عدا عن كونه من الأفلام التي أثارت الاهتمام في تظاهرة اسبوع نقاد مهرجان “كان” في فرنسا هذا العام، وكذلك الصحافة، فإن فيلم «معجزة القديس المجهول»، للمخرج المغربي علاء الدين الجم ينطوي على مجموعة من الخواص السينمائية التي تجعله عملاً فنباً يستحق التوقف عند مميزاته، والتأمل فيها نقدياً. من هذه الخواص السينمائية التي تستحق الإشارة إليها: الحبكة، العناصر الكوميدية المعاصرة، موضوعة الفيلم، والبيئة الثقافية التي اختارها، وأخيراً الأسلوب السردي الفيلمي.
حقيبة مطمورة تحت التراب تصبح مزاراً شريفاً
الحبكة الأساسية التي ينطلق منها الفيلم، لماحة. قادرة على دمج عقدة كوميدية بموضوعة جدية، وهي تروى بوضوح عبر المشاهد الثلاثة الأولى في الفيلم. في المشهد الأول يظهر أمين (أداء يونس بواب) وهو يقود سيارة وحيداً في صحراء خالية، هو هارب من ملاحقيه، على عجل يوقف السيارة ويصعد تلة رملية عالية، وهو يحمل حقيبة أموال مسروقة. عند أعلى التلة، يحفر لطمر الحقيبة، ويموه الحفرة على شكل قبر، وحين يهبط على عجل يصل ملاحقوه من الشرطة الذين يكبلون يديه ويقودوه في سيارتهم، في المشهد الثاني مباشرةً، ندرك أن سنوات قد مرت أمضى فيها أمين محكومية عقوبة السرقة، وها هو يخرج من باب السجن ليستقل سيارة تاكسي تقله مباشرة إلى الصحراء، ليسترجع حقيبة المال المطمورة. في المشهد الثالث، يصل أمين إلى التلة الرملية التي دفن فيها الحقيبة، ليجد فوقها بناء أبيض يزوره الناس، هو مزار لقديس مجهول. لقد تحول القبر الذي حفره السارق أمين لإخفاء حقيبة المال المسروقة، وحسب المعتقد الشعبي، إلى قبر لقديس مجهول، ولكنه أهالي المنطقة ينسبون إليه قدرات عجائبية وإشفائية. إذاً، القبر الذي أريد تمويه وإخفاء حقيبة تحته يتحول إلى مزار يقصده المرضى، وطالبي الشفاعات، والسياح، ولقد تشكلت من حوله منطقة تجمع بشري من السكان المهتمين بالتقرب من هذا القديس المجهول، الشفيع القادر حسب معتقداتهم. الحبكة إذاً، ستضع السارق أمام جماعة تبحث عن الإيمان، وعن المعتقدات، لكنها مستلبة لما هو غير حقيقي.
من بعد هذه الحبكة، نتابع حكايات متعددة عن شخصيات من قاطني التجمع المحيط بمزار القديس المجهول، شخصيات من البلدة التي تعتقد بالولي الصالح الذي يجمعهم رغم كونه مجهول الهوية. من شخصيات البلدة: الحلاق، موظف استقبال غرف النوم لزوار المكان، ممرض للقربة، وطبيب أرسل حديثاً إلى هذه الناحية الصحراوية، ومزارع صلب مصرٌ على إمكانية ظهور المزروعات في منطقة قاحلة بشكل تام. هي مشاهد عن هذه الشخصيات، تشكل بتضافرها حكاية فسيفسائية عن المكان، يقدمها الفيلم سردياً، وإخراجياً بخيار فني واضح ومحدد، كوميديا معاصرة تجمع السخرية، بالمفارقة، بالعبث. هذا النوع الفني المقصود والواعي، والدقيق في طريقة تحقيقه سواء عند كتابة السيناريو أو عند إخراجه، تمنح الفيلم هوية سينمائية ما بعد حداثية، أو تدخل إلى سلسلة أفلام برزت فيها الكوميديا المعاصرة، وأصبح صناعها أعلاماً فيما أضافوه لفن الكوميدي الراهن في السينما والأدب والمسرح.
إسهامات مميزة في الكوميديا المعاصرة
في مقاله عن فيلم «إن شئت كما في السماء» للمخرج إيليا سليمان، والذي شارك أيضاً في مهرجان كان في المسابقة الرسمية، يصف الناقد سليم البيك خصائص الكوميديا في أفلام هذا المخرج المتميز، أنها مزيج من أسلوب الأمريكي بسترن كيتن (1859 – 1966)، والمخرج الفنلندي المعاصر آكي كياروسماكي، موضحاً أثر أدباء القرن العشرين مثل التشيكي فرانز كافكا (1883 – 1924)، والمسرحي الإيرلندي صامويل بيكيت (1906 – 1989) في تكوين ملامح الكوميديا المعاصرة أو ما بعد الحداثية. ويوضح الناقد سليم البيك أن المخرج إيليا سليمان، وعبر أفلامه الأربعة، شكل نوعاً متميزاً من الكوميديا المعاصرة التي تجمع تأثيرات هؤلاء المبدعين، وتمزج بين الكوميديا والملانكوليا والعبثية والعدمية.
أما مدير تظاهرة أسبوع النقاد في مهرجان “كان”، وحينما قدم فيلم «معجزة القديس المجهول» في سينما ميتروبوليس في بيروت هذا العام، قال عن الفيلم: “هو كوميديا البورلسك عند بسترن كيتن، مع الكوميديا الخاصة والرفيعة عند المخرج روي أندرسن”. كذلك كتبت الناقدة في مجلة اللوموند كلير فابر أن فيلم «معجزة القديس المجهول» يذكر بأسلوب المخرج الفنلندي آكي كياروسماكي.
إذاً، هي تجارب مبدعين وفنانين تشكل مراجع لقراءة وفهم مزايا الكوميديا الإبداعية المعاصرة، وربما أمكن القول ما بعد الحداثية، مع خصوصية لكل تجربة عن الأخرى بكامل الوضوح والاختلاف، إلا أن هناك مزايا مشتركة جعلتهم كمراجع أساسية في فهم التجديد في مجال الكوميديا: بسترن كيتن، آكي كياروسماكي، روي أندرسن، وإيليا سليمان. إن خيار علاء الدين الجم الإستلهام من هذه التجارب السينمائية المتميزة في فيلمه الأول برهن على خصوصية الذائقة، ورغبة تقديم أطروحة تحيل إلى كوميديا نوعية حاول الفيلم أن يقدمها.
من الثابت أن الكوميديا في تاريخ المسرح، تروي عن الطبقات الاجتماعية المتواضعة، وعن واقع الناس اليومي والمعاش، وهذا ما يتحقق في فيلم «معجزة القديس المجهول»، حيث المكان من الريف الجنوبي لصحراء المغرب، لكن المخرج يبين أنه مكان شرطي، لا اسم أو مكان جغرافي محدد، هو مجتمع معزول في صحراء شاسعة، هي جماعة بشرية تتشارك مكان على هامش الوجود.
عن كوميديا الأفكار، كتب باتريس بافي في «معجم المسرح»، 2009: “كوميديا الأفكار: هي مسرحية تناقش فيها بطريقة ظريفة أو جدية أنظمة أفكار وفلسفات عن الحياة. من أمثلتها في تاريخ المسرح: برنارد شو، أوسكار وايلد، جيرودو، وسارتر”. لا يبلغ «معجزة القديس المجهول» حد انتقاد منظومة أفكار أو معتقدات، لكنه تضمن في حكاياته احتمالية التهكم على المعتقدات الشعبية التي تبنى على تفسيرات غيبية، يقع الإيمان بها بسبب قصور المعرفة لدى الجماعة. لكن يجب الانتباه، أن الفيلم لا ينحو هذه الغاية، فهو لا يلتزم نقد الثقافة الشعبية أو المعتقدات الخرافية، بل مجرد يعرضها على الشاشة كمشاهد حكايات، تدفع إلى الابتسام من المفارقات المنقوصة، التي تتأسس عليها بعض المعتقدات الشعبية. وهنا ننتقل بحذر لتحديد موضوعة هذا الفيلم.
انتقاد الخرافة الشعبية، أم الحاجة لأسطورة مؤسسة
في التقديم الفرنسي للفيلم في مهرجان “كان”، وفي عدد من المقالات النقدية، تمت قراءة الفيلم على أنه محاولة في نقد الخرافات الشعبية، الإيمان الغيبي، كتب في بروشور الفيلم في مهرجان “كان”: “فيلم كوميدي يعالج مسألة توظيف الدين في التحكم بالناس”، لكن هذه القراءة تفرض على الفيلم مقولة فكرية لا يحملها. فالسيناريو يستعرض حكايات ثقافة ريفية غيبية كأنها تراث للمنطقة التي يتناولها ويبتكرها الفيلم، ولا يحمل في معالجته أي موقف نقدي تحليلي لها.
وللتأكيد على ذلك، نستشهد بما قاله بوضوح المخرج وهو كاتب النص، في لقاء مصور معه ومنشور عبر الإنترنت، يقول علاء الدين الجم: “الفيلم عن الحاجة للإيمان بالمعتقدات عند أي جماعة، حتى الوهم حين الإصرار على الإيمان به يصبح واقعاً أو على الأقل يؤثر فيه”، ويتابع: “أطروحة الفيلم هي أننا ودون الإيمان بشيء يجمعنا، نتحول إلى مجموعة من الأفراد المنعزلين، الذين يتشاركون فقط المكان الجغرافي. لابد من اعتقاد تؤسس عليه الجماعة معتقداتها، لابد من حكاية أولية، إيمان أولي يجعل من الأفراد المتفرقين جماعة”.
هذا الرأي الواضح من المخرج مناقض تماماً لكل التأويلات التي قرأها القائمون على مهرجان “كان” والصحافة الفرنسية والعربية في الفيلم، بكونه انتقاداً للدين أو المعتقدات الماورائية، بل بالعكس، يعتقد علاء الدين الجم أن أي جماعة بشرية تحتاج بشكل حتمي لحكاية، لخرافة، لأسطورة مؤسسة، ويعتبر فيلمه في إطار المحاولات الرامية لإثبات هذه الرؤية، من خلال تناول حياة هذه الجماعة البشرية، المعزولة في منطقة صحراوية قاحلة.
لو أن علاء الدين الجم ضمّن فيلمه، على مستوى التأليف والإخراج، نقداً للمعتقدات الشعبية التي صور حكاياتها، أو دفع بالكوميديا لتكون تعرية لثقافة البيئة المستلبة بالغيبيات، لكان فيلمه انتهج على الأقل مسيرة أعمال فنية كبرى، استعملت الكوميديا لتمنح المتلقي منظوراً نقدياً يختبر من خلاله المعتقدات الخرافية، الدينية، والإيمان الشعبي بالماورائيات، نذكر منها فيلم «سمعان العمودي» (1965)، و «درب التبانة» (1966) وكلاهما للوي بونويل، أو رواية «آيات شيطانية» (1988) لسلمان رشدي، والمحجوبة عن المعرفة العربية بتجريم ترجمتها، وهي كلها أعمال فنية شكلت تجديداً على مستوى التقنيات الفنية، بمقدار ما حملت ثقلاً فكرياً على مستوى الموضوعة، أي التسليم الشعبي بالإيمان بالماورائيات.
العبث والعدم، من المدن الأوروبية إلى الصحراء العربية
تبقى المقاربة الجديدة التي يقدمها الفيلم، هي في إثبات إمكانية تطبيق عناصر من الكوميديا النوعية المعاصرة على بيئة الصحراء. المقصود أن المخرج يتمكن من تحقيق عناصر وجماليات الكوميديا المعاصرة على الثقافة الريفية، وعلى البيئة الصحراوية المغربية، وبالتالي على الثقافة الريفية والصحراوية العربية كاملةً. فليس الحديث هنا على الإنتاجات الدرامية والمسلسلات التلفزيونية العديدة التي تنتج كوميديا عن البيئة الريفية المصرية مثلاً كالصعيد المصري، الريف السوري، أو البداوة الأردنية. لأن الكوميديا التي يقترحها الفيلم على الصحراء المغربية، هي كوميديا نشأت مع نظريات وجماليات مستمدة من المدن الأوروبية.
مثلاً، أطلق النقاد على أفلام روي أندرسن وصف كوميديا العبث السويدي، أو الغروتسك الموجود في المدن السويدية. يمكن استعمال التوصيف نفسه في تحديد العناصر الكوميدية التي استنبطها فيلم «معجزة القديس المجهول« من الصحراء، وهي الغرق في اللاجدوى، الزمن الممتد، إيقاع الحوارات البطيء والقليل التفاعلية بين المتحدثيّن، يوميات السكان المتكررة وجمود تعابيرهم وانفعالاتهم، حتى يمكن القول بأنه محاولة نادرة لجعل الصحراء مكاناً ملهماً لنظريات وجماليات العبث واللامعقول. غروتسك صحراوي عربي.
حكاية انتظار المطر في الصحراء، من الحماقة إلى النبوءة
أخيراً، لابد من التطرق للأسلوب السردي الذي اعتمده سيناريو الفيلم، وهو كذلك يقارب الأسلوب السردي في «ثلاثية الحياة» للمخرج روي أندرسن التي حققها بين الأعوام 2000 و 2014. لم يبتكر أندرسن هذا الأسلوب من السرد السينمائي، لكنه كرسه كأسلوب يميز ثلاثيته الفيلمية، هو سرد مبني على مستويين: المستوى الأول (المشهد) : يعتمد المشهد كوحدة سردية تضم بداية ونهاية ومقولة مستقلة/متكاملة. من ثم يأتي المستوى الثاني (الحكاية): التي تتشكل من تسلسل مشاهد، بداية اعتقدها المشاهد مستقلة /متكاملة، لتظهر بأنها فسيفساء لحكاية واحدة، على حد تعبير المخرج. نلمس ذلك بوضوح في حكاية الصحراوي العنيد الذي يمضي كامل حياته في انتظار مطر لا بشائر على احتمال هطوله.
منذ سنوات غابرة لم تعرف المنطقة القاحلة الجافة التي يحاول أبو إبراهيم زراعتها هطول أية أمطار. أجيال تتالى على تلك المنطقة دون أن تشهد قطرة مطر واحدة فوق الأرض التي تحولت أخاديد من تشققات قاحلة على مد النظر. كلما مر مشهد من حكاية أبو إبراهيم في الفيلم، تأكد لنا أنه أحمق، عنيد، واثق من احتمال هطول المطر في منطقة لم تعبرها غيمة واحدة طوال سنوات، أمضاها أبو إبراهيم تحت سماء الصحراء منصتاً إلى نشرات الأخبار عبر الراديو، التي بدورها لم تذكر المنطقة قبلاً قط. يمل أهالي المنطقة طباع أبو إبراهيم، ومع السنوات يهاجر السكان من المنطقة العائلة تلو الأخرى، لم يبق منهم من يشارك أبو إبراهيم صلاة الاستقصاء العبثية، التي لن يجد من يشاركه إياها إلا ابنه إبراهيم الذي غرق في الغضب والثورة على جنون والده القاسي. تؤدي جميع مشاهد حياة أبو إبراهيم في الفيلم إلى مقولة “جنون الانتظار غير المبني على دلائل منطقية وعقلية، مهما كان الإيمان الداخلي بها قوياً” ويموت أبو إبراهيم كأخرق منعزل، يحاول الجميع تجنبه.
لكن حكاية أبو إبراهيم تتابع مقولتها بطريقة مختلفة بعد موته، بعد أن يحفر قبره ويدفن في الأرض التي زرعها طيلة عمره بلا جدوى، ترعد السماء، وتهطل الأمطار. الرجل المجنون العنيد الذي كان مدعاة للاستهزاء والنفور في الجزء الأكبر من الحكاية، يتحول إلى ولي مقدس.
نشعر أمام فيلم «معجزة القديس المجهول» أننا أمام محاولة حددت موضوعتها بدقة، واختارت أسلوبية مستلهمة من نماذج سينمائية متميزة. فأن تكون الخيارات الفنية والأسلوبية الإخراجية، خيارات واعية لهذه الدرجة في الفيلم الأول لصانعه، فهذا يبشر أن التميز والنجاح يبقى رهن التجريب والمثابرة في مستقبل صانع هذا الفيلم.
www.youtube.com/watch?v=b5doRU9tQ78