«تاكيكارديا» لأمير تاج السر.. سيرة “الطبيب” تصنعها الشخصيات الجانحة

أحمد مجدي همام

روائي وصحافي من مصر

في الوقت عينه اتخذ الطبيب من الشيخ "عثمان تسلية" صديقاً له، وعن طريقه تعرّف إلى أساطين الحكايات الشعبية وقصص الشوارع والمغامرات المفبركة والممتعة التي يبرع في سردها "تسلية" وأصدقاؤه.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

20/06/2019

تصوير: اسماء الغول

أحمد مجدي همام

روائي وصحافي من مصر

أحمد مجدي همام

يمكننا أن نفتتح هذه المادة باقتباس من منظّر الأدب الفرنسي فيليب لوغون (1938)، وهو أشهر من حفر عميقاً في الكتابات السيرذاتية.. يقول لوغون في حوار له مع شوقي بن حسن: “بعد أن اشتهرتُ كمنظّر للسيرة الذاتية، فاجأني والدي ذات يوم بقوله (ألست تشتغل على السيرة الذاتية؟ سأريك إذن شيئاً يهمّك)، ثم أتى بمخطوط وقال لي (هذه أوراق كتبها جدّي إيكزافييه إدوار عن حياته)”.

يتابع “أمسكت المخطوطات، وكانت مفاجأة كبيرة بالنسبة إلي؛ بداية بأسلوبها الذي وجدت فيه الكثير من الأدبية، وصولاً إلى اختراع المؤلّف لهوية وتغيير بعض معطيات حياته، وقتها ارتسمت في ذهني فكرة الخروج بالسيرة الذاتية إلى فضاءات أوسع من التي كنت أدرسها فيها”. يضيف “كنت في ذلك الوقت قد بدأت أتخلّص من فهم أوّلي للسيرة الذاتية، وأن أهمّيتها ليست في تلك المطابقات النظرية أو التثبّت من مصداقيتها التاريخية، بل في توفيرها لنظرة تلقائية وحميمة على النفس والعالم.”

يمكننا أخذ هذا الاقتباس كنقطة انطلاق في قراءتنا لـ «تاكيكارديا»، أحدث إصدارات الكاتب السوداني أمير تاج السر (1960)، الصادر في 2019 عن “نوفل هاشيت أنطوان” في بيروت.

اختار تاج السر لعنونة كتابه ذي الثمانية عشر فصلاً، مصطلحاً طبياً لاتينياً، معناه “اضطراب في نبضات القلب على شكل تسارع”. وليس غريباً أن يكون العنوان مصطلحاً طبياً في نص سِيَري مؤلفه امتهن الطب منذ عقود، فتاج السر يكتب هنا عن الجانب المهني واليومي والإنساني، الجانب الذي لا يستدعي الكثير من الخيال قدر احتياجه لذاكرة متّقدة وعينٍ صيّادة.

افتتح تاج السر كتابه بهذه التوطئة: “كي أسمّي هذا النص الذي يقارب السيرة إلى حدٍ ما، فكّرت كثيراً، وتوقفت عند أسماء كثيرة، على عكس عادتي، إذ تولد عندي الأعمال بعناوينها، ونادراً ما أفكر في عنوان أو أغيّر آخر. أخيراً اعتمدت (تاكيكارديا Tachycardia) التعبير اللاتيني لحالة تسارع دقات القلب، فقد كانت الأحداث متسارعة، وقلبي معها متسارع الدقات.”

لم يحتج الكاتب لذكر اسمه بشكل مباشر في الأحداث، فقد ناداه أغلب الأشخاص بـ “يا طبيب”، وتلك كانت إشارة أخرى من الكاتب ليقول إن الأمر هو سيرة ذاتية (إلى حدٍ ما) كما أشار في مفتتح الكتاب، ولذلك، جاءت الأحداث، رغم واقعيتها ومصداقيتها، محكمة بما يفوق إحكام الحياة نفسها، متقنة كقصة تمت هندستها برويّة.

