المثقف الإسرائيلي والتاريخ اليهودي… عن القوّة والحقيقة

yuval noah harari

نسرين مغربي

كاتبة من فلسطين

بهذه الفقرة، فإن هراري يهز كتفيه عند الحديث عن الاحتلال الإسرائيلي متجاهلاً تبعاتها المروعة وتأثيرها المضني على الشعب الفلسطيني، وكأنه يصاب بتبلد الإحساس ولسان حاله يقول: هذا هو حال الدنيا. وبهذا الصدد يبدو لي وكأن هراري يتأرجح في نقده

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

13/08/2019

تصوير: اسماء الغول

نسرين مغربي

كاتبة من فلسطين

نسرين مغربي

إذا حاول شخص ما لفت انتباهنا إلى دخيلتنا، فإنه يكون كمن يجبرنا على فتل عنقنا على محوره، وسنقاوم ذلك بكل ما أوتينا من قوة.

سيغموند فرويد، رسالة إلى ألبرت آينشتاين، 26 آذار 1929

 

صدر مؤخرا كتاب «21 درساً عن القرن الواحد والعشرين» للمؤرخ الإسرائيلي يوفال نوح هراري، يتناول فيه مختلف المواضيع التي قد تؤرق الإنسان في القرن الواحد والعشرين، منها التحديات التي تواجهها البشرية مع تطور الذكاء الاصطناعي، التغير المناخي، أسلحة الدمار الشامل، الهجرة والإرهاب وغيرها من الموضوعات. ولاحظتُ بعد الاطلاع على الكتاب أن هراري يفرد، في خضم هذه القضايا العامة، مساحة لقضايا “محلية” إن جاز التعبير، كالصراع العربي الإسرائيلي، الديانة اليهودية، دولة إسرائيل وما إلى ذلك. بحيث رأيت في إقحامها رسائل خفية نظراً لما تحمله من تصورات محددة يتبناها المؤرخ ويمكن مناقشتها، بمعنى قبولها أو رفضها. فمثلاً يمكن الاطلاع على رأيه بشأن التمركز الذاتي اليهودي، والذي ينتقده حيث يقول إن اليهود العلمانيين “يعتقدون أن الشعب اليهودي هو البطل الرئيسي في التاريخ، فهو منبع الأخلاق والروحانيات والذكاء لدى الجنس البشري”. ويضيف: “ما ينقص اليهود من ناحية عددية، ومن ناحية تأثير حقيقي يعوّضونه بالكثير من الوقاحة.” ثم يتابع:

“بعد أن نشرت كتابي «العاقل: تاريخ مختصر للجنس البشري» طرح علي الكثير من الإسرائيليين السؤال: لماذا يغفل الكتاب الدور الذي لعبته اليهودية في التاريخ العالمي. ولماذا يفرد العديد من الصفحات للمسيحية والإسلام والبوذية ولا يتطرق إلى اليهودية إلا بعبارات مقتضبة […] وهذا سؤال طبيعي بالنسبة لليهود الإسرائيليين، والذين تربوا منذ نعومة أظفارهم على أن اليهودية هي البطلة الرئيسية في التاريخ البشري. فطلاب المدارس في إسرائيل -حتى وإن كانت مدارس علمانية صرفة- غالبا ما ينهون الصف الثاني عشر دون أن تتكوّن لديهم صورة واضحة عن مجرى التاريخ العالمي. صحيح أنهم يتعلمون عن الإمبراطورية الرومانية وعن الثورة الفرنسية والحرب العالمية الثانية، إلا أن قِطع البازل من المواد التي يتعلمونها لا تتوالف معا لتشكّل رواية متسلسلة. وبدل ذلك فإن الرواية الوحيدة التي يقدمها جهاز التعليم الإسرائيلي لهم تبدأ بالتوراة، تمر بفترة تشييد الهيكل الثاني (عام 516 ق.م.)، ومن ثم تقفز إلى تاريخ اليهود في المنفى وتنتهي بالصهيونية والهولوكوست ودولة إسرائيل، بحيث يظن الكثير من الطلاب أن هذا هو المحور الأساسي لتاريخ الجنس البشري بأكمله. فهم حتى عندما يتعلمون عن الإمبراطورية الرومانية أو الثورة الفرنسية يجدون أن الاهتمام منصب على مسألة كيف تعامل الرومان القدماء مع اليهود، أو ماذا كان الوضع القانوني لليهود إبان الثورة الفرنسية. ومن يتغذى على هذه المواد التاريخية الهزيلة يصعب عليه كثيراً هضم فكرة أن لا أهمية تاريخية كبيرة لليهودية وللشعب اليهودي. في الحقيقة إن الدور الذي لعبته اليهودية في التاريخ العالمي هامشي جداً (وهذا هو السبب الذي جعلني في كتاب «العاقل» لا أولي لها اهتماماً كبيراً). فبخلاف الديانات العالمية كالمسيحية والإسلام والبوذية، الديانة اليهودية كانت ولا زالت ديانة قبَلية منطوية على نفسها، لا تكترث إلا بمصير شعب صغير جداً ومصير أرض متناهية الصغر، لكنها لا تعير أي اهتمام جدي لمعظم ما يدور في الكرة الأرضية.”

ويواصل انتقاداته للتمركز الذاتي لدى الشعب اليهودي قائلاً:

“لا شك أن الشعب اليهودي هو شعب مميز لديه محمول تاريخي مشوق (رغم أنه ينبغي القول أن هذه المقولة تنطبق على غالبية الشعوب). ولا شك أن التراث اليهودي حافل بالأفكار العميقة والقيم السامية (كما أنه مليء بالكثير من الترهات والنظرات العنصرية). ولا شك أنه كانت للشعب اليهودي -نسبة لتعداده- أهمية استثنائية خلال الألفي عام الأخيرين، لكن عند أخذ تاريخ البشرية كله بعين الاعتبار، منذ أن تطور الإنسان العاقل (Homo Sapiens) من شرق إفريقيا، يتضح لنا أن تأثير اليهودية يكاد لا يذكر. فقد استوطن البشر في آسيا وفي أمريكا وأستراليا، اعتمدوا الزراعة، بنوا المدن الأولى واخترعوا الكتابة والنقود قبل آلاف السنين من ظهور أول يهودي.”

ويعدد المظاهر الحضارية التي لم يسهم فيها اليهود:

“الجماعات اليهودية التي تعمقت في دراسة التلمود، وانتشرت في أجزاء كبيرة من العالم لم تلعب أي دور رئيسي في بناء الإمبراطورية الصينية، ولا في رحلات الاستكشاف الجغرافية في بدايات العصر الحديث، كما أنها لم تسهم في وضع أسس الديمقراطية أو الثورة الصناعية. وقام غير اليهود باختراع النقود، الجامعة، البرلمان، البنك، البوصلة، مسحوق البارود، آلة الطباعة والمحرك البخاري.”

وبعد أن يفنّد هراري تميّز أو إسهام الشعب اليهودي في الجانب المادي يتطرق إلى الجانب الروحاني قائلاً:

“الكثير من القوانين الواردة في التوراة عبارة عن قوانين كانت شائعة في بلاد ما بين النهرين وفي مصر وأرض كنعان قبل مئات وآلاف السنين من تأسيس مملكتي إسرائيل ويهودا. وإذا كانت الديانة اليهودية التوراتية قد أعطت تفسيراً خاصاً لهذه القوانين فإن خصوصيتها تكمن في تحويلها من قوانين أخلاقية عامة إلى قوانين قبَلية موجهة (من ناحية منفعية) إلى أبناء الشعب اليهودي وحده. الأخلاقيات اليهودية تشكلت في بدايات تشكل الأخلاقيات القبلية، وبقيت على هذا المنوال بنحو لافت إلى يومنا هذا.”

ومن ثم يصل إلى وقتنا الراهن ويوجّه انتقادات لدولة إسرائيل والمصير الذي آلت إليه الأخلاقيات اليهودية:

“كما أن إدارة دولة اليهود الحديثة لشؤونها لا تشير إلى موهبة يهودية خاصة في الجانب الأخلاقي (…) صحيح أن دولة إسرائيل قد حققت إنجازات في العديد من المجالات -بدءاً بأنابيب التنقيط ووصولاً إلى الحرب الإلكترونية- ألا أننا في كل ما يتعلق بالكمال الأخلاقي والروحاني لا نزال نجر أذيالنا. هل نريد مثلاً أن تتعلم دول العالم -كالصين وروسيا، الدانمارك وهولندا- من إدارة دولة إسرائيل لشؤون المناطق (المحتلة عام 67)، وكيفية التعامل مع الحدود الدولية والقانون الدولي، ومعاملة أبناء الشعب الآخر؟”

وهذا ليس الانتقاد الوحيد الموجّه لدولة إسرائيل فقد انتقد هراري أيضاً الحرب الإلكترونية التي تشنها دولة إسرائيل على الفلسطينيين، حيث يقول في سياق حديثه عن تحوّل العالم إلى “دكتاتورية رقمية”:

“هناك احتمال غير ضئيل في أن لا يكون الإسهام الأكبر الذي ستقدمه إسرائيل للبشرية خلال العقود القادمة في مجال أنابيب التنقيط أو البندورة الصغيرة الحجم، إنما في مجال تقنيات التجسس. إن ما يعيشه الفلسطينيون اليوم في المناطق (المحتلة عام 67) قد يكون مجرد مقدمة متواضعة لما قد تعيشه مليارات البشر في جميع أنحاء العالم. هل 1967+8200=1984؟”

والمقصود بـ 1984 هو رواية جورج أورويل الديستوبية الشهيرة، والتي فيها يتم التجسس على المواطنين من قبل أجهزة السلطة. أما 8200 فهي وحدة الاستخبارات في الجيش الإسرائيلي المسؤولة عن التجسس الإلكتروني، والـ 1967 كناية عن المناطق التي احتلتها إسرائيل عام 67. بمعنى هل العالم الديستوبي الذي صوّره أورويل في روايته قابل للتحقق عما قريب، تماماً كما يتحقق على أرض الواقع في المناطق المحتلة عام 67 من قبل وحدة التجسس الإلكتروني في الجيش الإسرائيلي.

لكن رغم هذه الانتقادات وغيرها إلا أنها بمجملها لا تعدو النّهر مع عض الشفة وقول كلمة “عيب” لكن ببرودة، فنقده أشبه بضريبة كلامية، وأحيانا لا يخلو من مواربة وتبطين. ففي حين نرى شلومو ساند، في كتابه «متى وكيف توقفت عن أن أكون يهوديا»، مثلاً يعبّر عن سخطه الشديد من التصرفات الإسرائيلية خاصة التعامل مع الفلسطينيين بقوله: “أنا واعٍ تماماً أني أعيش في أحد المجتمعات الأكثر عنصرية في العالم الغربي. طبعاً العنصرية تكاد تكون موجودة في كل مكان، لكنها في إسرائيل متجسدة في القوانين، ويتم تعلمها في جهاز التعليم، كما أنها شائعة في وسائل الإعلام. والأسوأ من ذلك كله أن العنصريين فيها لا يدركون أنهم كذلك، ولا يشعرون بأي واجب في الاعتذار عنها”، فإن انتقاد هراري فاتر، بل وحين تسنح له الفرصة يجد الأعذار لسلوك إسرائيل ويرى أنه عادي، لا تشوبه شائبة كما أنه مشابه لسلوك الآخرين (ومن ضمنهم الحيوانات، هل هذه زلة “قلم” فرويدية؟)، حيث يقول:

“لا أساس من الصحة للادعاءات التي يروّج لها اليمين الإسرائيلي، والتي بموجبها يعتبر إسرائيل الدولة الأكثر أخلاقية في العالم. كما أن اليسار الإسرائيلي يبالغ عندما يصوّر إسرائيل على أنها سيئة بوجه خاص. الاحتلال الإسرائيلي في المناطق (المحتلة عام 67) ليس شراً استثنائياً، ولا سابقة له في التاريخ. فهو عادي جدا (…). لقد وظف البشر طاقاتهم لزيادة رقعة مناطق نفوذهم على مدار التاريخ البشري، ومارسوا العنف على الغرباء. فالآشوريون والبابليون، الصليبيون والسلاجقة، الأزتيك وأبناء الزولو كانوا أكثر نجاعة وأشد قسوة من مجلس مستوطنات الضفة وغزة ومن فتيان التلال، في عزمهم على ضم دونم هنا وأخذ معزى هناك. وهذه أهم ميزة من الميزات الشائعة لدى مجموعات الإنسان العاقل، بل إنه حتى قطعان الذئاب وقرود الشمبانزي يسعون لزيادة مناطق نفوذهم على حساب جيرانهم. خلاصة القول: إن الديانة اليهودية ليست ديانة فريدة من نوعها، وكذلك دولة إسرائيل ليست دولة ذات خصوصية، لا لجهة السلب ولا لجهة الإيجاب.”

بهذه الفقرة، فإن هراري يهز كتفيه عند الحديث عن الاحتلال الإسرائيلي متجاهلاً تبعاتها المروعة وتأثيرها المضني على الشعب الفلسطيني، وكأنه يصاب بتبلد الإحساس ولسان حاله يقول: هذا هو حال الدنيا. وبهذا الصدد يبدو لي وكأن هراري يتأرجح في نقده، فهو حتى عند الإشارة إلى الأراضي المحتلة عام 67 يستعمل طيفاً من التسميات والتي -بطبيعة الحال- تحمل مدلولاً وموقفاً سياسياً أيضاً. فتارة يسميها يهودا والسامرة، وطوراً الضفة الغربية، وفي أحيان أخرى يستعمل كلمة “المناطق” المبهمة والتي هي اختصار لعبارة “المناطق المحتلة عام 67” كما أسلفت. صحيح أن كتابه لا يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي إلا أنه يوظف أحداثاً ويقدم تحليلات مستقاة من هذا الصراع لشرح أفكار عامة. اللافت أنه يعبّر عن هذا التأرجح، وكأنه يبتعد عن نفسه قليلاً ليسبر أغوارها، حين يقول: “يواجه المثقفون في جميع الثقافات التخبط الدائم: هل يعملون في خدمة القوة أم الحقيقة؟ هل مهمتهم تبني ورعاية قصص وأساطير توحّد أفراد مجتمعهم، وتحافظ على التناغم داخله، أم كشف الحقيقة مهما كان الثمن؟ شبكات ذات نفوذ كبير من المثقفين (…) فضّلت الوحدة والتناغم الاجتماعي على التمسك بالحقيقة دون هوادة. وهذا هو سبب قوة هذه الشبكات.”

وقد جاءت أقواله الآنفة بعد أن ناقش مفهومي القوة والحقيقة بقوله:

“الحقيقة والقوة ليستا شريكتين مثاليتين، فعاجلاً أم آجلاً يجب أن تفترق دروبهما. إذا أردنا القوة سيتوجب علينا في وقت من الأوقات نشر الأوهام، وإذا توخينا معرفة الحقيقة عن العالم دون أساطير سنضطر في مرحلة ما للتخلي عن القوة. سنضطر للاعتراف بأمور تجعل من الصعب علينا كسب الحلفاء وإلهام المؤيدين. بل وأكثر من ذلك سنضطر للاعتراف بحقائق غير لطيفة، تتعلق بنا وبمصادر قوتنا وبالأسباب التي تدفعنا للحصول على المزيد من القوة. لا شيء فوق العادة في هذه الفجوة بين الحقيقة والقوة. كل ما علينا فعله للتحقق منها هو أن نتحدث مع أمريكي أبيض عن العرق، ومع إسرائيلي عادي عن الاحتلال، أو مع رجل عادي عن النظام الأبوي.”

هذه العبارات تنسجم مع مقولته بأن لكل ديانة وإيديولوجية ومعتقد يوجد ظل، وأضيف هنا أن لكل إنسان ظلاً أيضاً، ومن الجدير به أن يتحرى ظله الشخصي هو الآخر. طبعاً هراري ليس إسرائيلياً عادياً، خاصة عندما يتعلق الأمر بالاحتلال، فهو مثقف موسوعي ويتمتع بشهرة عالمية ويتابعه الملايين من القراء. صحيح أنه “نظريا” يعتبر القومية مجرد قصة مختلَقة وليست حقيقة موضوعية، لكنه يورد ما يشي بتأرجحه بين ثنائية القوة والحقيقة حين يقول -بين أمور أخرى- إنه من الصعب على الإنسان الوقوف موقف المتشكك تجاه القصص المتعلقة بالقومية (وسائر القصص التي اختلقها البشر كالديانات مثلاً) وأحد أسباب ذلك أنه “ليست هويتنا الشخصية وحدها مبنية على هذه القصص، إنما أيضاً المؤسسات الجمعية مبنية عليها، لذك من المخيف التشكيك بصحتها. فالكثير من المجتمعات تنبذ أو تضطهد كل من يجرؤ على إظهار الشك الزائد تجاهها. على الإنسان أن يتمتع بصلابة لكي يشكك في أركان النظام الاجتماعي، لأنه إذا كانت القصص مختلَقة وغير صحيحة، فإن العالم بأكمله سيغدو بلا منطق. وقوانين الدولة -القواعد الاجتماعية والترتيبات الاقتصادية- برمتها قد تصبح آيلة للسقوط.”

والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هل ولاء هراري كمثقف إسرائيلي هو للقوة أم للحقيقة؟

النقطة الأخيرة التي أود التوقف عندها ربما تكون نابعة من حساسية فلسطينية أقيس بها الأمور. فتحت عنوان “صناعة الإيمان” يتحدث هراري عن أهمية القرابين في حياة المؤمنين ويقول:

“القرابين لا تقوّي إيماننا بقصتنا فحسب، بل كثيراً ما تكون بديلاً عن التزامات أخرى تفرضها علينا هذه القصة. معظم القصص الكبرى التي يختلقها البشر تقدس مثاليات لا يستطيع غالبيتهم تطبيقها على أرض الواقع (…) وبما أنهم غير قادرين على تطبيق المثال فانهم يتجهون إلى القرابين كبديل. وهكذا يمكن لهندوسي أن يتهرب من دفع الضرائب، وأن يتردد على بيوت الدعارة، ويسيء معاملة أبويه المسنين، لكنه سيقنع نفسه أنه إنسان تقي لأنه يؤيد هدم مسجد في مدينة إيوديا (…) بل وسيتبرع بآلاف الروبيات لبناء معبد هندوسي مكان المسجد المهدد بالهدم، لعبادة الإله راما. وكما في العصور الغابرة، في القرن الواحد والعشرين يميل البشر الذين يبحثون عن معنى إلى الاكتفاء بمجموعة من القرابين في نهاية المطاف.”

تطرّق هراري إلى قضية هدم مسجد وبناء معبد مكانه يجعلني أميل إلى الاعتقاد بأن خلفية اهتمامه بهذا الموضوع هي دعوة بعض المتطرفين اليهود في إسرائيل إلى هدم المسجد الأقصى (تحديدا قبة الصخرة) وبناء الهيكل الثالث مكانه، وهي قضية مطروحة في إسرائيل ويتوجس منها الفلسطينيون. لا أريد الدخول في وعي أو لاوعي هراري، لكن وجه الشبه بين الحالتين واضح. هل يمكن اشتمام رائحة نقد مبطن لهذه الدعوات؟ يبدو لي أن هراري يهجس بالموضوع لكن هناك شيء بداخله يمنعه من التطرق إليه بطريقة مباشرة، لذلك فإنه يسلك طريقاً ملتوية للحديث عنه. وقد شخص فرويد ما يشبه هذه الحالة عند حديثه عما أسماه “ذكريات التغطية”. فأحياناً تكون لدى الإنسان ذكرى معينة يسبب استحضارها في الوعي حرجاً بفعل صراع نفسي يعتمل في صدره، فيستبدلها دون وعي منه بذكرى أخرى أخف وطأة منها، شرط وجود رابط بينهما من باب خفي. والصيغة الشعبية لهذه الحالة هي “الحكي إلك يا جارة، إسمعي يا كنّة”. وبرأيي وظف هراري عملية التغطية واستبدل الهيكل الثالث بالمعبد الهندوسي (بشكل واع أو غير واع لا يهم) نتيجة لعدم استقراره بشأن الصراع ما بين الحقيقة والقوة بدخيلته. وأكرر السؤال هنا: هل يميل إلى تبني ما هو سائد وبالتالي الانسجام مع مجتمعه صاحب القوة، أم أن الحقيقة ديدنه ويتمسك بها مهما كلف الأمر؟ وعلى ذكر فرويد فقد وقف موقفاً صلباً في مسيرة حياته كمثقف تشبث بالحقيقة بغض النظر عن تكلفة هذا الأمر، حيث يقول في إحدى رسائله مبيّنا موقفه: “أستطيع التكيّف مع أي واقع بغض النظر عن ماهيته، وبمقدوري تحمّل عدم اليقين المترتب على هذا الواقع، والرضى بفقدان الأمان الشخصي. إذا فقدت تشبثي بالحقيقة سأقع فريسة للجبن البشري، وستكون النتيجة تمثيلية ركيكة وغير مشرّفة.”

الكاتب: نسرين مغربي

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع