صدر عن سلسلة “ترجمان” في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب العبور الخطر: الجنس البشري والصعود العالمي لرأس المال، وهو ترجمة عمر سليم التلّ العربية لكتاب أمِيا كومار باغتشي بالإنكليزية Perilous Passage: Mankind and the Global Ascendancy of Capital.
يجمع هذا العمل التأريخي الشامل بين أفكار مؤرخي الحرب وأفكار المنظّرين الماركسيين ومنظّري النظام العالمي، ويصف ظهور الرأسمالية وعملها كنظام تحركه السوق بدلًا من العمل بشكل أصيل على مبدأ الأسواق الحرة، موسّعًا فهمنا لطبيعة الرأسمالية وتاريخها.
قضايا مفاهيمية
يتألف هذا الكتاب (683 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) من أربعة أقسام. جاء القسم الأول منها بعنوان “قضايا مفاهيمية: التنمية البشرية والنمو الرأسمالي”، واحتوى على ثلاثة فصول.
في هذا القسم، يعارض باغتشي في الفصل الأول منه والمعنون “تاريخ التنمية البشرية بوصفه موضوعًا للتاريخ”، وجهة النظر التي تعتبر أوروبا والسوق الحرة بمنزلة المخطط الوحيد للتقدم المحرَز في إمكانية العيش بمستوى معيشة مرتفع عبر تعزيز النمو الاقتصادي، فثمة إنجاز إنساني أهم من تحقيق معدل نمو اقتصادي مرتفع، وأوروبا لم تكن المصدر الوحيد للقيم أو طرق التنظيم التي ساهمت في تحقيق التنمية الإنسانية.
ويرى في الفصل الثاني بعنوان “بناء مفهوم المعجزة الأوروبية”، أن البناء المفهومي لقصة المعجزة الأوروبية يعتمد على الاستعمال الانتقائي للتاريخ الأوروبي، “وعلى إغفال جزء كبير من تاريخ أكثرية البشرية، وعلى التوصيف المخادع لكيفية تنشيط ما يسمّى الأسواق الحرة للحضارة الأوروبية وتمكينها من غزو العالم. كما أنه يتجاهل دور الغزو بقوة السلاح في تمكين دول أوروبا الغربية وملحقاتها السياسية التابعة لها وراء البحار من أن تصبح القوى الاقتصادية والسياسية المهيمنة في العالم”.
ويكشف في الفصل الثالث الموسوم بـ “السعي وراء الربح في ظل الرأسمالية القائمة فعلًا والتنمية البشرية”، عن علاقة صعود الرأسمالية بشنّ الحروب، وكيف ارتبطت النزعة القومية بالفوز في المنافسة على الأسواق والموارد، وبهذا أصبحت الحرب أداة في استراتيجية الأعمال التجارية للدول والرأسماليين؛ إذ من أجل شن الحروب، كان هناك حاجة إلى أيديولوجيا ملازمة بوصفها وسيلةً لتدريب الحكام، لكن أيضًا بوصفها أساسًا منطقيًا من أجل إخضاع العمال والرعايا المستعمَرين لهيمنة القوة المستعمِرة.
التنافس الرأسمالي والتنمية البشرية في أوروبا
أما القسم الثاني من الكتاب فحمل عنوان “التنافس الرأسمالي والتنمية البشرية في أوروبا”، وشمل خمسة فصول.
يقول باغتشي في الفصل الرابع “التسابق على السيطرة بين البلدان الأوروبية الغربية منذ القرن السادس عشر”، إن الحرب كانت المرافق الدائم لعملية التحضر؛ فالحرب والنفقات العسكرية والضرائب التي تسعى إلى تغطيتهما والدمار الناتج من التحركات العسكرية من الأسباب الرئيسة للركود الديموغرافي في أوروبا القرن السابع عشر. وكان شبح الحرب حاضرًا دائمًا في تدابير الحكومة المالية، وفي تجنيد القوى العاملة للجيش والبحرية، وفي انخفاض مستويات التغذية، وفي خطر الاستسلام للأمراض بوجود فشل موسم الحصاد أو انتشار الأوبئة.
وفي الفصل الخامس “نمو السكان ومعدل الوفيات بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر: نظرة أولى”، يوضح المؤلف أن عدد السكان في أوروبا وفي المستعمرات الاستيطانية الأوروبية في القرن التاسع عشر ازداد أكثر ممّا ازداد في أي منطقة أخرى في العالم. ومع ذلك، ليس ثمة أرضية صلبة تسمح بسحب هذا التباين على القرون التي يُفترض أن الدول الأوروبية أحرزت فيها تقدمًا على القارات الأخرى.
ويبحث باغتشي في الفصل السادس المعنون “هولندا: صعود قوة مهيمنة وسقوطها”، في صعود هولندا وانحطاطها في العصر الذهبي، ويرده إلى أنها تُظهر كيف أسقط التنافس بين الرأسماليات اقتصادًا كان مسيطرًا على تجارة أوروبا في العالم في القرن السابع عشر؛ وتشير إلى صعوبات إعادة الإنتاج الاجتماعية لقوة العمل في عصر رأس المال التجاري؛ وتُظهر دور المستعمرات في استدامة التراكم في الاقتصادات الرأسمالية؛ وتُظهر كيف تؤدي التراكمات الرأسمالية أو تعثراتها إلى تزايد التفاوت في الدخل والثروة.
أما في الفصل السابع والذي حمل عنوان “تأخُّر الانتقال إلى نظام يتسم بانخفاض معدل الوفيات في أوروبا وأميركا الشمالية”، فيقول باغتشي إن الحرب العالمية الأولى اندلعت في أوروبا قبل تحسين الصحة، وتحسين السيطرة على المخاطر البيئية، وقبل تحقيق التعليم للجميع حتى في عقر دار الرأسمالية.
وورد الفصل الثامن في الكتاب بعنوان “محو الأمية في أوروبا الغربية منذ القرن السادس عشر”، وفيه يعرض المؤلف تقدم محو الأمّية بين الرجال والنساء والأطفال، ومدى بطء هذا التقدم في معظم بلدان أوروبا قبل القرن التاسع عشر.
العالم خارج نطاق أوروبا في عصر ظهور الهيمنة الأوروبية
احتوى القسم الثالث الذي عُنوِن بـ “العالم خارج نطاق أوروبا في عصر ظهور الهيمنة الأوروبية”، على عشرة فصول.
يبين باغتشي في الفصل التاسع المخصص لبحث “التنمية الاقتصادية في الصين ونوعية الحياة فيها بين القرنين السادس عشر والثامن عشر”، كيف أن المنظومة الإدارية التي أصبحت السِّمة المميزة للدولة الصينية في ظل الإمبراطوريات المتعاقبة سهلت نمو موارد الصين الاقتصادية وسكانها.
ويتساءل باغتشي في الفصل العاشر الذي أفرده للحديث عن “الهند في ظل حكم المغول وما بعده”، لماذا يوجّه المؤرخون الاقتصاديون السائدون النقد إلى الهند المغولية؟ ويقول إن من أسباب ذلك ثقل الدعاية الإمبريالية المحضة، التي صَوَّرت الهند قبل استيلاء البريطانيين عليها أرض بؤس لا ينقطع للناس العاديين، وعجرفة الجهل لدى كثير من المؤرخين الاقتصاديين الأوروبيين.
ويسأل أيضًا في الفصل الحادي عشر، “مزاولة التجارة في آسيا قبل مجيء الأوروبيين وبعده”، ما نوع التأثير الذي أحدثه رأس المال الأوروبي المسلح في التنمية الآسيوية قبل الغزو البريطاني للهند؟ ففي رأيه، كان لظهور البرتغاليين، الذين لحقت بهم القوى الأوروبية الأخرى، تأثير في مصائر المناطق الآسيوية الرئيسة بأربع طرق رئيسة: توسيع التجارة الدولية أو إعادة هيكلتها؛ التدفقات الداخلة من المعادن الثمينة؛ إعادة تنظيم الترتيبات السياسية بإدخال تكنولوجيات عسكرية جديدة؛ إعادة تخصيص الموارد في المناطق التي كانت منخرطة في التجارة مع الأوروبيين.
يرى المؤلف في الفصل الثاني عشر، “إعادة النظر في الاستثنائية اليابانية”، أن فرضية الاستثنائية اليابانية تتخذ أشكالًا عدة: ادعاء أن نمو اليابان الاقتصادي كان أسرع من النمو في الصين والهند في الفترة التي سبقت جلوس ميجي على العرش، وكان أسرع خلال عهد إيدو؛ ادعاء أن حقوق الملْكية في اليابان كانت من النوع الذي وضع أنموذجه منظّرو حقوق الملْكية الخاصة؛ مساهمة ارتفاع درجة التتجير أيضًا في زيادة نمو اليابان الاقتصادي؛ ارتباط النمو الاقتصادي بمستوى معيشي أعلى للسكان العاديين؛ تهيؤ اليابان للقيام بانطلاقة تصنيعية.
ويقول في الفصل الثالث عشر المخصص للحديث عن “التنافس الرأسمالي، والاستعمار، والرخاء المادي لدى الأمم غير الأوروبية”، إن الرأسمالية الصناعية وفرت مع بداية القرن العشرين المعرفة ومعظم التكنولوجيا من أجل تحسين طول العمر لدى البشر ونوعية حياتهم. مع ذلك، ظلت فوائد ذلك التقدم مقصورة على الأراضي التي استقر فيها البيض، وحتى هناك وزّعت الفوائد وفقًا للطبقة والجنوسة والعرق.
المهمة الحضارية والعَرقنة: من السكان الأميركيين الأصليين إلى الآسيويين
أما في الفصل الرابع عشر “المهمة الحضارية والعَرقنة: من السكان الأميركيين الأصليين إلى الآسيويين”، فيجد باغتشي أن من أكثر صياغات أساليب الحكم الأوروبي تأثيرًا في المجموعات السكانية الأفريقية، ومعها أساليب التحضير المرتبطة بها، تلك الموجودة في كتابات فريدريك، اللورد لوغارد، الحاكم الإمبريالي في نيجيريا الواقعة تحت الحكم البريطاني. فقد وضع لوغارد نظرية الحكم غير المباشر، وهو ما مارسه الحكام البريطانيون مسبقًا في الأراضي الواقعة تحت الحكم الاسمي لمن يسمَّون أمراء الهند الأصليين، وفي معظم أجزاء الريف الهندي.
بينما يعدّد المؤلف في الفصل الخامس عشر، “المهمة الحضارية في الأراضي التي انتزعها المستوطنون الأوروبيون من سكانها الأصليين”، أسباب اختلاف القوى الأوروبية من حيث انتزاعها الأراضي للمستوطنين في الأميركتين وأستراليا واستراتيجياتها للسيطرة على موارد السكان الأصليين في الهند والصين وجنوب شرق آسيا. لعل أهمها أن البلدان الآسيوية كانت تتمتع ببنى حكومية أكثر تطورًا، وكانت أكثر كثافة سكانية. وانتزاع الأرباح منها باستخدام البُنى السابقة وتكييفها كان أكثر وجاهةً من اللجوء إلى الذبح الجماعي.
وفي الفصل السادس عشر، “تدفقات الموارد العابرة للقارات التي أدامت صعود القوة الأوروبية”، يقول باغتشي إنه لم يكن لدى الأوروبيين حتى نهاية القرن الثامن عشر الكثير ليبيعوه للآسيويين، لكنهم كانوا يرغبون في المنسوجات الهندية وفي الشاي الصيني. وجرى تسديد بعض المدفوعات من الأرباح المتحققة من التجارة البينية الآسيوية، إلا أن جزءًا كبيرًا من تلك المدفوعات كان لا يزال يُسَدَد فضةً وذهبًا.
ويؤكد في الفصل السابع عشر الذي يتناول “الإتاوات والأرباح الاستعمارية، من سبعينيات القرن التاسع عشر فصاعدًا”، أن انتزاع الفائض من المستعمرات التابعة كان يتحقق من خلال الحفاظ على أسواق منقوصة التنافسية، مع تدخّل حكومي مباشر يحول دون ظهور أسواق حرة في الأرض والعمل ورأس المال.
وفي آخر فصل من فصول القسم الثالث، أي الفصل الثامن عشر بعنوان “الكوارث الديموغرافية في المستعمرات وأشباه المستعمرات في أوج الاستعمار الأوروبي”، يتناول باغتشي المجاعات والحروب والخسائر الديموغرافية في الصين في القرن التاسع عشر، والخسائر الديموغرافية في الهند تحت الحكم البريطاني في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، إضافة إلى الخسائر الديموغرافية في البلدان الأخرى المسكونة بغير البيض في أواخر القرن التاسع عشر.
الصراعات والحروب والتحديات غير النظامية لرأس المال العالمي
عنون المؤلف القسم الرابع في كتابه بـ “القرن العشرون: الصراعات والحروب والتحديات غير النظامية لرأس المال العالمي”، وضمّنه ستة فصول.
ففي الفصل التاسع عشر “تهيئة الساحة للحروب الكبرى”، يقول باغتشي إنه بنهاية القرن التاسع عشر، كانت القوى الرأسمالية الكبرى قد هزمت جميع دول وإمبراطوريات ما قبل الرأسمالية. كانت اليابان سريعة في تعلّم الفنون العسكرية والصناعية من البرابرة، ثم انتشرت التكنولوجيا العسكرية المتقدمة بين جميع القوى الكبرى من خلال رعاية الدولة المحلية مصانع الأسلحة الخاصة وتجارة الأسلحة. وكان لا بد للدافع نحو مزيد من القوة والربح من أن يفضي إلى نزاع مسلح بين قوى تسعى إلى حماية مستعمراتها، وقوى تطمع في حصة أكبر في النهب الاستعماري.
ويرى المؤلف في الفصل العشرين المعنون بـ “الثورة، والنازية، والنزعة العسكرية اليابانية، والحرب العالمية الثانية”، أنه كانت وراء صعود الفاشية والنازية تقاليد السلطوية والنزعة العسكرية السابقة والأزمة التي تشهدها الرأسمالية الدولية والخوف من الشيوعيين. وكان من شأن هزيمة ألمانيا في الحرب، وتبادل اللوم إزاء تلك الهزيمة، وقبول معاهدة فرساي المفروضة على ألمانيا أن سهلت ظهور الفاشية الألمانية.
في حين يرى في الفصل الحادي والعشرين الذي تكلم فيه عن “الإمبريالية والحروب في أواخر القرن العشرين”، أن الإمبريالية والرأسمالية تتطلبان أيديولوجيات تسوغ امتياز القلة؛ “إذ رأينا كيف أن الداروينية الاجتماعية والعنصرية العلمية كانتا بمنزلة دعامتين للسياسات التمييزية التي تعزز السيطرة والاستغلال الرأسماليين. ولا يزال الجهد المبذول لإنشاء قواعد جديدة للأيديولوجيتين، من خلال ربط الذكاء بالوراثة، متواصلًا”.
الرأسمالية والتنمية، التدمير والتناقضات
بحسب باغتشي في الفصل الثاني والعشرين الموسوم بـ “الرأسمالية والتنمية غير المتكافئة في القرن العشرين”، واجهت أنظمة الحكم التي جاءت إلى السلطة في إثر نضالات كبرى مجاعات كبيرة. كانت الأنظمة التي أطاحتها تتربع على مستويات منخفضة من الإنتاجية، وهوامش ضئيلة بين المجاعة والبقاء في قيد الحياة. وكان من شأن أي صدمة كبيرة أن ترجح كفة التوازن نحو الوفيات الجماعية. كما واجهت أنظمة الحكم التي جاءت بعد الثورة معارضة شديدة من الدول الرأسمالية.
وينتقل بعد ذلك إلى الفصل الثالث والعشرين، “التدمير والتجديد في النظام النيوليبرالي العالمي”، الذي قال فيه إن العملية الديمقراطية عانت في كثير من الدول الأخرى الديمقراطية تخريبًا مارسته سطوة المال والإعلام الذي تسيطر عليه الأقلية الحاكمة، بالاشتراك أحيانًا مع الأصولية المسيحية أو الأصولية الهندوسية والعنصرية ونظام الطوائف الاجتماعية المغلق.
أما خاتمة الفصول في هذا الكتاب فهو الفصل الرابع والعشرون، والذي عُنوِن بـ “التناقضات والتحديات والمقاومة”، إذ تمثلت إحدى الخصائص المُعرِّفة للرأسمالية، وفقًا للمؤلف، في التناقض بين مزاعمها الشمولية وتحقيق مكاسب جوهرية لقطاعات من السكان فحسب، ما يترك الآخرين في حالة حرمان. كما كان حكم القانون يعني قوانين متحيزة لمصلحة مالكي العقارات. لكن الوعود أصبحت جزءًا لا يتجزأ من ذاكرة المحرومين، وزودتهم بأهداف ليكافحوا من أجلها.