العين الصيّادة

يبدأ تاج السر كتابه السيري بفرشة، أو تمهيد وتسخين، فيقدّماً الفضاء المكاني الذي تدور فيه الأحداث، في إحدى مدن الساحل السوداني المطل على البحر الأحمر، وفي أحياء مختلفة من المدينة، المستشفى الرئيسي، أو العيادة المسائية في حي شعبي فقير.. يباشر تاج السر بعد ذلك مباشرة طقسه الأثير في اصطياد الشخصيات الجانحة، المختلفة، العجائبية المضادة للمنطق. يصطاد الظرفاء، ويتناسى اليوميين العاديين، وهذه من ضمن السمات والخصائص التي تميّز “السيرة الذاتية” عن “اليوميات”، وكلاهما يدخلان تحت العنوان الكبير “الكتابة السيرذاتية”.

لذلك كان من البديهي أن ندخل  المستشفى رفقة “الطبيب” عبر قسم النفسية، وحالاته الظريفة والإنسانية، بين أصحاب الحالات الخطيرة، وآخرين يدّعون المرض، ثم يضبط الكاتب عدسته على إعدادات الـ”زووم آوت”، فيتسع مدى الرؤية، ويبدأ في اصطياد الحالات الصالحة للكتابة من حوله، ويحكي الطبيب، عن قصص الحب المعاقة والمضحكة لعامل تخدير مجنون أغرم بنزيلة في قسم النفسية. أو حكاية اليسع نزيل القسم نفسه والبائع المتجول في المستشفى وحبه لممرضة ستينية ذات مشاعر فيّاضة ومكتومة، ثم عرسهما الذي ما إن انتهى حتى ماتت معه الزيجة العجيبة!

والأغرب من الشخصيتين السابقتين هي شخصية سوسو طرب التي تظهر في قسم الباطنة حيث يعمل الطبيب، ثم تلبد في المكان كطحلب ملتصق بصخور الشاطئ، وتحتل غرفة، تحوّلها إلى مبغى للشخصيات المهمة من أصحاب النفوذ، ويغدق عليها هؤلاء ويؤثثون لها غرفة فندقية، الأمر الذي أعجب إدارة المستشفى المتعطشة لأي نفحة. بينما لم يعجب الكثير من الأطباء الذين نظروا لـ “الطبيب” بعين الاحتقار بوصفه قواداً من قسم الباطنة ارتضى أن يحول قسمه إلى ماخور.. تطول قصة سوسو الطرب وتتخذ منحنيات لكنها تنتهي بقرار طردها خارج المستشفى بعد ضبطها متلبسة مع أحد عشّاقها.

“ما هو سبب الوفاة يا دكتور؟”

بدءاً من الفصل الخامس، تظهر شريفة مختار، التي سيتكرر ذكرها كثيراً، وهي سيدة جميلة وبيضاء محبوبة من الجميع، دخلت المستشفى لتضع طفلها الثالث، وبعد ولادتها بساعات ماتت بلا مقدمات، الأمر الذي صدم الجميع وألقى بقتامة الفقد في نهر الأحداث، وهذا الموت، كان مفتتح لظهر الشخصية الأهم في «تاكيكارديا»، بل والسبب الحقيقي لحالة تلعثم النبضات المشار له سلفاً. فـ “مجهول”، شاب يظهر فجأة بعد شهور من رحيل شريفة مختار، ليفتش في سبب موتها، ويتهم “الطبيب” الذي شخّص سبب حالتها “بهبوط في القلب”، بأنه سبب موتها.

