صدر في سلسلة “ترجمان” عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب «الاجتماعي وعالمه الممزق: مقالات فلسفية اجتماعية»، وهو ترجمة ياسر الصاروط العربية لكتاب أكسِل هونيت بالألمانية Die zerrissene Welt des Sozialen Sozialphilosophische Aufsätze Erweiterte Neuausgabe. يضم الكتاب مجموعة من الدراسات تُمثّل مناقشات نقدية لمقاربات مهمّة داخل النظرية السوسيولوجية الحديثة، هدفها المشترَك ذو طابع تمهيدي في المقام الأول: يتعلق الأمر بدراسات تاريخية – نظرية، غالبًا على شكل بورتريه للمفكّر، حاول هونيت فيها الظفر بنظرة عامة على الصعوبات السوسيولوجية – الفلسفية التي يواجهها اليوم منهجيًا أيّ مشروع لنظرية اجتماعية نقدية. وجد أنه ينبغي أن تَنتُج وجهة نظر جديدة وموضحة، تتضمّن في مسار النقاش عناصر تقليدية من الفلسفة الاجتماعية الفرنسية خاصة؛ غير أن الدراسات المجموعة في الكتاب لا تهدف إلى أكثر من مساهمة غير مباشرة، تلقي الضوء على المشكلات المتعلقة بحالة النظرية الاجتماعية النقدية، أكثر مما تبحث عن أجوبة.
مركز ومحيط
يتألف هذا الكتاب (355 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) من اثني عشر فصلًا. في الفصل الأول، “عالم من التمزّق: حول الراهنية الخفية لأعمال لوكاتش الأولى”، يقول هونيت إن الحجج النظرية والإجابات التي تحتويها بواكير أعمال جورج لوكاتش الفلسفية ليست ما يثير الاهتمام اليوم، إنما المسائل الموضوعية التي لفت الانتباه إليها. فقد تبنّى المقاربات المختلفة في النقاشات الفكرية لمطلع القرن، كي يتمكّن من تقدير ما تستطيع تقديمه من حلول للمسائل الوجودية التي كانت تشغله.
يقول هونيت في الفصل الثاني، “نظرية نقدية: من مركز إلى مُحيط تقليد فكري”، إنه على الرغم من الاهتمام المستمر الذي تثيره النظرية النقدية حتى اليوم، ينتشر وعي أكثر اتزانًا في ما يتعلق بإسهاماتها النظرية. فكل موجة تلَقٍّ جديدة للنظرية انتزعت من مشروعها القديم جانبًا من الافتتان الذي استُقبِلت به في بدايتها، وأنزلتها إلى المرتبة الواقعية بصفتها مقاربة نظرية قابلة للامتحان؛ وجب على كل محاولة لإعادة بناء منهجية للنظرية النقدية أن تنطلق من النتائج النقدية التي طرحتها هذه العملية. يحاول هونيت إعادة بناء منهجي للنظرية بإضافة أعمال مؤلفين احتلوا مكانة هامشية في معهد الأبحاث السوسيولوجية أي انتموا إلى الأطراف.
حداثة وأنثروبولوجيا
في الفصل الثالث، “فوكو وأدورنو: شكلان من نقد الحداثة”، يرى هونيت أنه كما في جدلية التنوير، وضع نقد الحداثة لدى ميشيل فوكو خبرة تعاظم السلطة والعنف في نقطة المركز؛ يرى تاريخ التحرر الإنساني في تيار عملية وحيدة هي عملية توسيع السيطرة. ويتم نزع الحجاب عن عملية الحضارة الذي صنعه الإيمان بالتقدم والتفاؤل بالتنوير، من خلال تسمية “قدر الجسد”: الفعل الصامت لاستعباد الجسد الإنساني الذي رأى أدورنو وهوركهايمر فيه تاريخ أوروبا التحت أرضي، تعرّف فوكو عليه في التأديب اليومي للجسم، وفي ترويضه المُحكَم.
في الفصل الرابع، “كشاف تواصلي للماضي: عن العلاقة بين الأنثروبولوجيا وفلسفة التاريخ لدى فالتر بنيامين”، يقول هونيت إن استخدام فالتر بنيامين الذاكرة غير العشوائية لأجل استعادة طفولته الخاصة، استرشد بها منهجيًا كي يحدد أسلوب كتابة تاريخية مضادّة للتاريخانية. يظهر الهدف الذي سعى بذلك إليه من الوظيفة الأخلاقية التي يجب على عمارة التاريخ أن تتنكب لها: لأن عليها أن تُولِّد صورًا من الماضي تستطيع أن تدخل في علاقة تواصلية مع خبرات الحاضر. قام بنيامين بمحاولة صعبة، لا بل جريئة، تتمثل بتطبيق مجمل تقنياته السردية على عرض التاريخ.
ثنائية كيانية
يرى هونيت في الفصل الخامس، “روسو بوصفه مفكّرًا بنيويًا: عن أنثروبولوجيا كلود ليفي ستروس”، أنه كما أن اسم كلود ليفي ستروس معروف ومنتشر في أوساط الرأي العام العلمي، فإن سوء تفاهم كثير التبعات منتشر أيضًا: لكأنما كرّس هذا المفكِر أعماله في سبيل بناء علم أنثروبولوجي، يتمثّل هدفه في التحليل اليقظ لبنية الأساطير وأشكال القرابة. يُقال عن ليفي ستروس إنه استعمل أساليب الألسنية البنيوية في بحوثه الإثنولوجية لأنه أراد أن يمنحها طابع العلم الموضوعي؛ ويُنظر إلى محاولة جعل دراسة الحضارات الغابرة أكثر علميةً بما يفوق ما توصّل العلم إليه، وكأنها النواة المركزية لنظريته.
في الفصل السادس، “عقل مرتبط بالجسد: عن إعادة اكتشاف مرلو بونتي”، وبالنسبة إلى تحديد علاقة الجسد بالعقل التي وقعت في صلب اهتمام موريس مرلو بونتي في بحوثه الظاهراتية بشأن الخبرة الوجودية للإنسان، يقول هونيت إن هذه الأفكار النظرية عن الإدراك سبّبت عواقب هائلة، نتجت منها الملامح الأساسية لنقد الثنائية الكيانية التي أصبحت في التقاليد الديكارتية مسلّمة فلسفية.
اجتماعية أو بينية
في الفصل السابع، “إنقاذ أنطولوجي للثورة: عن النظرية الاجتماعية لكورنيليوس كاستورياديس”، يقول هونيت إن النظريات التي صاغها كاستورياديس تمثّل أحد أكثر الإنجازات إثارة للإعجاب، فعمله ولد من الدافع نفسه الذي تغذّت منه النظريات النقدية الاجتماعية، أي إنقاذ النيات العملية – السياسية لأعمال كارل ماركس، من خلال التخلي الحاسم عن مسلّماتها الأساسية. ابتعد كاستورياديس عن الإطار النظري للماركسية كي يتمكن من إنقاذ نواتها العملية، أي فكرة قلب النظام الرأسمالي ثوريًا، لذلك تدور تعاليمه حول الثورة.
يجد هونيت في الفصل الثامن، “كفاح من أجل الاعتراف: عن نظرية البينيّة الذاتية لسارتر”، أن من بين الفلاسفة الذين أنجبهم قرننا، كان جان بول سارتر أكثرهم راديكالية. ظلت نظريته الفلسفية مرتبطة بخبرات معاصريه الوجودية الدنيوية. وتتشارك فلسفة سارتر مع مشاريع أخرى للتقليد الظاهراتي في ميزة تسويغ أكثر الأمور تجريدية من خلال الإحالة الدائمة إلى مجريات الحياة اليومية، إلا أنها تتميز بطابع الخبرات اليومية المُستفاد منها نظريًا، ففيها تكتسب الإنجازات الحياتية للثقافة اليومية للمدينة شرعية فلسفية.
عالم ممزق
في الفصل التاسع، “العالم الممزق للأشكال الرمزية: حول عمل بيار بورديو الثقافي – الاجتماعي”، يقول هونيت إن بورديو وجّه اهتمامه إلى عالم البنى الرمزية، وما جذب انتباهه كان المجالات التي تتمثل بالعادات الثقافية وأشكال التعبير الرمزية التي اعتادت الماركسية رفضها باعتبارها منتوجًا جانبيًا لإعادة الإنتاج الاجتماعية. لكن بورديو الماركسي حاول تحليل البنية الاجتماعية التي يرتكز عليها مفهوم الصراع الطبقي بطريقة تتيح لتفحّص علمي للواقع الثقافي أن يندمج في التحليل المذكور، جامعًا بين عنصرين لا يمكن الروح التصنيفية التقليدية لعلم الاجتماع أن تتحملهما معًا.
يرى هونيت في الفصل العاشر، “الديمومة اللانهائية لحالة الطبيعة: حول المحتوى المعرفي النظري لكتاب كانيتي ’الجماهير والسلطة‘”، أنه خلافًا لمحاولات تفسير ظاهرة تشكيل الجماهير في القرن العشرين، لا يقف الحكم المسبق السلبي للناقد في بداية تحليل إلياس كانيتي إدراك قوة جاذبية الجماهير، إنما الشعور الملتبس للمتاح. ومن يسمح لنفسه أن يسترشد بمنظور كهذا، عليه أن يتدبّر أمر الدوافع التي تؤدي إلى مشاركة الجماهير في حالة الهيجان. رآها كانيتي طوال حياته في حقيقة قابلية البدن البشري للاستهداف؛ فالإنسان بالنسبة إليه مجبول بالخوف من الملامسة الجسدية. تشكّل هذه الملاحظة نواة نظرية كانيتي حول الحياة الاجتماعية، وهي مفتاح تحليله العمليات الجماهيرية وتفسيره السعي وراء السلطة.
بلا مذلّة
في الفصل الحادي عشر، “الذات في أفق القيم المتصارعة: حول الأنثروبولوجيا الفلسفية لتشارلز تايلور”، يقول هونيت إن تايلور يشارك الروح الواعية المتشربة بالديمقراطية للفلسفة الأنكلوسكسونية التزام نمط تفكير مرتبط بالمحاجة. فبالنسبة إليه، بدهي أن يكون التطوير الواضح للحجج، القابل للفهم بذاتية بينية، هو المبدأ الرائد في بناء النظرية الفلسفية، حتى إنه صاغ كتاباته وكأنها موقف مباشر في نقاش عقلي.
في الفصل الثاني عشر والأخير، “مجتمع دون إذلال؟ عن مشروع أفيخاي مرغليت لـ ’سياسة الكرامة‘”، يقول هونيت إنه يُفتَرَض بمصطلح الإذلال وصف الممارسات المؤسساتية التي يرى فيها الأفراد انتهاكًا لاحترامهم الذاتي. انطلاقًا من ذلك، استنتج مرغليت عاقبتين: الأولى، لا ينبغي اختزال مصطلح الإذلال في انتهاك حقوق الإنسان فحسب، فربما يُحقّر الشخص بغير ما تشمله حقوقه المعترَف بها عالميًا؛ وتتعلق الثانية بالمعنى الضيّق لمصطلح الإذلال نفسه، فالمفترَض أن يكون مقصودًا بالأفعال المُذِلّة تلك الممارسات التي يمكن الأشخاص عبرها أن يروا أنفسهم منتهَكين في جانب يطلق مرغليت عليه اسم الاحترام الذاتي. ويرى أن الممارسات الإذلالية تجرح شعور الناس تجاه أنفسهم، بينما يتعلق بُعد الكرامة بتصرّف البشر في محيطهم الاجتماعي.