في رواية «بنت من شاتيلا»، الصادرة حديثاً عن دار الأهليّة (عمّان- 2019)، للروائي الفلسطيني أكرم مسلّم والتي جاءت بعد: «هواجس الإسكندر» (2003)، و«سيرة العقرب الّذي يتصبّب عرقاً» (2008)، و«التبس الأمر على اللقلق» (2013). نلاحظ؛ ومنذ سطرها الأوّل، أنّها لا تعتبر الموت الذي حلّ بضحايا مجزرة صبرا وشاتيلا 1982 غياباً أو فناءً. بل هو وجودٌ يحمل صيرورة الحياة لفلسطينيين قضوا غدراً بيد أرييل شارون الصهيوني و”شارونات” العرب.
البنت التي من شاتيلا والتي كانت صغيرة، بنتاً في السادسة من عمرها حين وقعت المجزرة، ما تزال صورة المصوّر الذي كان يصوّر بعينٍ واحدة ضحايا المجزرة؛ تسكنُ مخيلتها، فيما صورتها التي أخذها لها وخلفها عائلتها باعتبارها الناجية الوحيدة من أسرة: “تَضمّ سبعة أطفال وأمهم – إذ لم يعرف الناس أنّ الأمّ كانت حاملاً”. تشكّلُ صدمةً فجائعية لتضع الرواية في خانة (المُعارضة) ضدّ كل جمالٍ لا يرى قباحة وشناعة ما فعله الصهاينة الإسرائيليون وأعوانهم في أرواح أربعة آلاف إنسانٍ فلسطيني تمّ تصفيتهم/ ذبحهم بأعصاب باردة في مخيمي صبرا وشاتيلا في لبنان. وهي المذبحة التي استمرت ثلاثة أيام بعد انسحاب المقاومة الفلسطينية من بيروت الغربية عام 1982، وتمّ فيها تقطيع أوصال، وعمليات اغتصاب، وفقأ عيون لأطفال ونساء وشيوخ، والتمثيل في جثثهم، ومن ثمّ دفنهم في قبور جماعية، أو تركهم للحشرات تنهشهم في شوارع المخيمين، وللذباب الذي لن يترك الرواية والراوي والبنت الحورية، دون أن يسمع أحد خارج المخيم عن تلك المجزرة إلا بعد أن انتهت.
الرواية وإن بطلاها التقيا صدفة في ألمانيا؛ وهما البنت التي نجت من مجزرة صبرا وشاتيلا، وجاءت إلى ألمانيا لترميم جرح في وجهها، واستقرّت فيها حيث صارت تعمل ضمن فرقة مسرحيّة، أسّسها شبّان مغاربة، والشابُ الأنيق الذي كان في زيارة لألمانيا ضمن برنامج للتبادل الأكاديمي، إذ هو طالب دراسات ثقافيّة عليا في “جامعة بير زيت”، ولكن ليتحوّل حضورهما الروائي إلى مغامرة إنسانية سيكولوجية اجتماعية أخلاقية سياسية تدفع قارئها للتأمل. فالروائي الفلسطيني أكرم مسلّم لا يثرثر، هو لا يصف الحياة لبطليه؛ أبطاله وصفاً إنشائياً. بل يقدم مادة ذات فلسفة قائمة على تجربة أصلية لضحايا لم يعطوا فرصة الدفاع عن أنفسهم أمام تفاهة ووقاحة وخوار جلاديهم. أكرم مسلّم يعيدنا إلى المجزرة عبر شخصية البنت التي صارت تعمل مع الفرقة المسرحية بدور “رِجل جَمل”، إلى ذاك الزمن من عام 1982 بكتلته وقسوته وكأنّه “حاضر” -حاضر مؤثر ومؤلم، مستخدماً وثائقية اجتماعية وتاريخية بدعائم بصرية- الصور؛ الضحايا والذباب الذي يضع بيوضه في أنوفهم، فيحرضنا على رؤية الحقيقة بعريها القاسي: “في الصورة تظهرُ الجثثُ جميعها خلفي، لكن الكاميرا غبية، غبية. كان أجمل ما في أمي رائحتها، لكنّها صارت مريعة بعد تلك الليلة. عندما تموت الأم تموت رائحتها، تصبح فطِسة. هذا مريع، مريع، ولا ترصده الكاميرا. لقد خَبِرت ذلك جيداً”.
الكاميرا لا ترى الرائحة؛ لا تصوّر رائحة الجثث -وهو ما يتقاطع مع رائحة جثة عجوز هامبورغ التي تقيم في شقة خلف الرجل الأنيق التي ماتت وصارت روائحها تنتشر في فضاء البناء. ثمة رابط قوي محرض- هو كيميائي يربط بين روائح جثث ضحايا صبرا وشاتيلا ورائحة جثة امرأة عجوز ماتت ميتة طبيعية.
أكرم مسلّم يصل ويقطع، ويقطع ليصل، يوصل صوت ضحايانا عبر هذا الرافع، رائحة أم البنت مع رائحة العجوز مع رائحة أبو البنت: “سمعت الحورية عن أبيها، ولم تسمع منه. تتذكّر رائحته أكثر من أي شيء آخر، إذ اعتادت أن تتشمّمه، وتتشمّم بعد رحيله ما يتركه من قمصان تتقصد أمها ألا تغسلها”. إنّه: “يعقب ظل القائد العام: إنّه متطوّع جديد، قناص، وتحسب أنّه يطلق النار من يده وليس من قطعة السلاح، صلبٌ وصبور على الرغم من حداثة تجربته وصغر سنّه، حتى لقّبه رفاقه بـ “الجَمَل” لقدرته على الصبر. وها هو بعد كل هذه السنين يسافر إلى هامبورغ ليلتقي ابنته الحورية وليس في يديه هدية: “يهبط من الطائرة، ارتبكت وتحرّكت في داخلها مختلف التناقضات. لم تمتلك عندما احتضنها إلا أن تذرفَ دمعتين، اندفعت رائحته إلى أنفها فانوصل خيط الرائحة مع طفولتها. أحسّت بأنّ اليد الكبيرة التي وضعها على كتفها بعفويةٍ وحب، يدُ أبٍ حقيقية، فتصدّعت جدرانٌ بناها الغياب في أزمنةٍ بالغة القسوة”.
أكرم مسلّم في تقطيعاته وتتاليها، ومنها؛ الخالة التي صبرت ثلاثين عاماً على غياب زوجها مُهرّب السلاح في السجون السورية ومن ثمّ تتزوّج مُهرّب البلاستيك، وسيدة الأنقاض، وعازفة الكمان، وسيدات الحنّاء، وغزة 2007. يربطنا بخيط المأساة الفلسطينية في سردٍ قاسٍ وصادم متفجّرٍ ومفجعٍ يستحضرُ الحياة الإنسانية لبنت شاتيلا وأرواح ضحاياها؛ لأنّ الموت مهما كان شكله ولونه وطعمه لا يلغي ديمومة الحضور.