يباغت “مجهول” الطبيب في كل مكان، المستشفى، العيادة، الساحة الخالية التي يلعب فيها الكرة مرة كل أسبوع، وأخيراً يظهر عند بيته، ليطرح عليه سؤالاً واحداً لا يتغير: “ما هو السبب الحقيقي للوفاة يا دكتور؟”، الأمر الذي يقلق الطبيب ويدفعه لشنّ هجمة مرتدة، ومحاولة كشف شخصية “مجهول”، وتكلل تلك الهجمة، بالنجاح، بفعل مصادفة عجيبة، إذ يصل الطبيب بعد جولات في الحي الشعبي الذي أقيم فيه عزاء شريفة مختار إلى من يكشف له غموض هذا الطفيلي الذي يطارده، وليس أي شخص، لقد وصل إلى أبيه، “عثمان تسلية”، الممثل الكوميدي المتقاعد، مبتور الساق، وأحد أساطين شوارع المدينة، إذ يجلس على الناصية يراقب الرائح والغادي ويتلقف الحكايات والأخبار، فعل ذلك لسنوات طويلة أهلته ليكون راوي الحي ومخزن أسراره، لكنه ليس مخزناً كتوماً، فقد كان “عثمان تسلية” يستمتع بنقل الأخبار وتداولها ويستمتع باستشارة الناس له عند الإقدام على الخطبة أو الزواج من أحد سكّان الحي.

منذ أن اكتشف الطبيب سر المجهول، الذي اتضح أنه الابن المشرد عبد المطلب “عثمان تسلية”، تأخذ الحكايات مساراً جديداُ، فـ”مجهول” سيرفض الظهور للطبيب، لكنه لن يتوقف عن مطاردته، عبر رسائل يخطها على باب عيادة أو بيت الطبيب، وهذا الأخير يستجيب للعبة، ويضع لوحاً خشبياً في حوش البيت، ليتسلل “مجهول” وقتما يريد ويكتب رسائله للطبيب، الذي يبدأ رويداً رويداً في محاصرته بعد أن تعرّف على ماضيه ونقاط الوهن في تاريخه. وتتحول علاقة الرسائل الغريبة بينهما لحالة من الشد والجذب، التراسل السريع أو الانقطاع عن ذلك لفترات.

تتآكل حكاية شريفة مختار وتُنسى، إذ يبدو أن الطرفين كانا مستمتعين باللعبة، “صندوق الدردشة” لكن في تسعينيات القرن الماضي، على سبورة معلقة في حديقة منزل! تتطور العلاقة إلى نوع من البوح، والعتاب، فضفضة بقصة حب خاضها “مجهول” مع فتاة اسمها إخلاص. أحياناً كان الطبيب يحاول إقناع “مجهول” بأن يزور أباه الشيخ المتهالك “عثمان تسلية”، إلا أن “مجهول” لم يستجب أبداً لذلك.

في الوقت عينه اتخذ الطبيب من الشيخ “عثمان تسلية” صديقاً له، وعن طريقه تعرّف إلى أساطين الحكايات الشعبية وقصص الشوارع والمغامرات المفبركة والممتعة التي يبرع في سردها “تسلية” وأصدقاؤه.

يتقارب الخطّان ويتباعدان، لا يربط بينهما إلا الطبيب نفسه، وغارات “مجهول” الذي اتضح أنه كان طالب طب لم يتمكن من إكمال دراسته، الأمر الذي أصابه بعقدة من الأطباء، فبات يهوى إزعاجهم والتلاعب بأعصابهم. وتمضي أيام السيرة، تتعاقب الفصول والأحداث، وتتسارع نبضات القلب، أو قل إن القلب يشيخ ويصاب بالوهن، فيخفت بريق “عثمان تسلية” ويبدو واضحاً أنه فقد الرغبة في مواصلة الحياة، بينما تظهر رسائل “مجهول” على السبورة أو تنقطع، حسب توتر العلاقة مع الطبيب أو استقراراها، وفي الأثناء يقرر الأخير أن يقبل عرضاً للعمل خارج البلاد، وبالتزامن يصله خبر موت “عثمان تسلية”، دون أن يحقق حلمه برؤية ابنه عبد المطلب أو “مجهول”.

قبل أن يسافر الطبيب خارج البلاد، يذهب ليودّع صديقه “عثمان تسلية” في قبره، وهناك. تقع المفاجأة، عندما يجد الطبيب قبراً جديداً وشاهداً يحمل تاريخ قبل يومين فقط، باسم “عبد المطلب عثمان دفع الله”. لقد التحق الولد بوالده.

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع