كتبتها إيميلي تمبل ونُشرت في “ليتراري هب” في ٦/٨/٢٠١٩
لا يمكنني التفكير في كاتبة محبوبة عالمية بقدر توني موريسون، فأعمالها عظيمة وإرثها منزهٌ عن كل نقد وقد استغلت كل فرصة متاحة لها لتكشّف تألقها. في الخامس من أغسطس (2019)، توفيّت الكاتبة، ولهذا فقد غُصتُ في عددٍ من المقابلات والخِطابات التي ألقتها لأعرف رأيها ونصائحها عن الكِتابة.
اكتب الكتاب/النص الذي تريد قراءته
كتبت كِتابي الأول لأني كنت أريد قراءته. اعتقدت أن هذا النوع من الكتب وهذا الموضوع لم يتناوله أحد قبلًا في عالم الأدب -كتاب يتحدث عن فتيات ذوات بشرة سوداء، عن الأكثر ضعفًا والأقل توصيفًا وتقديمًا واللواتي لا يأخذن على محمل الجد. لم يكتب أحد عنهن قبلًا، إلا بوصفهن شخصيات ثانوية تدعم وجود شخصيات أخرى. ولأني لم أجد ذلك الكتاب الذي كنت أبحث عنه، قلت لنفسي: “حسنًا، سأكتبه، ثم سأقرأه”. مما لا شكّ فيه أن اندفاعي نحو القراءة هو ما دفعني باتجاه الكِتابة.
من مقابلة مع مجلة نيا آرتس (2014)
اعرف كيف ومتى يمكنك أن تعمل في أفضل حالاتك
أواظب على إخبار طُلابّي بأن واحداً من أهم الأمور التي يحتاجون إلى معرفتها، هو كيف ومتى يعملون في أفضل حالاتهم، وأتحدث هنا عن العمل الإبداعي. كل شخص فينا بحاجة لأن يسأل نفسه، ما هو شكل الغرفة المثالية؟ هل بها موسيقى؟ أم تغرق في الصمت؟ هل هناك فوضى أم سكينة وهدوء خارج الغرفة؟ ما الذي يجدر بي فعله لأطلق العنان لخيالي؟
من مقابلة مع إليسا شابل في مجلة باريس ريفيو (1993)
استغل العالم من حولك
كل شيء أراه أو أفعله يكون مُفيدًا بالنسبة لي حينما أكتب. يكون العالم في تلك اللحظة مثل قائمة الطعام أو صندوق أدوات كبير، ويمكنني أن آخذ منه ما أحتاج. في الأوقات التي لا أكتب فيها، وعندما لا يكون في رأسي أي ما يستحق أن يوضع في كِتاب، فكل ما أراه هو الفُوضى والتشوش والاضطراب.
من مقابلة أجريت مع بام هيوستن في مجلة أو (2009)
دع الشخصيات تتحدث عن نفسها
أحاول جاهدة حين أكتب أن أضع أسطرًا لا تنسى، حتى وإن كانت لشخصيات ثانوية. تطفو هذه الشخصيات حول رأسك وأنت تكتب مثل الأشباح أو مثال الأناس الأحياء. ولا أقصد هنا بكلامي تقديم وصف مفصل وإنما إشارات عامة وعريضة. فأنت، بوصفك قارئاً، لا تعرف بالضرورة أطوال تلك الشخصيات، لأني لا أريد إجبارك على رؤية ما أرى. يشبه الأمر الاستماع إلى المذياع في الطفولة، حيث يساعد المُستمتع من طرفهِ في ملء كل التفاصيل الناقصة. يقول المذياع «أزرق»، ويكون عليك أن تعرف أنت أي تدرج من تدرجات الأزرق. أو إذا قالوا بأن هناك طريقة واحدة، فسيكون علي إذًا أن أرى تلك الطريقة. الأمر تشاركيّ.
من مقابلة مع مجلة نيا آرتس (2014)
كُن منفتحًا
كن منفتحًا وعفويًا، لا تحاول إيجاد شيء غير موجود، ولا تبني المواقف، ولكن كن “منفتحًا” معها وكن على ثقة أن ما لا تعرفه سيكون متاحًا لك. الأمر أكبر من مجرد وعيك الظاهر أو ذكائك أو حتى مواهبك. ما تبحث عنه موجود في الأرجاء، وعليك أن تكون جاهزًا لاستقباله والسماح له بالدخول.
من مقابلة أجريت مع بام هيوستن في مجلة أو (2009)
لا تقرأ عملك بصوتٍ عالٍ إلا بعد الانتهاء منه
أنا لا أثق بالأداء/القراءة بصوت عالٍ. قد أحصل على استجابة ما تجعلني أصدق بأني ربما نجحت، ولكني في الحقيقة لا أكون قد نجحت فعلًا. تكمن الصعوبة في الكتِابة عندي -من بين عدد من الصعوبات- في إيجاد لغة يمكنها أن تظهر بهدوء على الورق لقارئ لا يسمع أي شيء. لتحقيق ذلك، على الكاتب أن يعمل بحذر على “ما بين الكلمات”، أن يعمل بحذر على “غير المكتوب”. أتحدث عن معايرة الكلمات وإيقاعها وتناغمها وما شابه. باختصار، ما لا تكتبه، هو ما يعطي في كثير من الأحيان لما تكتبه قوته.
من مقابلة مع إليسا شابل في مجلة باريس ريفيو (1993)
لا تشكو/لا تكن شكّاءً
أعتقد أنه يمكن تدريس بعض جوانب الكِتابة. أعلم تمامًا أيضًا أنه لا يمكن تدريس الموهبة أو الرؤية، لكن يمكنك المساعدة في توفير الطمأنينة… أما الثقة، فلا أستطيع فعل الكثير حيالها. أجدني دائمًا حازمة تجاه هذه النقطة. أخبر طلابي: يجب عليكم أن تكتبوا، لا أريد أن أسمع أي شكوى حول مدى صعوبة الأمر. لا يمكنني التساهل مع الموضوع أبدًا، لأن معظم من كتبوا يومًا حرفًا، يكونون تحت ضغط هائل، وأنا واحدة منهم، لذا، فإنه من السخف أن يشكو أحدهم من صعوبة الأمر. ما أجيد فعله، هو ما اعتدت على فعله: التحرير. يمكنني تتبع حبل أفكار الطلّاب، وأن أرى اتجاه لغتهم واقتراح طرق أفضل للوصول إلى ما يريدون التعبير عنه. يمكنني فعل ذلك، ويمكنني فعله بشكل جيد للغاية. أحب الانغماس والغرق في المخطوطات.
من مقابلة زيا جافري في مجلة صالون (1998)
لا تكتب ما تعرف
قد أكون مُخطئة بهذا الخصوص، ولكن مما يبدو لي أن كثيرًا من الكتابات الأدبية، خصوصًا تلك التي يكتبها الشباب اليافعون، تكون دائمًا عن أنفسهم. صحيح أنها تكون عن الموت والحب وأشياء أخرى، ولكنها تكون مصحوبة بـ “ياء الملكية” عند كل واحد فيهم، وأي شخصية أخرى غير الكتّاب، تكون شخصية ثانوية وخفيفة ومُفرغة.
عندما درّست الكِتابة الإبداعية في جامعة برينستون، وجدت أن طلابي قد عُلّموا طوال حياتهم أن يكتبوا عمّا يعرفوا. بدأت دائمًا حِصصي الدراسية معهم بقولي: “لا تولوا تلك النصيحة أي اهتمام”. أولًا، لأنكم لا تعرفون شيئًا. ثانيًا، لا أريد أن أعرف عن حبكم الحقيقي وعن أمهاتكم وآبائكم وأصدقائكم. فكّروا في شخصٍ لا تعرفونه. فكّروا بنادلة مكسيكية تتحدث اللغة الإنجليزية بتلكؤ على ضفاف نهر ريو غراندي، أو تحدثوا عن سيدة كبيرة في باريس. أنصحهم بالكتابة عن أشياء بعيدة كل البعد عن منطقة راحتهم. تخيّل الشخصية/الحدث، ثم اخلقه. لا تكتب أو تحرر على حدثٍ عشته مؤخرًا أو خلال فترة قريبة، ولقد أدهشتني فعالية هذا الأمر دومًا. لقد فكّروا -جميعهم- خارج الصندوق عندما أعطيت لهم الرُخصة ليتخيلوا أشياء خارج وجودهم بالكامل. أظن أنه كان تمرينًا جيدًا لهم، حتى لو انتهى بهم الأمر بكتابة سيرهم الذاتية، على الأقل، صار بإمكانهم أن ينظروا إلى أنفسهم على أنهم غرباء.
من مقابلة مع مجلة نيا آرتس (2014)
احذر من إرهاق نفسك بالعمل
كل الفقرات التي تكون بحاجة إلى إعادة نظر أو مراجعة، أراجعها طالما لدي الاستطاعة. لقد راجعت بعض الفقرات ست مرات أو سبع مرات أو ثلاثين مرّة، لكن هناك خطّ واضح يفصل بين المراجعة ووسواس المُراجعة الذي يدفعك للقلق والاستمرار فيما تفعله حد استهلاك نفسك. من الضروري أن تعرف ما إذا كان لديك ذلك الوسواس، لأنه لا يؤدي إلى الإنجاز قطعًا، وعليك أن تتخلص من كل ما قُمت بهِ في أثناء سَورة هذا الوسواس.
من مقابلة مع إليسا شابل في مجلة باريس ريفيو (1993)
تصالح مع فشلك
بصفتي كاتبة، يكون الفشل مُجرد معلومات. يكون الفشل هنا أمرٌ قمتِ بهِ بطريقة خاطئة في الكِتابة أو أن ما أنجزته كان غير دقيق أو غير واضح. أعترفُ هنا بالفشل وأصلحه، لأني في النهاية أتحدث عن بيانات ومعلومات وعن معرفة الأمور غير الفعّالة. هذا هو دور إعادة الكِتابة والتحرير. الاعتراف بالفشل ضروري وهام جدًا، بعض الناس لا يعترفون.
عندما نُصاب بفشل جسماني، مثل الفشل الكلويّ أو فشل الكبد أو القلب، يتوجب علينا لحظتها القيام بأمر ما، أمر يساعدنا على إصلاح ذلك الفشل، لكنه في الوقت نفسهِ خارج عن قدرتنا نحن المرضى، وهو ما يجعلنا نطلب المساعدة من الآخرين. لكن عندما يكون عِلاج الأمر في متناول يديك، فيجب عليك أن تصغي بانتباه وأن تصيخ السمع لفشلك، بدلًا من الشعور بالحزن وفقدان الثقة بالنفس أو الشعور بالعار. أي شيء غير إعادة المحاولة لا يكون مفيدًا. تخيّل نفسك تعمل في مختبر على كيماويات أو على جرذان، ولكن تجربتك فشلت، ولم تصل إلى النتائج المرجوّة. في هذه الحالة، قطعًا لن تستلم ولن تخرج من المختبر، ولكنك ستقوم بالاطلاع على كامل خطوات التجربة، وستكتشف موطن الفشل فيها، وستصححه. كلما فكرت في الكِتابة على أنها عملية قائمة على المعلومات، يمكنك أن تصير أقرب إلى النجاح.
من مقابلة مع مجلة نيا آرتس (2014)
تعلّم كيف تقرأ وكيف تنتقد أعمالك
يقول الناس: “أنا أكتب لنفسي”، ويبدو الأمر فظيعًا ونرجسيًا، ولكن إلى درجة مُعينة، إذا كنت تعرف كيف تقرأ عملك فإن هذه القدرة بالإضافة إلى الحد الأدنى من الحس النقديّ، يجعلك كاتبًا ومحررًا أفضل. عندما أدرّس الكِتابة الإبداعية، أجدني أتحدث على الدوام حول كيفية قراءة المرء لعملهِ، ولا أتحدث هنا عن الإعجاب بهِ، لأنك كتبته، وإنما أتحدث أن تبتعد عن نصّك وأن تقرأه كما لو أنك تراه للمرة الأولى. بهذه الطريقة، يكون بإمكانك انتقاده، ولا تأخذك الحميّة بالانخراط في قوة وروعة جملك.
من مقابلة مع إليسا شابل في مجلة باريس ريفيو (1993)
اسعَ لتصل إلى القداسة
قد يبدو ما سأقوله الآن متسمًا بالأبهة والغرور، ولكني أعتقد أن الفنان مقدّس، سواء كان رسّامًا أو كاتبًا. للأمر علاقة بالرؤية أو الحكمة لديهِ. يمكنك أن تكون “لا أحد”، وهذا يعطيك قداسة ما أو يجعلك شبيهًا بالإله. أن تكون فنانًا، يعني أن تكون فوق طبيعيّ، وفوق تصوراتنا جميعًا. بكونك فنان، فأنت تأخذ خطوة إلى “فوق”. وطالما أنت “فوق”، حتى لو كنت شخصًا سيئًا، بل وخصوصًا لو كنت شخصًا سيئًا، فسيمكنك أن ترى كيف تتشابك الأشياء، وهو ما يهزّك ويحرّك شيئًا ما في داخلك أو يوضّح لك أمرًا، لم تكن لتعرفه لولا فنّك. أن تكون فنانًا، يعني أن تكون لديك رؤية لما لا يمكنه أن يراه باقي الناس.
من مقابلة في مجلة غرانتا (2017)
ابذل قصارى جهدك لتستغل كل ما لديك الاستغلال الأمثل
لدي روتين كتابة مثالي لم أجربه قبلًا، وهو أن يكون لدي على سبيل المثال تسعة أيام متوالية ومُخصصة للكتابة، وخلالها لا أغادر المنزل أبدًا، ولا استقبل أي اتصال هاتفي. في الوقت نفسهِ، يكون لدي الكثير من المساحة الممتلئة بالطاولات الكبيرة، ولكن ينتهي بي الحال باستغلال هذه المساحة (تشيرُ إلى منطقة مُربعة وصغيرة على منضدتها) أينما كنتُ، ولا يمكنني الخروج منها أبدًا. أتذكر في تلك اللحظة المنضدة الصغيرة التي استخدمتها إيميلي ديكنسون في الكتابة، وأضحك ضحكة مكتومة عندما أفكر فيها. ولكن هذه هي المساحة نفسها المتوفرة لنا كلنا وبغض النظر عن نظام الملفات أو عدد المرات التي تقوم فيها بترتيبها أو التخلّص منها، إلا أن الحياة والمستندات والرسائل والطلبات والدعوات والفواتير تعاود دائمًا الظهور. أنا غير قادرة على الكتابة بانتظام، ولم أكن يومًا قادرة على فعل ذلك، ويعود هذا بالغالب إلى أن دوام عملي من الساعة التاسعة صباحًا وحتى الساعة الخامسة عصرًا. كان لزامًا عليّ أن أكتب إما، على عجلٍ، بين ساعات الدوام تلك أو في وقت نهاية الأسبوع أو قبل الفجر…
حاولت التغلّب على غياب الكتابة بانتظام عبر استبدال الانضباط بالإلحاح، بمعنى أنه، وقتما توفر لدي الإلحاح للكتابة أو الإلحاح لرؤية أمر ما أو فهمه، أو إذا كانت المجاز/الاستعارة قوية بما فيه الكفاية، فإني أترك كل ما أقوم بهِ وأكتب لفترات طويلة من الزمن.
من مقابلة مع إليسا شابل في مجلة باريس ريفيو (1993)
اللغة القمعية لغة ميتة
يمكن إدراك الاستغلال المنهجي للغة من خلال ميل مستخدميها إلى التخلي عن خصائصها الدقيقة والمعقدة والتوليديّة من أجل التهديد والإخضاع. تأثير اللغة القمعية لا يتوقف على وصف أو تمثيل العنف، بل هي عنف بحد ذاتها، ولا يتوقف تأثيرها على وصف حدود المعرفة، بل هي تحدّ المعرفة وتقيّدها. سواء كنت هذه اللغة في حالة غامضة أو كانت لغة مزيفة لإعلام طائش، أو كانت لغة “شرفية” أكاديمية ولكن متكلّسة أو كانت لغة العلوم القائمة على التسليع، أو كانت اللغة الخبيثة لقانون بدون أخلاقيات أو كانت لغة مُصممة لاستبعاد الأقليّات، فإنها تخفي عنصريتها تحت مسمى الأدب، وحينها يجب رفضها وتغييرها وكشفها. تعيش هذه اللغة على الدماء وتستغل نقاط الضعف وتغرس أحذيتها الفاشية تحت غطاء الوطنية أو الاحترام وهي تتحرك بلا هوادة نحو ما تريد قوله وتوجه العقول نحو الحضيض. اللغة الجنسية واللغة العنصرية واللغة الإيمانية، كلها نماذج للغات البوليسية المستخدمة لفرض السيطرة والهيمنة، ولا يمكن لها -اللغات البوليسية- أن تسمح بمعرفة جديدة أو أن تشجع على التبادل المشترك للأفكار…
لا يمكن أبدا للغة أن “تحول دون حدوث” العبودية والإبادة الجماعية والحرب، ولا ينبغي أن نصدق إن بإمكانها فعل ذلك يومًا ما. تكمن قوة اللغة وسحرها في قدرتها على الوصول إلى ما لا يمكن وصفه.
مهما كانت اللغة كبيرة أو ضامرة ومهما كانت تختبئ مِن/تنسف/ترفض التقديس، وسواء كانت تضحك بصوتٍ عالٍ أو تبكي بلا أبجدية، فإن الكلمة المُختارة أو الصمت المُخْتَار أو اللغة المتروكة بلا تدخل، تتجه نحو المعرفة، لا نحو حتفها.
لكن مَن مِنّا لم يسمع عن أدب قد حظر لأنه استفزازي؟ أو أُفقِد مصداقيته لأنه خطير وحساس؟ أو مُحي لأنه بديل؟ وكم عدد الذين تثيرهم وتغضبهم فكرة اللسان/اللغة التي تدمر نفسها؟
من خطِاب فوز موريسون بجائزة نوبل (1993)