الفلسطيني بين مخيّم وهجرة… سينما الواقع

أمبيانس

نديم جرجوره

ناقد سينمائي من لبنان

لكنّ المشترك بين الفيلمين كامنٌ في كيفية الكشف البصريّ المتنوّع لأحوال ذاتية، في إقاماتها المرتبكة وقلق ناسها ومواجعهم. المشترك بينهما كامنٌ أيضًا في أنهما شهادتين جديدتين عن وقائع العيش الفلسطيني في أزمنة الشقاء والقلق.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

29/07/2019

تصوير: اسماء الغول

نديم جرجوره

ناقد سينمائي من لبنان

نديم جرجوره

ـ 1 ـ

يبحث هشام كايد في العلاقة المرتبكة بين الفلسطيني ومكانيّ لجوئه وهجرته. يولد الفلسطيني في بلد اللجوء، الذي يُضيّق الخناق عليه في أمور عيشه، فيجتهد للحصول على هجرة إلى بلدٍ أوروبي، يأتيه حاملاً معه حبّا لبلد اللجوء، رغم أن هذا الأخير غير سويّ معه. يتابع تفاصيل يوميات الفلسطيني في بلد الهجرة، فيكشف ارتباكًا وقلقًا، وما يُشبه التوهان في دائرة تنغلق عليه. يرتاح الفلسطيني في بلد الهجرة، لكن روحه وقلبه مُقيمان في بلد اللجوء، فالأهل هناك، وأمكنة وانفعالات وحالات هناك، وطفولة ومراهقة هناك، وهذا كلّه قيّمٌ. الجديد (بلد الهجرة) يؤمّن له ما يفقده في القديم (بلد اللجوء)، فتزداد حيرته وقلقه وألمه الداخلي وتمزّقه الذاتي ووجعه الروحي.

أما وسام الجعفري، فيحفر في الحيّز الأصليّ للبلد الأم، المُصاب باحتلالٍ تزداد وحشيته يومًا تلو آخر. يغوص في مخيّم يُقيم فيه مع أهل ورفاق وأبناء بلدٍ، ومساحة المخيّم ضيّقة، والأحلام قليلة، والوقائع كثيفة، والاختناق عظيم. يبقى الجعفري في بيئته، مُدركًا مصاعب العيش فيها، وتحدّيات المواجهة والاستمرار. يتجوّل في مكانه، عاكسًا بعض انفعالٍ وعلاقة به. يختار المُتاح، لكن للمتاح امتدادات وفضاءات تفيض بقولٍ يتّخذ من الصورة السينمائية أداة بوح وتعبير.

مع هشام كايد، في “ممشى”، هناك خروج من أمكنة إلى أخرى، ومن فضاءات إلى أخرى، ومن حالات إلى حالات لن تتبدّل كثيرًا إذْ يطغى عليها غضبٌ وقهر وحبّ وحنين. ومع وسام الجعفري، في “أمبيانس”، هناك مكان واحد ووقت واحد، وهناك تكثيفٌ للحكاية وسردها، وهناك تشذيبٌ للصُور كي تتناسق في معاينتها تلك التفاصيل اليومية في مخيّم خاضع لاحتلالٍ وتبعاته، ومحاصر بأنماط عيشٍ قاسية. في “ممشى”، يتحوّل التجوال ـ في النفس والروح والحيّز الجغرافي وأمكنة الذاكرة والماضي والراهن ـ إلى رحلة اغتسال وتعرية، من دون خروج مطلوب من قلق الانفصام بين استراحةٍ في بلد الهجرة وحنينٍ إلى بلد اللجوء. وفي “أمبيانس”، تختفي المشاعر والحالات والانفعالات، لإبراز حدٍ أكبر من وقائع ذاتية في مقاومة كلّ مُصيبة أو صعوبة أو تحدٍ، بعيدًا عن حنين ودمع وخطابية ومباشرة.

ـ 2 ـ

هذا عائدٌ إلى أنّ فلسطينيي “ممشى” مُعلّقون بين بلدين، لن يكون أيّ واحد منهما “البلد الأم”. فالبلد الأم محتلّ، والاحتلال يمنع العودة إليه؛ بينما لـ”أمبيانس” وطنٌ، وإنْ يكن محتلاًّ، فالاحتلال ـ رغم جبروته ووحشيته وعنفه ـ عاجزٌ عن فصل الفلسطيني عن ارتباطٍ وثيق ببلده، فهو مُقيم فيه غصبًا عن الاحتلال. وطن “ممشى” قائمٌ في وعي ذاتي، لكن الجغرافيا قاتلة، وبلد اللجوء، الذي يولد فيه فلسطينيون كثيرون، يعجز عن تلبية شرط حياة طبيعية للاجئين إليه، ولمُقيمين فيه أيضًا، بل يرفض تلبية شرط كهذا؛ بينما وطن “أمبيانس” منفلشٌ على الجغرافيا الأصلية، المنتفضة على احتلالٍ يريدها خرابًا، والمفتوحة أمام أفرادٍ، يواجهون ويتحدّون بشتّى الوسائل والأساليب، وأبرزها يتمثّل بعيشٍ يوميّ يكسر حدّة العنف المحتلّ، ويؤمّن بعض رغبات وأحلام وآمال.

أناسُ “ممشى” (52 دقيقة) واقعيون، لهذا يرتبكون ويقلقون ويضيعون بين بلدين لن يكون أي واحد منهما لهم، بالمعنى الأصيل لمفردة “وطن”. يريدون راحة وأمانًا وعيشًا طبيعيًا، لكن بلد اللجوء (لبنان) رافضٌ منح هذا كلّه لهم، وبلد الهجرة (ألمانيا) يبقى بلد هجرة واغتراب ومنافي، رغم تسهيلات واطمئنان وهدوء وحقوق. هذه معضلة لن يشعر بها أناس “أمبيانس”، الروائي القصير (13 دقيقة) لوسام الجعفري، الفائز بالجائزة الثالثة، مناصفةً مع Duszyczka للبولونية بارْبارا روبتيك، في مسابقة الأفلام القصيرة، في الدورة الـ72 (14 ـ 25 مايو/ أيار 2019) لمهرجان “كانّ” السينمائيّ الدولي. فهؤلاء يُقيمون في مكانٍ داخل بلدٍ هو لهم، رغم الاحتلال. والمخيّم مدخلٌ إلى بلدهم المحتلّ، يحوّلونه يوميًا إلى مساحة أوسع لمقاومة وتحدّ، رغم أعباء المقاومة والتحدّي، حياتيًا واجتماعيًا على الأقلّ.

مع هشام كايد، يبوح فلسطينيون قليلون بما يعتمل في ذواتهم من أسئلة وحالات ومشاعر. يرون فلسطين في ذاكرة جماعية، ويرغبون في خلاصٍ من تمزّقات وأهواء ومطبّات تحول دون عيشٍ هادئ لهم، فيعثرون على بعض مفردات عيشٍ كهذا في بلد الهجرة. فلسطينيو “أمبيانس” معتادون على عيشٍ يتّسم بالمواجهة والتحدّي اليوميين. يعرفون أنّ اجتماعهم مُصاب بأعطابٍ، فالمكان ضيّق، والتقاليد طاغية، ورغم هذا يجتهدون لانتصارٍ يصنعونه يوميًا بتلبية احتياجات عيشٍ عاديّ. فلسطينيو “ممشى” يعانون تشرّدًا متنوّع الأنماط، فكلّ بقعة جغرافيّة تصنع لهم شكلاً من أشكال التمزّق والقلق والخيبات والمواجع، رغم أن بلد الهجرة يبقى الأفضل والأحسن في مناحٍ عديدة. أما فلسطينيو “أمبيانس”، فيُخرِجون من بؤسهم اليوميّ مكاسب تبدو أهمّ من أي شيء آخر، غالبًا.

ـ 3 ـ

لا مقارنة بين فيلمين يختلف أحدهما عن الآخر، شكلاً وأسلوبًا وسردًا. التشابه قائمٌ في مقاربة حالةٍ فردية فلسطينية، داخل فلسطين المحتلّة وخارجها. الاغتراب واللجوء قاسيان. العيش في مخيّم في بلدٍ محتلّ قاسٍ هو أيضًا. معاينة القسوة تحتمل أساليب عديدة في الاشتغال السينمائي، ما يستدعي نوعًا من مقارنةٍ في تبيان أحوال الناس في اغترابهم ولجوئهم، كما في إقامتهم في مخيمات داخل بلدهم المحتلّ. قبل الاغتراب واللجوء، هناك إقامة في مخيّمات أيضًا، لكن في بلدٍ غير محتلّ من الكيان الإسرائيلي العدو، بل في بلدٍ يفرض شروطًا قاسية على أناسٍ يلجئون إليه للعيش فيه، أو يولدون فيه فالأهل والأجداد لاجئون إليه منذ سنين. لكن الشروط القاسية للعيش في بلدٍ كهذا تستدعي بحثًا عن خلاصٍ يتمثّل في الهجرة إلى الغرب.

يتجوّل هشام كايد مع ثلاثة شباب فلسطينيين بين اللجوء والهجرة والاغتراب. يستمع إليهم. يريد بوحًا يقول ذاتًا ووجعًا وقلقًا. يترك الكاميرا تُصوّر، مع أنّ بعضهم يطلب إيقافها أحيانًا. يتمكّن كايد من التوغّل قليلاً في ارتباكاتهم، وبين دموعهم وأشواقهم. كلامهم قاسٍ، فهو يعكس قسوة عيشٍ في بلدي اللجوء والهجرة. يتوهون علنًا، لكنهم يطمئنّون إلى خيارات تقيهم ذلاً وعنفًا متنوّعًا في بلد اللجوء. تغيب السينما، فالوثائقيّ عاديّ في اشتغاله الفني والتقني والبصري والتصويري، لأنّ الأهمّ كامنٌ في توثيق الوجع الفرديّ، الساعي إلى خلاص.

ما يفعله وسام الجعفري بسيط: مرافقة شابّين اثنين مُقيمَين في مخيم الدهيشة (جنوب بيت لحم، الضفّة الغربيّة)، في بحثهما عن مكانٍ “هادئ” في مكانٍ غارقٍ في ضجيج الحياة اليومية، الروتينية والعادية، لتسجيل أغنية لهما، بهدف المشاركة في مسابقة دولية. الوقت يُداهمهما. المخيّم غير قادر على منحهما لحظة صفاء وسكينة. لكنهما يكتشفان أنّهما قادران على الاستفادة من ضجيج المخيّم وزحمة ناسه في تسجيل ما يريدان تسجيله. أيّ أنهما يُحوّلان “المزعِج” إلى “مُريح”، فيُنجزان ما يرغبان فيه.

بساطة التصوير والمونتاج في “أمبيانس” نابعةٌ من سلاسة الحكاية والسرد. لا ادّعاءات بصرية ولا فذلكة اشتغال. التساوي واضحٌ بين مضمون يتعمّق في أحوال بيئة فلسطينية، وشكلٍ يُغلّف الحبكة بحيوية قول ومتابعة ومعاينة.

ـ 4 ـ

رغم أهمية المرويّ على ألسنة الشخصيات الثلاث، التي تصنع “ممشى” مع مخرجه هشام كايد، تتناقض لغة التعبير والبوح مع عدم تحرير النصّ السينمائيّ الفلسطينيّ من بكائيته ومباشرته وخطابيّته. ورغم انفعالٍ يكاد يُحدّد مواصفات تلك الشخصيات، في علاقاتها المرتبكة ببلدي اللجوء والهجرة، ينكشف غليان هذا كلّه وتساؤلاته، وقلق الشخصيات، بأسلوبٍ تقليدي غير قادرٍ على منح جوهر ما يُقال حقّه السينمائيّ في التعبير الجمالي.

هذا غير موجود في “أمبيانس”. عدم وجوده لا علاقة له باختلاف نوعي الفيلمين، إذْ ينتمي “أمبيانس” إلى الروائي القصير، المنبثقة حكاياته وفضاءاته من وقائع العيش في بؤر محاصرة بالبطش والاختناق والقمع والضجيج، بينما يختار هشام كايد الوثائقيّ كي يحفظ حكايات شبابية ويقيها من الاندثار، وسط انقلابات خطرة يمرّ بها العالم برمّته. “أمبيانس” واقعيّ وحيويّ في مقاربته الواقع، وقراءة فصولٍ من يومياته، في مخيّم مُقيم في ضيقٍ واختناق يمنعان، أحيانًا، تحقيق أحلامٍ متواضعة وبسيطة؛ بينما “ممشى” مفتوح على فضاءات أوسع للجغرافيا والذاكرة، رغم أنّ النفس والروح محاصرتان في الغضب والوجع، وفي التوهان بين راحة مرتبطة بعدم التمكّن من التلاؤم مع متطلبات الهجرة وراحتها، وذاكرة مشبعة باضطراب العيش في بلد ينبذ اللاجئين إليه بشتّى الوسائل، لكنه يمنحهم ـ في الوقت نفسه ـ أكثر من متنفّس إنساني وانفعالي وعائليّ.

سلاسة المعاينة السينمائية لأحوال مستلّة من يوميات مخيم الدهيشة، تُقابلها سلاسة معالجة وبساطة اشتغال وسهولة تعبير، تجمع السينمائيّ بالسرديّ المبسّط، المحمّل بكمّ هائل من الانفعالات والرغبات والأمزجة والمصاعب والتحدّيات (أمبيانس). هذا شبه غائب في “ممشى”، فهشام كايد يترك الكاميرا تلتقط ما يقوله شبابٌ فلسطينيون يغادرون أهلاً واجتماعًا وأساليب عيشٍ في مخيمات فلسطينية في بلد اللجوء، وما يشعر به هؤلاء أنفسهم في بلد الهجرة، بما يُقدّمه بلد الهجرة هذا من راحة وطمأنينة في الاجتماع والاقتصاد والعيش، بينما الانفعال معلّق في مكانٍ آخر.

لكنّ المشترك بين الفيلمين كامنٌ في كيفية الكشف البصريّ المتنوّع لأحوال ذاتية، في إقاماتها المرتبكة وقلق ناسها ومواجعهم. المشترك بينهما كامنٌ أيضًا في أنهما شهادتين جديدتين عن وقائع العيش الفلسطيني في أزمنة الشقاء والقلق.

الكاتب: نديم جرجوره

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع