مئات الأفلام التي خرجت من غزة تتحدث عن الحرب لكن نادرة هي الأفلام التي تناولت “الأمومة” خلال الحرب، وما يقع على المرأة من مهام ومسؤوليات، والرعب الذي تشعر به خوفاً على أطفالها وبيتها ومحاولتها حمايتهم، إلا أن فيلم “الغول” للمخرجة آلاء الدسوقي كان سابقة في تسليط الضوء على هذه المعضلة ليس وثائقياً أو في تكرار للأفكار والموسيقى وقصص الحزن والأسى التي تضج بها أفلام الحرب، بل بطريقة إبداعية ومبتكرة.
فقد صورت الدسوقي فيلمها في غرفة واحدة تهتز بفعل أصوات القنابل خارجها، دون حوار بين شخصياته، بل عبر ثلاث رقصات تعبيرية للأم التي تلعب دورها الممثلة ومصممة الرقص أولينا مسلم تعبر فيها عن الخوف والموت، والتي تحاول حماية أبنائها الذين يهربون من زاوية إلى أخرى حيث الأماكن الوحيدة التي يستطيعون الاحتماء بها هي في حضن أمهم وتحت لحاف السرير، يرتدون الأبيض كأنهم مجموعة من الأشباح أو الموتى الأحياء يرقصون خوفاً وطلباً للحياة.
وفي موقع واحد للتصوير استطاعت المخرجة الشابة أن تترك انطباعاً لا تفعله عشرات الأفلام الضخمة التي قد تتحدث عن الموضوع ذاته، فالغول في الفيلم هو رعب الحرب التي تسلب الأمان والحياة.
كما أنها من الأفلام المتميزة التي استطاعت أن تجمع بين الواقع والفانتازيا، وجريئة في بحثها عن التعبير السينمائي المغاير للخوف الذي يصيب الأمهات في الحروب.
ويأتي اسم الفيلم “الغول” من فكرة شعبية في الثقافة الفلسطينية، وهي حكاية الغول التي تقصها الأم على الأطفال كي يذهبوا للنوم باكراً فإذا لم يفعلوا سيخطفهم ويأكلهم، أما اليوم فلا يحتاج هؤلاء الأطفال إلى حكايات الغول لأن الحرب غول، تتربص بهم وبأمهاتهم أيضاً، وتأكلهم أحياء في القصف أو الغرق دون حاجة لاستعادة القصص الشعبية كالغول و”أبو رجل مسلوخة”.
بل إن الحرب أقسى وأكثر صدقاً، فلا يأتي ليلها إلا وظلمتها أشد من أي وقت بسبب قطع الكهرباء، والقصف الشديد، ليتجول الموت بين أزقة وبيوت قطاع غزة، لا يفرق بين طفل أو رجل أو امرأة أو مسن.
وهذا الفيلم واحد من عشرة أفلام من إخراج مخرجات فلسطينيات شابات من الضفة الغربية، القدس وقطاع غزة، قامت مؤسسة “شاشات سينما المرأة” بإنتاجها والإشراف عليها، وتوفير الإمكانيات اللازمة لنجاحها، وسيتم إطلاقها في “مهرجان شاشات الحادي عشر لسينما المرأة” الذي يحمل عنوان “أنا فلسطينية”. وتبحث هذه الأفلام في البعد الذاتي للانتماء والهوية، كما تركز على تعبيرات متشعبة عن حيوات المرأة الفلسطينية المتعددة التي تعطي عمقاً إبداعياً وذاتياً لتصورات سينمائية حول العلاقة مع الأشخاص، الأشياء، المشاعر، الأماكن، الحكايات والعلاقات.
وتسلط الأفلام الضوء على إعطاء عمق شخصي لكيفية تعزيز المواطنة بأبعادها المكانية والزمانية وفضاءات احتمالاتها، إذ تشكل أفلام “أنا فلسطينية” جزءاً من مشروع “يلاّ نشوف فيلم!” الذي تنفذه مؤسسة “شاشات سينما المرأة”، وهو مشروع ثقافي/مجتمعي ممتد على ثلاث سنوات بتمويل رئيسي من الاتحاد الأوروبي وتمويل مساعد من مؤسسة (CFD) السويسرية وممثلية جمهورية بولندا في فلسطين، ويستهدف جمهور واسع وفئات مجتمعية مختلفة في سعيه إلى تطوير قدرة الفئات المجتمعية المختلفة على النقاش والتفاعل المتبادل، وذلك بهدف تعزيز المواطنة وحرية التعبير والتسامح والسلم والمسؤولية المجتمعية وتماسك النسيج الاجتماعي.
ويبدأ الفيلم من مشهد جلوس الأم أسفل نافذة ينبعث منها ضوء غروب الشمس، فتمسك المذياع باحثة عن محطات إذاعية واضحة ويتخلل ذلك البحث؛ مرور صوت الإسعاف وموسيقى الأخبار العاجلة، لكن دون جدوى، فالإرسال متقطع، كما تقطع الكهرباء، ويحتل الظلام جو الغرفة وتضيء الأم الفانوس، في هذا الوقت يهز الغرفة صوت انفجار، فيركض الأطفال إلى فراشهم فلقد جاء الغول، فتحتضن الأم أطفالها محاولة أن تُشعرهم بالطمأنينة.
ويكون التركيز في أغلبية المَشاهد على مؤثرات تتسق مع حالة الاضطراب والخوف وهنا تبدأ رقصة تعبيرية لمدة دقيقة ونصف للأم (رقصة الخوف)، ولأن ليل الحرب طويل، فتمر الليلة وكأنها سنين، فتتخذ الأم وضعية أخرى حيث ينام الأطفال في حضنها، ويخبئون وجوههم لشدة الانفجارات، وهنا تبدأ (رقصة التدمير)، مع تصاعد الموسيقى يحدث انفجار وتحل عتمة غير مسبوقة، ومع حركة للأقدام ففي كل مرة تضرب قدمها بالأرض يتناثر الغبار الأبيض والأسود، لترقص الأم رقصة (الفقد) الأخيرة، ويصيب الخراب الغرفة.
وشرحت المخرجة الدسوقي أن مديرة المشروع والمنتجة علياء ارصغلي كانت على تواصل معها ومجموعة أخرى من المخرجات الشابات اللواتي تم تدريبهن من قبل “شاشات” خلال الأعوام 2011 و 2012 بشكل شبه يومي خلال حرب 2014. في محاولة للتخفيف من روع الحرب وأثرها عليها فقد كانت تقول لها “فكري كيف تعبري عن ماذا تشعرين وعما يحدث لك”.
واستطردت المخرجة دسوقي “كتبت فكرة فيلم الغول بعد حرب 2014 إذ تم طرح مشروع لكتابة أفلام تتعلق بالحرب وما عايشناه خلالها، فبدأت بكتابة هذا الفيلم”، موضحة أن من يعيش الحرب لديه على الدوام مذكرات خاصة، لا يفهمها أو يشعر بها، إلا من عاش حرباً مماثلة سواء كتبها أم بقيت في ذاكرته.
وتشرح الدسوقي سبب كون فيلمها يعتمد على المؤثرات الصوتية بشكل رئيسي حيث أبدع مصمم أشرطة الصوت والموسيقى جبر الحاج، كما المونتير أحمد الوحيدي في التعبير عن فكرة المخرجة. “كنت أسمع الحرب ولا أراها إذ نطلق عليها سخريةً بحفلة الليلة؛ ففي الليل يشتد القصف، ما يجعلني أنام بعد السابعة صباحاً حيث النهار مرحلة الاستهداف المخطط من قبل الاحتلال، وهي مرحلة خطيرة أيضاً، لكنها أقل ضوضاء، ومن هنا أردت أن أستخدم في فيلمي أصوات القصف مع لغة الموسيقى التي طالما كانت أقرب للقلب، بالإضافة إلى المؤثرات الصوتية والبصرية والرقص التعبيري”.
وفيما يخص صعوبات تنفيذ الفيلم على أرض الواقع قالت: “لا يوجد شيء سهل أو بمنتهى الصعوبة، الفيلم بكافة مراحله بداية من البحث عن الطاقم، واختيار الممثلين، وإعداد الموقع والملابس والديكور بشكل عام، والموسيقى والمؤثرات، جميعها مراحل استغرقت وقتاً ليس ببسيط، خصوصاً التصوير الليلي”.
وتلفت إلى أن التصوير تم في منطقة مخيم جباليا خلال فترة الدوام المدرسي وانقطاع الكهرباء، وكان المولد الكهربائي الذي تم استخدامه خلال تصوير الفيلم يسبب إزعاجاً للمنطقة، إضافة إلى تصعيد إسرائيلي وقصف، الأمر الذي وبالمصادفة خلق أجواء مناسبة لروح الفيلم، متابعة: “فيما بعد كانت أصعب مرحلة هي ربط الفكرة كاملة في دقائق بسيطة، ليخرج في النهاية هذا العمل.”
وحول فكرة ربط الفانتازيا كالرقص التعبيري بموضوع شديد الواقعية كالقصف أوضحت أن الكلمات كانت عاجزة عن وصف المشاعر، لذلك جاء التعبير عن الألم أو الفرح أو المشاعر أفضل بالرقص والموسيقي، مضيفة: “هناك إيحاءات يصفها الجسد بجانب الموسيقى أكبر بكثير من الكلمات، وخصوصاً أنا شخصياً في حياتي لا أعبر بالكلمات كثيراً”.
وما يربط هذا الفيلم الذي تنطبع فيه هوية المُخرجة وشخصيتها بصورة لا شك فيها، بثيمة المشروع “أنا فلسطينية” كون الفيلم يعبر عن حياة أي إمرأة فلسطينية تحمي أطفالها من غول هاجمهم كالحرب، وقد يكون نفسه ذات الغول الذي هاجم أجدادها سابقاً في عدة حروب وصراعات، إلى أن أصبح ما يميز هوية هذا الفلسطيني الفقد، أو الأسر، أو اللجوء.