السخرية، لكننا دائماً ما نجد عزاءنا في البي دي إف”.