«لا تخبر الحصان»… ٦ رواة يسردون حكاية “سالم النجّار” وحكاياتهم

أحمد مجدي همام

روائي وصحافي من مصر

وبين هذه الحكايات، يبقى الحصان، وحضوره، وتباين علاقات أفراد الأسرة به، وقدرته على اجتذاب محبين جدد مثل كاملة، ونائل الابن السري القادم من بعيد، يبقى الحصان مركزاً للحكاية، مركز لا تفيض منه الكثير من الحكايات، وإنما مركزاً افتراضياً للقص، مركز وهمي الدائرة، وعاصمة "رقمية" للرواية.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

22/07/2019

تصوير: اسماء الغول

أحمد مجدي همام

روائي وصحافي من مصر

أحمد مجدي همام

طبقات متراكمة، ومسارات متعددة للحكاية، هندسها الروائي السوري ممدوح عزام (1950)، في روايته الأحدث «لا تخبر الحصان»، الصادرة مطلع هذا العام عن دار “سرد” للنشر والتوزيع.

تقاطعت الرواية، منذ سطرها الأول، بل قبل سطرها الأول، مع محمود درويش، في سطره الشعري الشهير “لماذا تركت الحصان وحيداً؟ لكي يؤنس الدار يا ولدي”. والحصان المعني هنا، هو ذلك الذي رافق سالم سعيد النجّار، الدركي الدرزي، في خدمته الأمنية والحدودية، لمسافة زمنية تربو عن الخمسة عشر عاماً، حتى بات ذلك الحصان -واسمه صُبح- شريكاً رئيسياً في الحكاية، ورفيق درب الدركي المتقاعد سالم النجار منذ سنواته المبكرة في الخدمة الشرطية، وحتى لحظة أسلم الروح.

كانت في حياة سالم النجار نقطتان هما المحركان الرئيسيان للسرد، الأولى تتمثل في هذا الحصان الذي فرضه سالم النجار فرضاً على عائلته، يشاركهم الدار والقوت واهتمام الأب، بل هو الكائن الحي الوحيد الذي يوليه سالم النجار عناية وحباً واهتماماً. أما النقطة الثانية، فتمثلت في الزواج السري لسالم النجار، والابن الذي أنجبه في مدينة بعيدة عن مقر أسرته في دير القرن بالريف السوري ناحية السويداء. ولم تقف جرائر سالم النجار في هذا الملف عند هذا الحد، فقد أسلم سالم واعتنق المذهب السني ليتمكن من الزواج بزاهية أم ابنه السري.

مسار الأحداث فرض على الروائي أن يحجب بعض الحقائق المرتبطة بشخوصه، ويبرز البعض الآخر، يخبئ معلومة في كم قميصه ويشهرها في الوقت المناسب كورقة آس رابحة. لذلك عمد عزام إلى تقنية تعدد الرواة، أو (البوليفونية)، فيتناوب أفراد الأسرة سرد الحكايات (الأم سليمة، والأبناء فاضل ونوفل وكامل وواصل وكاملة)، كل واحد من وجهة نظره وزاوية الرؤية المتاحة له، ولثقافته وعمره وميوله، فتتكامل الحكايات أو تتعارض، تتناغم أو تتضارب، لكنها دائماً متداخلة، متشابكة كأفرع أشجار دغل صغير.

يبدأ السرد على لسان كامل، الابن الأوسط، الأطيب، الوحيد الذي استطاع أن يحب الحصان، والوحيد الذي تقريباً لا يمتلك أي قدر من اللؤم والنوايا المخبأة، يقدم كامل تمهيداً للأجواء الأسرية ولوضع العائلة في اليوم الذي سيحال فيه الدركي سالم النجار إلى التقاعد، ثم ينتقل السرد لاحقاً إلى فاضل، الأخ الأكبر، ذو الجسد القوي والعازم دوماً على الاستقلال عن الأسرة، المشتت بين طموحاته الحزبية البعثية، ورغبته المتذبذبة في الاقتران بابنة عم أبيه، أنوار، على الرغم من أن هذا الاقتران سيقود لمشاكل عائلية جمة نظراً لتاريخ من المنافسة والندية بين أبيه سالم النجار وأبي أنوار، واسمه داود عمران.

وهناك أيضاً نوفل، الابن الثاني، الوسيم المثقف الرشيق العصري الساعي للانضمام للأحزاب الشيوعية والمنكل به بالتبعية، من البعثيين. العلاقة بين فاضل ونوفل متراوحة، في مراهقتهما تظهر بينهما علامات الندية، لكن بعد سنوات، وعندما يستطيل جسد فاضل ويتضخم ويغدو رجلاً هائل الجثة، سيسيطر الأخ الأكبر على أخيه الأصغر، أو بالأحرى سيحاول، وسيتصدى نوفل، مشهراً ذكاءه وانحياز أمه الدائم له باعتباره خازن أسرارها وشبيهها.

أما واصل، الابن الرابع، فهو بركة البيت، ومجذوب الضيعة، الذي فشل في الدراسة وجلس منذ الصغر في البيت رفقة أمه، يأكل التراب والورود ويرفض أن يكبر، وفي الأمسيات الصيفية يجلس في الظلام ليستمع إلى الراديو، هذه العادة التي لن يستطيع أن يقلع عنها أبداً. واصل هو عضو الأسرة الذي يُسمح له بفعل أي شيء وكل شيء باعتباره شبه مجنون.

وأخيراً هناك كاملة، الأخت الصغرى الصامتة المحايدة الخائفة دائماً، ضحية التحكمات الذكورية الشرقية، فكاملة، وبعد انتهائها من الصف السادس الابتدائي، لن يسمح لها، بمواصلة تعليمها، في المدينة، وستؤمر بالبقاء في البيت رفقة أمها وواصل الصغير، في انتظار العريس.

سمحت تقنية الأصوات السردية، أو تعدد الرواة، بتقديم الحكاية مشظّاة، مفككة تفكيكاً فنياً، بالضبط كالساقية، تغرف الماء من النهر ذاته، لكنها لا تقدم مع كل دورة، القطرات عينها، لذلك بات منطقياً أن يجد القارئ نوفل يلقي بالكثير من اللوم على أخيه الأكبر، متهماً إياه بالأنانية والوصولية، ثم يعود القارئ ليجد أن الأخ الأكبر، فاضل، يبرر موقفه، أو يطرحه بشكل مختلف، ويفسر دوافعه الخفية، وأهدافه، فيحصل على البراءة، ويتضح أن اتهامات نوفل ليست سوى الحقيقة، ولكنها مصبوغة باللون الذي اختاره نوفل. أو اللون الذي يختاره كل سارد في فصله.

قدّم ممدوح عزام لكل راو لغته، فلا تشبه لغة فاضل مثلاً، وهي متدفقة، وذات منطق داخلي متماسك، لغةً واصل الصغير، ذي المقاطع السردية القصيرة، والحس الطفولي الكارتوني، الأمر الذي أسهم في منح الرواية هذا القدر العالي من المصداقية، وجعل حكايات كل راو، تشبهه، وتشبه تصور القارئ عنه، وتناسب مستواه العقلي والعمري.

ولكن، على الرغم من هذا الاعتماد الكبير على “البوليفونية”، فإن مقاطع بلسان الراوي العليم، كانت تتخلل السرد، لا يفصلها عن سرود الرواة سوى فاصل (قطع)، وسمحت هذه الإضاءات، القادمة كأنوار أبراج المراقبة على باحة سجن أو ملعب، بتفسير بعض المناطق المظلمة في السرد، وتوفيق بعض الغموض والتعارضات بين حكايات الرواة.

تدور أحداث الرواية في سوريا منتصف القرن الماضي، في عائلة درزية، تنتمي لآل النجار الذين يعلق كل واحد منهم على جدران مضافة داره شجرة بنسب العائلة، حيث يحرص الكثيرون من آل النجار على صفاء السلالة، ونقاء الدم، فيعمد رجالهم إلى السفر إلى جبل لبنان ليجلب كل منهم عروسه الدرزية ذات الدم النقي.

في خلفية الأحداث، نلمح محطات تاريخية، مثل وصول البعثيين للحكم، وقصف دمشق، والحرب، وأخبار جمال عبد الناصر الذي أسر العرب وأحبوه واتخذوه زعيماً. وعبر تلك الخلفيات التاريخية، تتدفق الحكاية، وتتشعب، وتتقدم، فيختفي زوج أنوار في الحرب لتلجأ إلى فاضل وتقيم في بيته وتنشأ بينهما علاقة سرية سرعان ما تفتضح، علاقة تُشعر الأم بالعار، ويشعر معها الأب بأن ابنه انتقم له من غريمه القديم. وفي تفاعلات الأحداث أيضاً يجري اعتقال نوفل، والغريب أن من وشى بكونه شيوعياً هو أخوه الأكبر فاضل، في شطحة غيرة، بسبب تقرب نوفل من فتاة كان فاضل يبيت النية ليخطبها.

وبين هذه الحكايات، يبقى الحصان، وحضوره، وتباين علاقات أفراد الأسرة به، وقدرته على اجتذاب محبين جدد مثل كاملة، ونائل الابن السري القادم من بعيد، يبقى الحصان مركزاً للحكاية، مركز لا تفيض منه الكثير من الحكايات، وإنما مركزاً افتراضياً للقص، مركز وهمي الدائرة، وعاصمة “رقمية” للرواية.

قاد تقاعد الدركي سالم النجار إلى ترهل الوقت، وحبسه في فقاعة الذكريات، فتحولت مضافته إلى مكان يؤوي سهرات شيّاب القرية، يحكي فيها سالم ذكرياته وجولاته رفقة الحصان في الفيافي والجبال وعند الحدود، ثم أدى هذا التقاعد، ومبلغ المعاش الضئيل، إلى تناقص وضيق في موارد الأسرة، الأمر الذي سيجبر سالم، بضغط كبير من سليمة زوجته، وبضغط ظهور ابنه السري، إلى التنازل، والرضوخ لاقتراح أخيه فريد، بشراء عربة جر ليبيع عليها الخضروات، ليجد ما ينفقه على أسرته

كانت الفكرة مرفوضة من الدركي الذي لم ينس سنوات مجده في الخدمة وصرخات اللصوص والعصابات وقطاع الطرق تحت جلدات سوطه. لكنه، يجد نفسه مضطراً للقبول، ومضطراً لتعليم حصانه العربي الأصيل، كيف يجر عربة خشبية تباع عليها الخضروات. وقد باشر سالم بالفعل تدريب حصانه لمدة خمسة أيام على جر العربة، وحققا معاً، فشلاً فادحاً، إذ لم يتعلم الحصان شيئاً، بينما بقي سالم سعيداً بأصالة حصانه العربي المحارب الذي رفض النزول من وضعية حصان الدرك إلى وضعية بغل الجر. ولذلك، في اليوم السادس من التدريب، يموت سالم النجار بهدوء في فراشه.

وفي اللحظة التي يشعر فيها فريد النجار، أن إباء الحصان كان سبباً في موت أخيه، يشرع في جلده بوحشية، بحضور كل أفراد الأسرة، وهنا يتدخل كامل، الذي ورث حب الحصان من أبيه، ليصرخ في وجه الفرس وهو واقع تحت جلدات السياط: “اهرب يا صبح”، فيفر الحصان، إلى دروب دير القرن ويبتعد راكضاً لينعتق هو الآخر، كما سبقه صاحبه ومالكه ورفيق دربه سالم النجار.

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع