مدينةٌ مجهولةٌ من بلادٍ مجهولةٍ مثلها؛ ضائعة في ثنايا تاريخ لم يبقَ منه شيء؛ سوى بقية باقية في ذاكرة يونس جلول، بطل رواية “جهات الجنوب” للكاتب ممدوح عزّام، (سرد للنشر – 2019)، الذي يعود بنا عبر الذاكرة ليعرفنا إلى تلك المدينة، أو بالأحرى البلد التي جرتْ فيها أحداث الرواية؛ فالجنوب، بما له من معانٍ، وما له من ذكريات ووجود في الذاكرة الجمعية لجميع السوريين، البلاد التي قاربت مجريات الحكاية التي يرويها يونس فيها حوالي نصف قرن، لتأخذنا في رحلة حياتية عبر الزمن إلى الثورات التي قام بها الشعب السوري ضد الاحتلال الفرنسي، قضية فلسطين، الوجود الإنكليزي في المنطقة، قدوم اليهود، فترة الانقلابات، لتنعطف تلك الرحلة ممسكة بتلابيب التاريخ إلى الحاضر، فيتماهيان معاً في كل واحد، مع قصة بطلها الذي كان سجيناً في إحدى المستعمرات الفرنسية في جزيرة الغوايانا، ويفرج عنه بعد ست وعشرين سنة.
يكتنف مصير يونس الغموض، ولا يدري إلى أين يذهب؛ بعد خروجه من السجن، فما بقي الناس أناساً كما كانوا، سوى بعض الأصدقاء الذين كان يرافقهم، ويعرفهم قبل أن يسجن كل تلك المدة. وما يقصده البطل هنا، هو أن جميع الأشياء تغيرت، ليس بالضبط الناس، بقدر ما كان يعنيه الواقع الذي انتقل إليه البلد بعد عودته، إذ أنه لم يعد بإمكانه أن يألف شيئاً، بل، وصارت الأمور بالنسبة إليه مريبة، فبعدما يسجن بسبب حادثة هجومه على ثكنة عسكرية فرنسية، وبعدما كان الهدف واحداً بالنسبة لجميع أبناء البلد، يجد أن الوضع قد تغيّر، وتخرج السلطات الجديدة عن ذلك، فيتحوّل هاجس العمل من أجل النفع العام، إلى الخاص، وتسود دوريات الأمن والشرطة المكان، ويصبح من الصعب إمكانية التعايش مع هكذا وضع بالنسبة لإنسان مثله قضى ربع قرن من عمره من أجل بلده، لدرجة أنه أخذ يتمنى العودة إلى السجن في جزيرة (غوايانا) مجدداً، لتظهر حالته جليّة في قول الراوي: “صمت بعد ذلك؛ وهو لا يعرف ما الذي يأتي بعد شرْطه: الموت أم الحياة؟ مرات فكّر أن يخرج إلى الشارع، وينادي باستعادة سنواته الضائعة من كل عابر سبيل، أو ساكن، أو حاكم، ما داموا لا يعبؤون به. وفي مرات أخرى فكّر بالعودة إلى مقهى إدمون في الغوايانا، والبقاء هناك حتى الموت”.
يخرج يونس من السجن، ويبدأ بالبحث عن زوجته خيزران وولديه، يتعرف إلى صديقه أبو الريش المدمن، والعاشق لأغاني فريد الأطرش، وأسمهان، ويسعى يونس إلى التواصل مع الإسكافي أبو علي، الذي حارب في فلسطين، ورأى بعينيه بدايات هجرة اليهود إلى فلسطين، ويتابع الراوي سرد الحكاية مستذكراً ملامح من تاريخ المنطقة، لجعلها جسراً يعبر من خلاله إلى الحاضر.
تاريخ حافل بالأحداث، وذاكرة تروي قصصاً لا تنتهي عن أبطال قاموا بتمثيلها على أكمل وجه، ليغدو ذلك التاريخ شرطاً لا بد من التذكير به، للوقوف على الحاضر، ومعرفة ما جرى، ويجري، وإلى أين تمضي الأمور، ولماذا، سرد متتابع له، ليوضح لنا ملامح رجال دفعوا حياتهم ثمناً لتلك التجربة المريرة، وضحوا بكل ما يملكون من أجل أن ينتهي الظلم، ويرحل المستعمر، الذي دخل البلاد عنوة، لتتغير خارطتها فيما بعد، بل خارطة المنطقة برمتها، إذ لم تتوقف سجالاته مع قدوم فرنسا، بل كانت إنكلترا هناك أيضاً، وإلى جانب اليهود، وبعد خروج فرنسا وإنكلترا من المنطقة يشعر السكان بوطأة سلطة أقسى وأظلم منهما معاً، وهي سلطة الداخل، والقوى التي تحكمت بالواقع، فتهاوى كل شيء دفعة واحدة، ووقعت البلاد أسيرة قهر جديد، يصف لنا الراوي تلك الحقبة من الزمن بقوله: “ثمة سفن، وجيوش، وأسلحة لا تعد، كانت تنزل هناك، يقودها ضباط إنكليز، مشحونون بالحماس، والغضب. ثم أخذت السفن تأتي بحمولات من المدنيين… كان يراقب وصول اليهود بعينين مندهشتين، مليئتين بالأسئلة… شعر أنه يتحول إلى متواطئ يحمل آلات موت الفلسطينيين على كتفه كل يوم في بور حيفا”.
لا يسرد الراوي الأحداث إلا ليربط بين الماضي والحاضر؛ في سلسلة لا متناهية؛ لظلم لا متناهٍ، فلو لم يكن الماضي موجوداً لما كان الحاضر، والمستقبل، ولو لم يدخل يونس جلول السجن الفرنسي، ويعاني من الغربة كل تلك السنوات لما حدثت هناك مفارقة بين مرحلتين، وبين جيلين، مرحلة الاستعمار الفرنسي، وثورة الشعب ضده، وتمكنه من التخلص منه، ومرحلة الانقلابات العسكرية، والسلطات الجديدة التي تعاقبت على الحكم، ليكون التمايز بينمها ظاهراً للعيان، بعد كل تلك السنوات، ليدرك يونس عبثها، وذهابها دون فائدة، ولو عرف أنه سيصطدم بواقع كهذا، لما تمنى أن يغادر السجن لحظة واحدة، فهو قد عرف سريعاً بـ “أنه صار وحيداً.. ثم تذكر أنه، قبل ست وعشرين سنة، كان قد رصف هنا، بنفسه، مئات الحجارة، يوم اعتقلوه في زنازين الفحم. كان ذلك الماضي جزءاً من ماضٍ أحمق كالغبار، كل ما يريده هو أن ينساه، لكن كيف؟ هل يقطع حبل سرّته؟ أم يخفيه داخل علبة من موزاييك الخشب؟ مستحيل! ذلك أنه اكتشف الآن أن ما من شيء حقيقي سوى الماضي وحده. فها هو ذا يقف هنا غريباً لا يرافقه أحد إلا الذكريات.”
غابت نهاية البطل يونس عن الأعين، فلم نعرف إلى أين انتهت، فلقد تركها الكاتب مفتوحة هكذا، لكنه مهّد لها بالكثير من الأمور والوقائع التي دلّت عليها، فالصدمة التي تلقاها بعد خروجه من السجن، والظلم الذي أخذت الناس تتعرض له، ومحاصرة دوريات الشرطة والأمن الجميع، والحصار الخانق المفروض عليهم من قبلهم، وظهور بوادر لمشاكل كبيرة، جعلت من نهايته مغيّبة، ولكن التكهّن بها ليس صعباً، إذ أنه، وإن لم يمت برصاص الجنود؛ فلا بد، وأنه لا محالة، سيموت من القهر، والاستلاب، بعد معاناته تلك، فحين عاد “إلى الحي القديم. كانت الصدوع في رأسه تزداد، وكان شعور ثقيل شاق يرهقه. لم يعرف ماذا سيفعل الآن تجاه تلك الحشود العمياء التي تقتحم المدينة. أين سيذهب؟ إلى أي أرض، أو إلى أي بلاد؟… هتف يونس بآخر ما تبقى لديه: (الأمان! الأمان!)، فصرخ الضابط بجنوده: انتبه! خرطش الجميع بنادقهم، وصوبوها بانتظار كلمة النار الأخيرة.”